يشير معنى الزُمر في لسان العرب إلى الجماعات المتفرقة، ومادة زمر في المعجم نفسه تشير إلى النقص الأخلاقي والمعنوي والجسدي، فرجل زمِرئي: قليل المروءة، وشاة زمِرة: أي قليلة الصوف. بينما يُشير معنى العُصبة إلى الجماعة من الناس ما بين العشرة إلى الأربعين، والعصبية: هي نصرة القريب ولو على الظلم، والعصبي: من يعين قومه على الظلم. والشلة في معجم المعاني: جماعة من الأصدقاء ذات ميول واحدة، والبلطجة: تعني الخروج على القانون والفوضى والتخريب والاعتداء على الآخرين قهرًا وبدون وجه حق.

الزمر إذن وفق تعريفنا هي: الجماعات التي تتشابك لأسباب متصلة بالبحث عن الدور والانتماء في المستويات ذات الطابع المحلي، أو تلك التي تملك قدرات جسدية أو نفسية أو نزاعية يمكن أن تفرض بها سطوتها على المجتمعات المحلية، أو تقدم خدماتها لمن يحتاج إليها من رجال الأعمال أو النواب في البرلمان أو الفنانين أو الكومندات الخارجين عن القانون، وهم يؤدون بالإضافة إلى ذلك أدوارًا وظيفية للسلطات الرسمية أيضًا حين تحتاج إليهم ممن نعرفهم بالبلطجية.

ووفق مشاهداتي فإن الحالة الأولى المتعلقة بالزمر التي تبحث عن دور وهوية تتمثل في تجمع سكني (كمبوند)، يقطن أغلبه صحفيون، وتتوزع وحدات السكن فيه بين فيلات وعمارات يحيطها سور واحد، بدأت تتكون شبكة داخل الكمبوند من سكان العمارات، ممن وصفتها بالزمر، تجمعوا أولًا حول ما اعتبروه مظالم تعرضوا لها من زملائهم في الفيلات وهم صحفيون مثلهم، وبدأوا في نشر بيانات ضد زملائهم سكان الفيلات متهمين إياهم بالتحيز لمصالحهم الخاصة على حساب مصالح سكان العمارات.

الغافلون من سكان الكمبوند في العمارات انحازوا لما اعتبروه وعيًا لم يكونوا منتبهين له بأنهم قد ظُلموا، وتوسعت الجبهة الممثلة لسكان العمارات بحيث أصبحت كتلة أكبر من مجرد الزمرة التي بدأت التأسيس لذلك الانقسام الاجتماعي، وعلى جانب الفلل فإن الآخرين وجدوا أنفسهم جبهة في مواجهة من يتهمونهم بالظلم رغم أنهم جميعًا تجمعهم الجيرة والزمالة والمكان، بيد أن ديناميات الزُمر بدأت في العمل، وانقسم الكمبوند لسكان العمارات وسكان الفلل، ولم تلبث جبهة سكان العمارات أن انقسمت على نفسها انقسامًا حادًا فتناثروا جبهات متعددة كل منها زمر تواجه الآخر.

وسيكولوجية الزمر تقوم بالأساس على أرضية الانقسام ذات الطابع الرأسي الذي يمزق بسكينه الحاد كل توحد أو تفاعل منتج، وقد لاحظتُ سيدات وشباب ورجال انتظموا كجزء من الزمر الجديدة التي أعطتهم معنى لأدوار لهم في السياق الاجتماعي للكمبوند، فقد أصبح له رفاق وأصبح للاجتماع به سبب هو أحاديث الأسرار، التي تُشبع نهم الجانب المظلم في النفس الإنسانية بجعل الآخر موضوعًا للعدوان والغيبة والنميمة والانتهاك المسيء.

فسيكولوجية الزمر قائمة بالأساس على إطلاق الغرائز والمشاعر المقيتة في النفس الإنسانية لتوجيهها إلى زمرة جديدة يُنظر إليها باعتبارها كبش فداء تُفرغ فيه الإحباطات الشخصية التي تحيط بأفراد كل زمرة، وأسوأ ما يصيب الإنسان هو الإحباط والشعور بغياب المعنى والدور على مستويات الانتماء المتجاوز، ومن ثم تكون لديه القابلية بل والسعي لأن يكون مجرد عضو في شلة كل همها البحث عن انتماء زائف أو مصالح ذاتية على حساب المصلحة العامة أو خارج إطار القانون.

عالم الزمر والتعصب والشللية بحثًا عن الهوية المفقودة والدور الغائب وتحقيق ما يُظن أنه منافع شخصية، سواء في الأحياء السكنية أو في النوادي أو في اتحادات العمال أو تجمعات المهنيين والمثقفين وحتى في الأحزاب السياسية وداخل مؤسسات البيروقراطية، وربما حتى داخل المؤسسات التي تعبر عن الهوية القومية كالجامعات ومؤسسات التعليم والثقافة، تعبر عما أطلق عليه مالك بن نبي، «القوارض الاجتماعية»، كالفئران التي تنطلق في أجران القمح لتفسده، وهي تعبر في الوقت ذاته عن مجتمع مريض في طور التدهور والانحطاط وإطلاق الغرائز وتضخم الذات، مما يعيقه عن إمكان القيام بعمل مشترك يحفظ وجوده ويحمي وحدته وبقاءه، أي أن الزمر والشلل والعصب هو تعبير عن فشل في قدرة المجتمع الكبير، على أن يحول هذه القوى الاجتماعية المدمرة إلى فاعلين منتجين يختلفون ويتجادلون دون أن يصل بهم الأمر إلى أن يصبحوا سواطير تشطر مجتمعاتهم وتمزقها، أو أن ينكفئوا على عصبهم وزمرهم من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة على حساب مصالح مجتمعاتهم الكبيرة وأمتهم الواسعة.

في كتابه «ميلاد مجتمع»، وتحت عنوان «المرض الاجتماعي»، يشير مالك بن نبي إلى ظاهرة تضخم الأنا كمعوق للعمل الجماعي، فيقول:

قد يبدو المجتمع ميسورًا في ظاهره بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض في العلاقة بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب الأنا عند الفرد من تضخم ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية[..] في الوقت الذي تظهر فيه العقد النفسية على صفحة الأنا في مجتمع معين يغدو عمله الجماعي صعبًا أو مستحيلًا، وهنا يحق لنا أن نطلق على هذه الحالة مأساة اجتماعية.

وفي الحالة الثانية، تصل إلى مسامعي أخبار عجز مجلس نقابة الصحفيين المُنتخب عن أن يُشكل مكتبه منذ أن تم انتخابه، وذلك لأن ثقافة الزمر وسيكولوجيا العُصب والشلل تسيطر على من في المجلس، والذين جاءوا بانتخابات من جمعيتهم العمومية، بيد أن الانتخابات فيما يبدو تقوم على قوائم هي تعبير عن مفهوم الزُمر في الحقيقة، ومن ثم من يصبح عضوًا في تلك القوائم يحصل على مقعده في المجلس، وهنا يكون السؤال: من يا ترى وراء هذه القوائم خارج مجلس النقابة؟ وهل يعمل من جاء إلى المجلس وفق رغبة من جاء به إليه وإن تعارضت مع مصالح الصحفيين وجمعيتهم العمومية؟ وهل وصلت الأثرة والأنانية وتغليب المصالح الذاتية على أعضاء مجلس نقابة الصحفيين إلى حد أنهم يغرقون في وحل أخلاق الزمر والعصب والشلل بدرجة تعيقهم عن تشكيل مجلسهم وإنجاز مصالح زملائهم لأكثر من شهر ونصف؟

وفي الحالة الثالثة، وآخر ما وصل إلينا من أخبار عن أحوال الاستغراق في عالم الزمر والشلل والبلطجة، أن اقتحم منتج معروف يُنتج الأفلام التي تغذي أخلاق الزمر والشلل والعصبيات في المجتمع المصري، ومعه ابنه المخرج و«بودي جارد»، موقعًا صحفيًا، واعتدوا بالضرب على ثلاثة صحفيين أثناء تأدية أعمالهم، وهو ما هزّ الضمير الصحفي بقوة، واعتُبر ذلك تهديدًا لمهنة وظيفتها الكشف عن أخلاق الزمر والشلل والعصب لحماية المجتمع وشبكة علاقاته من التفكك والتمزق والضعف الممقوت.

ووفقًا لمشاهداتي الطويلة، فإن المجتمع هو انعكاس لدولته ومجال تحقق صورته فيما أطلقنا عليه الحلول السياسية؛ أي أن روح الدولة تحل في مجتمعها فتطبعها بطابعها، فالمجتمع هو ظل دولته ومشاكله لها علاقة بحضور الدولة في المجتمع أو غيابها عنه، ولا يستقيم الظل والعود أعوج. ولأن الدولة الحديثة القومية هي التي تعطي الإشارة لبيروقراطيتها وحتى مواطنيها بأنها دولة للقانون، وأن ذلك مرتبط بكيانها الوجودي والأخلاقي، فينعكس ذلك على المجتمع، فتتهاوى قيم البلطجة والشللية والعُصب. أما حين يكون لدى الدولة مشكلة أخلاقية متصلة بالانفصام بين ما تقوله وما تفعله، فإن عالم الشلل والبلطجة ينتعش ويصبح عنوانًا على دولة ومجتمع يواجه حالة خلل وانحطاط وتدهور، لا يحمل معها أي أمل في إمكان الانتصار عليه وتجاوزه.

وفي كتاب «السياسات المقارنة في وقتنا الحاضر: نظرة عالمية»، لمؤلفيه جابرييل ألموند وجي بنجهام باول، يصف العلاقة السياسية ذات الطابع الرعوي في النظام السياسي المكسيكي، بين الرئيس الذي يمثل مركز السلطة وبين من يأتون تحته من أول رئاسة الوزراء وحتى مسئولي البلديات في المستوي المحلي، في علاقة رأسية قهرية لا يمكن لمن في المرتبة الأدنى أن يخالف إرادة من هو فوقه – بالكامريللا وهي كلمة إسبانية تعني عصبة سياسية، والولاء الشخصي لزعيم الكامريللا هو الذي يشد الأعضاء إلى بعضهم البعض وليس الأيديولوجيا، وينتقل الأعضاء ضمن عُصب سياسية متنوعة بحثًا عن العصبة الناجحة التي تضمن لهم البقاء في مناصبهم والحماية بما في ذلك الترقي إلى المناصب العليا، ومثل هذه النظم ذات الطابع التسلطي تفتقد للتجديد وتطبع المجتمع بطابع اللا مبالاة، فكل شيء معد سلفًا ولا قيمة لآراء الناخبين أو المقترعين أو المصوتين.

حين يغرق المجتمع في أدران أخلاق الزمر والعصب والشلل يكون قد فقد أهدافه الكبرى وبوصلته الحاكمة وأساس قيامه ووجوده، ومن ثم يرتد إلى حالة من البداوة والبدائية التي تعيده إلى حالة ما قبل المجتمع والدولة، حيث ينقسم أبناؤه ونظمه ومؤسساته إلى شلل تحقق أهدافها ومصالحها، بينما تواجه مؤسسات الدولة حالة من الشعور بأن النهوض لم يعد ممكنًا.

لتجاوز حالة الزمر وأخلاق العُصب والشلل والبلطجة لا بد من حالة نفير عام تعيد الدولة لأن تكون تعبيرًا عن مجتمعها، دولة للقانون والعدل والتمكين لجميع أبنائها، لعل النفير العام هو خروج الجماهير إلى الشوارع مطالبين بدولة جديدة لا تقوم على العلو والفساد وجعل الناس شيعًا وأحزابًا متفرقين يواجه بعضهم بعضًا بدلًا من أن يتوحدوا ضد أعدائهم وأعداء أمتهم المتربصين بها من كل جانب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.