إذا كنت متوجهًا في رحلة بحرية، فلمن ستعطي مسئولية قيادة السفينة؟ لشخص يعرف جيدًا قواعد ومتطلبات الإبحار؟ أم لأي رجل كبير في السن؟

في كتابه «الجمهورية» نقل «أفلاطون» تشاؤم أستاذه «سقراط» من الديمقراطية، حيث رأى أن التصويت في الانتخابات مهارة تحتاج لتدريب وليست حدسًا، بالتالي، فالسماح للمواطنين بالمشاركة في اتخاذ قرار مثل اختيار الحاكم أمر غير مسئول، مثل تكليفهم بمهمة الإبحار أثناء عاصفة قوية. 

على مدى قرون، كانت هذه الفكرة بحد ذاتها محل جدال دائم، هل تعني الديمقراطية بالفعل أن يتشارك الجميع في اتخاذ قرارات مصيرية؟ أم أن هناك سمات معينة يجب أن تتوافر في شخصية مُتخذ القرار؟ 

الكرة للجماهير 

دعك من أفلاطون وسقراط، ودعنا ننحِّ الديمقراطية جانبًا. في كرة القدم نمتلك قانونًا واحدًا يعترف به الجميع؛ الكرة للجمهور، الذي يسعى الجميع لإرضائه، حتى إن كانت نتيجة هذا السعي تغيير قواعد اللعبة، بل أحيانًا تحويلها لرياضة أخرى من الأساس. 

أفضل الأندية، أفضل اللاعبين، كل أسبوع.
شعار دوري السوبر الأوروبي

في الـ18 من أبريل/ نيسان عام 2021 أُعلن عن مقترح لإقامة دوري السوبر الأوروبي لكرة القدم، وهو عبارة عن دوري يضم أفضل 12 ناديًا أوروبيًّا، إضافة لعدد من الأندية الأخرى التي تشارك بصفة متغيرة، تتنافس بشكل أسبوعي. وكالعادة، كان الهدف المعلن لهذا المقترح هو ضمان المتعة للجماهير حول العالم. 

حسب الإسباني «فلورنتينو بيريز»، رئيس نادي ريال مدريد، والشخص الذي تصدر المشهد وقتئذٍ، جاء مثل هذا القرار كمحاولة للتكيُّف مع المتغيرات التي طرأت على اللعبة الشعبية في العالم، حيث زعم أن حوالي 40% من مشجعي كرة القدم حول العالم أصبحوا لا يكترثون لأمر المباريات، التي باتت مملة -حسب زعمه- بالتالي كان لزامًا عليه، باعتباره رئيسًا لأحد أعرق الأندية الأوروبية، التفكير في حل لجعل كرة القدم أكثر جاذبية. 

بغض النظر عن نوايا «بيريز» وشركاه الحقيقية، تبدو الفكرة جذابة بالفعل، لكن المفاجئ كان رفض شريحة عريضة من جماهير كرة القدم لمقترح «السوبر ليج»، إيمانًا منهم بضرورة إعلاء قيمة المنافسة الرياضية فوق جشع ملاك الأندية. 

في الواقع، لا نعلم حجم تأثير هذا الرفض على قرارات الأندية، خاصة الإنجليزية منها، بالانسحاب من هذه المسابقة المقترحة، لكننا نعلم تمامًا أن الجماهير تمتلك ذلك الهوس بالتحكُّم في قرارات الكيانات التي تشجعها، باعتبارهم الممول الحقيقي للعبة، ولاعتقادهم الراسخ بأن هذه الكيانات ما هي إلا امتداد لهم، لذا، قد يبحثون بين الحين والآخر عن هذا الشعور بالتحكُّم في اتخاذ القرارات، ولو بشكل صوري. 

وظيفة الأحلام 

كمشجع معاصر لكرة القدم، أو الرياضة عمومًا، ما هي وظيفة أحلامك؟ يخبرنا مجموعة من الباحثين عبر ورقة بحثية نُشرت عام 2013 بعنوان: «مشاركة المشجعين في صنع القرار بالفرق المحترفة»، أن العصر الحالي شهد ارتفاعًا ملحوظًا في شريحة مستهلكي ألعاب الفيديو و«الفانتازي»، الذين يتمتعون بمحاكاة تجربة اتخاذ القرار. 

أعتقد أنه إذا سألت المشجعين أين يرون أنفسهم بعد ثلاث إلى خمس سنوات من الآن، فالإجابة ستكون داخل دائرة صنع القرار. يريدون أن يروا أنفسهم يتواصلون ويتعاونون مع المدربين واللاعبين، عبر أي وسيلة تضمن لهم  أن يكونوا جزءًا من تلك التجربة من مقاعدهم.
إيريك فيشر، صحفي مختص بأعمال الرياضة. 

في ألعاب الفيديو كمثال، حجم تدخُّل اللاعب في تفاصيل الفريق يتخطى لعب المباريات وإعداد خطة اللعب، بل يصبح مسئولًا مسئولية مطلقة عن كل الجوانب الإدارية والفنية للفريق، بدايةً من التعاقد مع لاعبين مميزين، وصولًا إلى التفاوض حول رواتب اللاعبين، مرورًا ببعض التفاصيل الإدارية المعقدة مثل: الخطة التسويقية للنادي، تحديد أسعار تذاكر المباريات … إلخ.

وبهذا، يتحول المشجع، من مجرد شخص عادي، إلى مالك ومدير تنفيذي ومدرب ولاعب في نفس الوقت، وربما هذه هي وظيفة الأحلام التي يطمح لها أي مشجع لأي رياضة في العموم. 

قوة المشجع

تعاني جماهير الأندية بين الحين والآخر مع سياسات إداراتها، وأحيانًا تعتقد أنهم يستحقون مدربًا أفضل من الذي يمتلكونه، لاعبين أكثر موهبةً وذكاءً من الذين تضم قوائمهم. وفي الواقع، هذا ليس مجرد انطباع عاطفي فحسب، طبقًا لـ«سيمون كوبر» و«ستيفان زيمانسكي»، عالم كرة القدم يُدار بواسطة حفنة من الأغبياء

في كتابهما «Soccernomics» يشددان على حقيقة مفاجئة، وهي أن «بيزنس» كرة القدم فاشل لا يحقق أرباحًا، وأن وجهة نظر مسيِّريه قاصرة جدًّا، حيث يزعمون أن هدف نادي كرة القدم لا ينبغي أن يكون جني الأرباح بل الفوز بالمباريات. وفي رياضة مثل كرة القدم، تتحكم العشوائية خلال أوقات كثيرة في نتائجها، يجب ألا يتوقف مصير الكيانات على الفوز أو الخسارة. لكن السؤال: ما هو الحل؟ 

تعطينا تجربة «50+1» الألمانية حلًّا مؤقتًا، لأن ملكية النادي تظل في أيدي مشجعيه، حيث لا يمكن لأي مستثمر اتخاذ أي قرار مصيري بمفرده، بالتالي تضمن الجماهير الحد الأدنى من الديمقراطية، باعتبار المشجع شريك نجاح وليس مجرد مستهلك. 

وحتى لا ندفن رءوسنا بالرمال، لا يزال المشجعون يرغبون في الحصول على المزيد من الصلاحيات، تمامًا مثل ألعاب الفيديو، فما الحل؟ 

من الخيال إلى الواقع 

جنوب غرب مدينة سالزبورغ النمساوية، يقع مقر نادي «بينز غاو سالفلدن»، الناشط بدوري الدرجة الثالثة النمساوية، والذي يضمن لمشجعيه حول العالم خوض تجربة الأحلام، بمجرد استثمار مبلغ يتراوح بين 380 و500 دولار أمريكي، تُدفع مرة واحدة بالعمر. 

يعد «بينزغاو سالفلدن» أول نادٍ يملكه جمهوره (Fan- Controlled Club) في تاريخ رياضة كرة القدم، في تجربة شبيهة بالرياضات الأمريكية، حيث يضمن امتلاك أي شخص لحصة بأسهم النادي تداخلًا مباشرًا في سير العمل اليومي للنادي. 

يرى «إريك كراجوفسكي»، أحد أوائل المستثمرين في النادي، أنه على الرغم من وجوده في الولايات المتحدة، يشعر أنه متصل بالنادي، حيث وجد تعاونًا إيجابيًّا من الفريق التنفيذي للنادي. بينما يجد مستثمر آخر يدعى «كريس وولز» أن هذه التجربة هي التجربة المثالية الذي يحلم أن يعيشها أي مشجع لكرة القدم، ببدء عمله كـ«مالك حقيقي» للفريق الذي يشجعه. 

وعلى الرغم من كل هذه المميزات، التي تتضمن سؤال المدير الفني «كريستيان زيجه»، الدولي الألماني السابق، عن أسباب إشراكه أو استبعاده للاعبين في المباريات، وأحيانًا التحدُّث مع اللاعبين أنفسهم عن أدائهم في بعض المباريات، تظل السلطة الفنية حكرًا على المدرب، وهذا ما يعني فقدان «تجربة ألعاب الفيديو» لبعد مهم من أبعادها. لكن لا تقلق! 

لا يهتف مشجعو فريق «Avant Garde Caennaise» واصفين مدربهم بـ«الذي لا يفقه أي شيء في كرة القدم»، لأنهم هم من يحددون طريقة اللعب، اللاعبين، التبديلات، وكل ما يخص مباريات الفريق. 

بدايةً من 2017 وحتى 2019، منح هذا الفريق، الذي ينشط بدوري الدرجة السابعة الفرنسي، الحق لمشجعيه في اختيار تشكيل وطريقة لعب وتبديلات الفريق، عبر استخدام تطبيق «United Manager». 

قبل بدء المباراة، يحدد نحو 2000 مستخدم اختياراتهم ويرسلونها عبر التطبيق للجهاز الفني، ويتم التصويت عليها باستخدام العملات المعدنية التي حصلوا عليها عبر استخدام التطبيق لأوقات طويلة، أو عبر شرائها باشتراك مميز. 

شاهد المشجعون أو الـ«Umans» في هذه الحالة، المباريات عبر بث مباشر، مع ولوج لإحصائيات مقدمة من شركة «Opta»، وبيانات كاملة حول أداء اللاعبين، حتى يتسنى لهم اتخاذ القرار المناسب، ويتعين على «جوليان لو بان»، المدير الفني تنفيذه. لكن هذه التجربة لم تكتمل؛ بسبب إصدار الاتحاد الفرنسي قرارات مثل: منع الأندية من إقامة شراكة مع طرف ثالث للتأثير على أداء الفرق، منع طرف ثالث من التأثير على قرارات المدير الفني، ومنع البث المباشر للمباريات بدون إذن. 

حقيقةً لا يمكن أن تدوم مثل تلك التجارب، فحتى إن كان المسئولون عن كرة القدم أغبياء، فلا يصح استبدال آلاف مؤلفة بهم، بحجة حرصهم على مصلحة ناديهم. 

يبدو الانطباع السائد حول دراية الجماهير بكل شيء يخص كرة القدم نابعًا من عدم اختبار هذه المعرفة لا أكثر، وهذا ما يشرحه ما يعرف بـ«تأثير دانينج/كروجر»؛ والذي يُعبر عن جهل بعض البشر بحقيقة إمكانياتهم حتى تختبر. أو بمعنى آخر، كما يرى «سقراط»، للديمقراطية وجه قبيح، ربما يظهر فور تطبيقها. وحتى تحين هذه اللحظة، كمشجع، عليك أن تستمتع مؤقتًا بعبارات الإساءة التي تصوبها تجاه كل المحسوبين على هذه الرياضة.