مما حفظته لنا كتبُ التراث الإسلامي ذلك الجدل القديم حول أيهما أفضل عند الله وأحب إلى الناس: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ وخلاصته أن المتجادلين انقسموا فريقين؛ أحدهما انتصر للغني الشاكر، واحتج بأن غناه يدفعه لشكر الله، وأن هذا الشكر يعم نفعه على الفقراء والمساكين في صورة صدقات وأعمال خيرية متنوعة يحوز بها رضا الخالق في الآخرة، وامتنان المخلوقين في الدنيا.

وانتصر الفريق الثاني للفقير الصابر، واحتج بأن فقره رغم قسوته لم يدفعه للضجر بل للصبر الجميل. وأن الله وعد الصابرين بحسن العاقبة، وأنه يوفيهم أجرهم يوم القيامة بغير حساب، وبهذا نال الفقير راحة البال في حياته الدنيا، وحسن المآل في الآخرة.

أغلب الظن أن ذلك الجدل القديم لم يكن يدور على خلفية انقسام اجتماعي حاد بين الزهد والبذخ، فهذا الانقسام له سياق سياسي ونفسي مختلف، عن السياق الاجتماعي والاقتصادي الذي دار فيه جدل الفقير الصابر والغني الشاكر، وهو سياق شهد تفاوتًا كبيرًا أيضًا، لكن هذه المرة بين الأغنياء وأصحاب الثروة، والفقراء والمُهمَّشين الذين أسرهم الفقر في محبسه، وأزاحهم بعيدًا عن دورة الإنتاج والاستهلاك، اللهم إلا بالقدر الذي يكاد يسد رمقهم.

كانت تلك الجدليات شائعة ذائعة في أزمنة العباسيين والمماليك، ولكن التحولات الاجتماعية والسياسية التي جرت في الأزمنة اللاحقة قد طوتها، أو كادت، وجعلتها في ذمة التاريخ. وحلت محلها جدليات أخرى، ليست مماثلة لها، وإن كانت من جنسها. ومنها الجدلية التي تشهدها أغلبُ مجتمعاتنا العربية منذ عقود طويلة بين الغني الجاحد والفقير الصامد. وحلول صفة الجحود محل صفة الشكر، وصفة الصمود محل صفة الصبر في طرفي الجدلية؛ يعكس جانبًا من عمق التغيير الاجتماعي والأخلاقي الذي ضرب مجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة، وجعلها تقع فريسة للجمود؛ الذي ينتجه استمرار الجحود وفي مقابله الصمود.

فلسفة تقليل أساس الرواتب وتكبير الحوافز تجعل قطاعًا كبيرًا من موظفي الدولة رهين الشعور بالأسر الدائم لرؤسائه، ولا يملك إلا أن يتشبث بموقعه وأن يدين لهم بالطاعة كي يضمن حوافزه. وهؤلاء الرؤساء بدورهم أسرى لمن فوقهم؛ وهكذا يترسخ وضع الجمود الاجتماعي.

أما الجحود، فالمقصود به هو تعمد أغنياء مجتمعاتنا اكتنازَ ثرواتهم خارج بلادهم في بنوك سويسرا وفي مشروعات استثمارية في بلدان غير بلدانهم رغم معرفتهم أن بلدانهم في مسيس الحاجة إلى شيء من ذلك، إضافة إلى سوء تصرفهم فيما تحت أيديهم من الأموال والثروات في الداخل، وإنفاقها إنفاقًا ترفيًا مستفزًا يفوق السفه بمراحل واسعة.

فمن جهة هم يجففون موارد اقتصادات مجتمعاتنا، وينفقون الأموال إنفاق البذخ والضجر، لا إنفاق الضرورة والشكر، وهذا هو عين الجحود الوطني. ومن جهة أخرى هم يؤججون مشاعر السخط لدى القطاعات الواسعة من أبناء جلدتهم الذين لا يجدون حيلة للخروج مما هم فيه إلا حيلة الصمود، لا الصبر. وفرق كبير بين الصمود والصبر.

صمود الفقير في هذه الجدلية الجديدة يعني التشبث بالوضع القائم قدر الطاقة بهدف المحافظة على حقه في البقاء، مع التحايل من أجل تخطي العقبات واحدة واحدة، ويومًا بيوم، وعلى حساب الأقرب من يده فالأقرب، ودون أفق مستقبلي يرد على باله.

أما صبره هناك في الجدلية القديمة فبعضه كان صبرًا على مضض وهو المصحوب بالشكوى، وهو صبر لا جمال فيه، وأغلبه كان يعني تحمل كدر العيش دون شكوى ظاهرة وهذا هو الصبر الجميل. وفي كل الأحوال كان صبره دون حركة فاعلة، مع قطع الأمل في الدنيا والانشغال بوصله بحسن العاقبة في الآخرة.

كان شكرُ الغني في الجدلية القديمة يزيل بعض مرارات صبر الفقير من خلال توسيع شبكات التكافل الاجتماعي التي كانت فاعلة، وكان الغني منخرطًا فيها من خلال أدائه الزكاة ومبادرته بالأوقاف الخيرية وتنافسه مع غيره في عموم الخيرات التي تترجم الشكر ترجمة عملية. وكان كل ذلك يضخ قدرًا من الحيوية في أوصال النظام الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي بما يحفظ به التوازن القائم بين الغني والصابر.

أما جحود الغني في الجدلية الحديثة فهو سلوك جاف تجاه الفقير وتجاه المجتمع، وهو سلوك يتنكر لكل أو أغلب أنظمة التكافل الاجتماعي المشار إليها، ويعمل بعيدًا عنها. وهو أيضًا سلوك يفقد الفقير قدرته على الصبر من الأساس، ويدفعه في الغالب إلى سلوك مسالك الصمود والتشبث بالبقاء بالمعنى السابق شرحه، وهو سلوك يكرس الجمود، ولا يسهم في النماء، ولا يؤثر في سلوك الجحود عند الطرف الآخر.

وقد كشفت موجات الربيع العربي عن جوانب من هذه الجدلية المحتدمة، ولكن بصمت، بين الغني الجاحد والفقير الصامد. هي محتدمة بصمت، ولكن مظاهرها تبدو صارخة على مختلف المستويات، وتؤثر مظاهرها البائسة على وقائع الحياة اليومية للقطاعات الشعبية الواسعة من الفقراء وصغار الفلاحين والموظفين والعمال والمهمشين وسكان العشوائيات الذين يتضاعف عددهم باستمرار؛ وهذا يعني ببساطة أن جحود الغني في زيادة، وأن صمود الفقير في ثبات.

بعض الأرقام يكفي في الدلالة على البشاعة التي بلغتها هذه الجدلية عشية انهيار الأنظمة التي جرفها الربيع العربي، ولا يزال الفقراء الصامدون في أغلبهم يتخبطون في آثارها السلبية إلى اليوم. فالقلة الثرية كانت ولا تزال تستأثر بالنسبة الغالبة من ثروات البلاد، وتكتنزها أو تستثمرها خارجها.

وهؤلاء وعائلاتهم وحواشيهم المقربة باتوا منفصلين عن السواد الأعظم بقية أبناء المجتمع، وتخطوا سقف الطبقة العليا، وأصبح تعبير «القطط السمان» الذي شاع في مصر مثلًا نهاية سبعينيات القرن الماضي على أثرياء الانفتاح مجرد نكتة قديمة. فهؤلاء الأثرياء الجدد يشكلون في أغلب بلدان الربيع العربي، ما يسميه باول فوسيل «طبقة عليا غير مرئية» أو «خارج نطاق الرؤية – Top Out of Sight Class».

هذه الطبقة هي التجسيد القبيح للنيوليبرالية المتوحشة. أعضاؤها من سماسرة السلاح وأصحاب الأعمال والشركات عابرة القارات، والتجارة غير المشروعة في المخدرات والأعضاء البشرية والرقيق الأبيض. وهم يعيشون على استغلال بقية أبناء المجتمع، ولا علاقة لهم بالوطن، إذ يمكنهم الوجود في أي مكان في العالم وقتما يشاءون، أو أن يأتيهم أي شيء من أي مكان في العالم وهم في مكانهم؛ وأغلب أوقاتهم يقضونها في المحميات السكنية (Compound) أو في الفنادق الفاخرة والطائرات الخاصة واجتماعات البيزنس، وحفلات الأفراح والليالي الملاح الأسطورية.

وعلى الجانب الآخر بقي الذين هم دون «التصنيف الطبقي – Bottom out of sight class»، بحسب فوسيل أيضًا، يراوحون مكانهم، وهم يشكلون غالبية كاسحة من المواطنين، وقد وصلت نسبتهم في بعض التقديرات إلى 40% يعيشون تحت خط الفقر (أقل من دولارين للفرد في اليوم). وهناك أيضًا ملايين من العاملين في الجهاز الحكومي تشكل مرتباتهم الرسمية نسبة ضئيلة من الناتج القومي، في حين تشكل الحوافز والإكراميات والبدلات والمكافآت غير الرسمية أضعاف تلك النسبة الرسمية.

وهذه المفارقة بين مرتبات أقل وحوافز أكثر لها دلالة سلطوية بالغة الأهمية، ففلسفة تقليل أساس الرواتب، وتكبير الحوافز تجعل هذا القطاع الكبير من موظفي الدولة رهين الشعور بالأسر الدائم لرؤسائه، ولا يملك إلا أن يتشبث بموقعه، وأن يدين لهم بالسمع والطاعة كي يضمن حوافزه في نهاية الشهر أو السنة، وهؤلاء الرؤساء بدورهم أسرى لمن فوقهم؛ وهكذا يترسخ وضع الجمود الاجتماعي بانضمام فريق كبير من موظفي البيروقراطية الحكومية إلى خانة الفقير الصامد. وهذه التركيبة من شأنها أن تدمر المهارات، وتقصي الكفاءات، وتُصَعِّد الانتهازيين والمنافقين؛ وكلما زادت رقعة هؤلاء قرب هرم السلطة الإدارية أو السياسية تعمقت الأزمة الاجتماعية وازدادت ضراوتها، واحتدمت الجدلية المهلكة للحرث والنسل بين الغني الجاحد، والفقير الصامد.

ومن جهة أخرى بلغ الفرق بين الحد الأقصى والحد الأدنى للدخل في أغلب مجتمعاتنا مستوى فلكيًا أو قل خياليًا، وهو في المتوسط حسب تقديرات خبراء الاقتصاد يساوي الفرق بين 1 للأدنى و1.300 للأعلى في أغلب مجتمعاتنا العربية، وهذه وضعية تحتاج إلى قدر هائل من صبر الفقراء وقدر هائل مماثل من شكر الأغنياء حتى تستمر حالة التعايش بين الكل على مضض؛ أي بصبر عادي وليس صبرًا جميلًا. ولكن الحاصل هو أن أغلبية الأغنياء تواجه هذه الحالة بالجحود، وأن أغلبية الفقراء تواجهها بالصمود.

التحليل الاقتصادي البحت لهذا الخلل الحاد يعني أن هذه الجدلية من جهة الأغنياء ورجال الأعمال وأعضاء الطبقة غير المرئية من فرط الثراء؛ قد بلغت أعلى مراحل قبحها في مواجهة الكثرة الفقيرة من العمال والأُجَراء والمهمشين والشباب الذي لا يكاد يجد فرصة عمل تستوعب طاقته، وتفتح أمامه بابًا نحو المستقبل.

عدم تداول الثروة وفق قواعد العدالة الاجتماعية وأخلاقياتها سيؤدي إلى تسلط مالكيها على غيرهم، ويمنع من دخولهم في المجال العام، ومن ثم يمتنع تداول السلطة أيضًا.

لدينا جملة من الاقتراحات نضعها أمام كل من يهمه الأمر للخروج من هذه الجدلية الصامتة والمدمرة، ومن ذلك مثلًا: وجوب تطبيق نظام الضرائب التصاعدية على الإيراد العام. ورفع حد الإعفاء الضريبي على دخول الطبقة الوسطى. ودمج بندي الأجور والمكافآت، وتخفيض الحد الأعلى للأجور دون تحميل الميزانية أعباء إضافية، مع ضرورة اتخاذ سياسات مالية ونقدية لكبح جماح الأسعار. ولا يقل أهمية عن ذلك: وجوب إحياء أنظمة التكافل الاجتماعي وتفعيلها، وربطها بمظلة التأمينات الاجتماعية والرعاية الصحية لجميع المواطنين، ومنح العاطلين إعانة بطالة… إلخ.

اليمين الليبرالي في أغلب بلدان الربيع العربي، وحيثما وُجِد في غير بلدان الربيع العربي أيضًا؛ يعيب على هذا التوجه الذي نقترحه، بالقول إنه يحاول الجمع بين نظام السوق وقواعده، ومبادئ العدالة الاجتماعية، وأنظمة مكارم الأخلاق الإسلامية، ودور الدولة، يحاول جمعها كلها معًا في سبيل إعادة توزيع الدخل. ويرون أن هذا جمعٌ بين متناقضات لن يُقدر له النجاح.

أما اليسار حيثما وُجِد أيضًا في أغلب تلك البلدان؛ فيرى أن تلك الرؤية تتوافق مع تطلعات شرائح الطبقة الوسطى التي تمثل القواعد الجماهيرية ذات الميول المحافظة، وتندرج أيضًا ضمن الشروط التي تفرضها الرأسمالية العالمية ومؤسساتها، وتنص عليها سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي سياسات تعزز حرية السوق، واحتكار القطاع الخاص أدوات الإنتاج، وتفتيت دور الدولة، وتعويم العملة، وقصر دور الدولة على تهيئة المناخ العام للاستثمار الأجنبي.

ومن ثم فهي تفتح المجال أمام دخول الشركات الأجنبية السوق العربية أكثر مما هي عليه، وتمكنها من السيطرة على ما تبقى من أدوات الإنتاج وموارد الدولة، مع عدم وجود أي سياسة حمائية للاقتصاد الوطني، لا في كل قطر من أقطارنا العربية، ولا فيها مجتمعة. وعليه فإننا نكون مستمرين على طريقة الأنظمة التابعة التي تهرول نحو الاندماج في الرأسمالية العالمية؛ دون مراعاة للاعتبارات الاجتماعية الداخلية ولخدمة مصلحة القلة فاحشة الثراء بنت النيوليبرالية.

تلك الانتقادات لها وجاهتها في البعض منها على الأقل، لكنها لا تعالج جذور المسألة الاجتماعية/ الاقتصادية التي تدور رحاها بين الغني الجاحد والفقير الصامد. ونعتقد أن هذه المسألة يجب طرحها على أرضية واضحة المعالم من حيث التأكيد أن الملكية هي أساسًا وظيفة اجتماعية اكتسابًا واستثمارًا وإنفاقًا، قبل أن تكون اختصاصًا أو استئثارًا. وأن يكون معلومًا أن عدم تداول الثروة وفق قواعد العدالة الاجتماعية وأخلاقياتها سيؤدي إلى تسلط مالكيها على غيرهم، ويمنع من دخولهم في المجال العام، ومن ثم يمتنع تداول السلطة أيضًا، ويبقى الوضع على ما هو عليه بين الجحود والصمود والجمود.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.