أنا راضٍ تمامًا عن الأداء أمام فريق كهذا. ما لا أفهمه هو لماذا يقدمون هذا الأداء، رغم الجودة التي لديهم؟ لاعبون مثل: «ساؤول» و«كوكي» و«لورينتي» يمكنهم تقديم كرة قدم أفضل، لكنهم اختاروا البقاء في الخلف، والدفاع من مناطقهم دون حتى القيام بمرتدات. بالنهاية هم فازوا، والفائز دائمًا على حق.
مدرب ليفربول، يورجن كلوب عقب إقصاء فريقه من دوري أبطال أوروبا 2019/20

لعل أسوأ ما في تلك المباريات هي إجبار المدرب على إطلاق بعض التصريحات عقب انتهائها، دون إعطائه الوقت للسيطرة على مشاعره، وتقبل سيناريو الخسارة حتى وإن كان الطرف الأفضل بفارق واضح. وبالطبع يزداد الأمر سوءًا بمحاسبته على ما لا يليق منها، وقد كان هذا حال الألماني «يورجن كلوب» عقب وداع فريقه لدوري أبطال أوروبا بسيناريو محبط.

لكن من بين كل ما قاله، كان التساؤل عن إصرار أتلتيكو مدريد على تقديم هذه الكرة الرديئة -من وجهة نظره- في محله، فكيف يمكن لمجموعة من المواهب أن تقتنع بذلك؟ وكيف يمكن لكثير من المشجعين اتباعهم بكل رحابة صدر؟

السبب الأول: لأنك مخدوع

إن أردت الاقتناع والإقناع بطريقة لعبك الحذرة، بل الحذرة جدًا عليك أن تغلّف قناعاتك بتصريحات مباشرة ومقتضبة، كي تعلق في أذهان الجميع. الأول من نصيب السير أليكس فيرجسون عندما قال: «الهجوم يمكنك من الفوز بالمباريات، لكن الدفاع يجلب لك البطولات»، والثاني من نصيب البرتغالي جوزيه مورينيو عندما قال: «كرة القدم بها الكثير من الشعراء، لكن الشعراء -يقصد من يقدمون كرة قدم هجومية- لا يفوزون بالكثير من الألقاب».

عندما يسمع المشجعون مثل هذه التصريحات، تبدأ نظرتهم للعبة بالاختلاف، وتنفتح عقولهم على تقبل الأفكار الدفاعية مهما كانت رداءتها. ورغم أن اختلاف الأذواق يعد أمرًا صحيًا، لكن إذا بني الاختلاف على باطل، فهو بحاجة لمزيد من التوضيح.

دعنا نطبق ما سبق على البريميرليج حيث معقل السير أليكس، منذ موسم 1999/2000 حتى 2018/19 (20 موسمًا) فاز الفريق صاحب الهجوم الأقوى باللقب في 13 مناسبة، بينما فاز صاحب الدفاع الأقوى في 10 مناسبات. لمزيد من التفصيل، فقد كان ترتيب صاحب اللقب هجوميًا أفضل منه دفاعيًا في 8 مناسبات، وكان العكس في 4 مناسبات.

أضف إلى معلوماتك أن مانشستر يونايتد رفقة السير فاز بلقبين وهو صاحب أفضل خامس وسادس دفاع في الدوري، لتذهب مقولته أدراج الرياح، خاصةً مع تأكيد أرقام الليجا لأهمية الأفضلية الهجومية نظريًا. ففي نفس المدة، فاز صاحب الهجوم الأقوى بـ 11 لقبًا، واكتفى صاحب الدفاع الأقوى بـ 9. وبالطبع فإن ذلك يبدو منطقيًا في دوري وقع تحت سيطرة ريفالدو ثم رونالدينيو ثم ميسي وكريستيانو.

لكن، لكي نكون منصفين فإن مقولة السير قد تحققت فقط في الكالتشيو، حيث فاز صاحب الدفاع الأقوى -في نفس المدة- في 15 مناسبة، وكان ترتيب صاحب اللقب دفاعيًا أفضل منه هجوميًا في 10 مواسم.

ورغم دفاعات الطليان، فقد ثبت رقميًا بطلان هذه الشعارات، ومثلها لا يصلح لتبرير الأداء الدفاعي دائمًا، ولا للحديث عن اللعبة من الأساس، فالتفاصيل أكبر من حصرها في شعار لتبرير اختيار المدرب، لكن عندما يتحول الاختيار إلى إجبار، يتغير كل شيء.

السبب الثاني: لأنك مضطر

ستسأل نفسك: هل يمكن أن يجبَر الفريق أو المدرب على الدفاع المتأخر؟ لا يوجد سبب منطقي سوى أنهم مجموعة من الضعفاء أو الجبناء، وهذا بالضبط ما حدث في إيطاليا، حيث ينسب لهم تبني مثل هذه الطريقة المملة.

قبل الحرب العالمية الثانية، كانت إيطاليا خاضعة للحكم الفاشي بقيادة «موسوليني»، ومع كم القمع والتخويف، اكتسب أفراد المجتمع هذه الصفات في ممارستهم لكرة القدم أيضًا. وما زاد الطين بلة، هو هوس «موسوليني» بالفوز بكأس العالم.

وفي سبيل ذلك، سمح بتجنيس الأرجنتينيين، ورشوة الحكام، وأخيرًا بتهديد لاعبي المنتخب الإيطالي كما حدث قبل نهائي 1938 ضد المجر، حين وصلتهم برقية من «موسوليني» نفسه، مفادها النصر أو الموت، وفي أثناء مثل هذه الظروف، لا يمكن المخاطرة والإبداع، فكان الدفاع المتأخر حلاً لإنقاذ الأرواح قبل النتائج.

بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت طريقة الكاتيناتشو بشكل رسمي في إيطاليا على يد «جيبو فياني» مع نادي «ساليرنيتانا»، ثم تبعه «نيريو روكو» رفقة نادي «تريستينا» في موسم 1947/48، والذي حمل أفكاره إلى نادي ميلان، وقاده من خلالها للفوز بالكأس الأوروبية عام 1963.

ورغم عبقرية «نيريو روكو» التكتيكية، إلا أن طبيعة سكان إقليم «Venetia» كانت سببًا في رواج ونجاح الكاتيناتشو الجبانة. فقد اضطر هؤلاء للهجرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية من أجل البقاء، وتوافقت الكاتيناتشو مع طبيعتهم القاسية الراغبة في النجاة بأية وسيلة.

وبعيدًا عن الظروف المجتمعية، فأحد أهم عرابي الكاتيناتشو على الإطلاق «هيلينيو هيريرا» مر أيضًا بما أجبره عليها. فعلى عكس الشائع، عندما درب «هيريرا» برشلونة من 1958 حتى 1960 لعب معهم كرة هجومية، والتي اصطحبها معه إلى إنتر ميلانو، وبها سجل رقمًا مميزًا بإحراز 18 هدفًا في المباريات الأربعة الأولى.

لكن ذلك كاد يكلفه وظيفته بعد أن احتل المركزين الثاني والثالث في أول موسمين، فاضطر إلى الاستعانة بأفكار الكاتيناتشو -في بعض المباريات- لصاحبها الأصلي، السويسري «كارل رابان»، وكانت النتيجة ميلاد إنتر العظيم، الفائز بلقبي دوري أبطال أوروبا في الستينيات.

انتر ميلانو السيتينات رفقة هيلينيو هيريرا
انتر ميلانو السيتينات رفقة هيلينيو هيريرا
/ Youtube

السبب الثالث: لأن الجميع يحتاجك أحيانًا

سواء كان الأمر اختيارًا أم اضطرارًا فأحيانًا يحتاج الجميع إلى فريق كأتلتيكو مدريد من أجل التخلص من المرشح الأقوى، كما حدث مع ليفربول. يمكن أن تقول إنه شعور تلقائي من كل مشجعي الفرق المنافسة، لحظة يتناسون فيها عمدًا رغبتهم في رؤية العدالة والكرة الجميلة، في سبيل التخلص من المنافس الأقوى، ولتحقيق ذلك الهدف، هم بحاجة إلى مجموعة من الـ «bad boys».

ذلك اللقب الذي كان موجودًا قبل فيلم «ويلي سميث» المسمى بنفس الاسم، وتم إطلاقه على فريق «ديترويت بيستونز» بدوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين «NBA» في حقبة الثمانينيات. حين كان ال«NBA» واقعًا تحت سيطرة فريقي «بوسطن سيلتكس» بقيادة أسطورتهم «لاري بيرد»، و«لوس أنجلوس ليكرز» بقيادة أسطورتهم «ماجيك جونسون»، مع صعود صاروخي لأسطورة «شيكاغو بولز»، «مايكل جوردان».

مجرد ذكر هذه الأسماء يلغي طموح المنافسة، لكن فريق «ديترويت» قرر المخاطرة، وتشكيل فريق من الموهوبين تدريجيًا، بدأ بالحصول على «أيزيا توماس» من درافت 1981، مرورًا بـ«بول لامبير» و«جو دومارس» وانتهاءً بـ«دينيس رودمان». وبعد أن أصبح الفريق جاهزًا، قرر مقارعة الكبار بأسلوب لعب مقته الجميع.

فانتهجوا أسلوبًا دفاعيًا قاسيًا، تضمن أداءً بدنيًا قويًا، والتحامات خشنة، المسموح منها والممنوع، وكأن المباراة أشبه بمعركة. ذلك الأسلوب جعل الجميع يكرههم، وباتت مواجهتهم كابوسًا للآخرين، بما فيهم «جوردان» الذي انتقدهم علانية. وبرغم الانتقادات والكراهية، تمكن «البيستونز» بفضل هذا الأسلوب من حفر اسمهم في تلك الحقبة بلقبين متتاليين عامي 1989، 1990.

الـ«bad boys» كفكرة مطلوبة في كل الرياضات مهما اختلفت الأزمنة، لا للترويج لأسلوب لعب ممل أو غير مستحب، ولكن لكسر إيقاع الهيمنة المطلقة، المملة أيضًا، تمامًا كما فعل انتر-مورينيو، وتشيلسي- دي ماتيو مع بارسا-جوارديولا، وما فعله أتلتيكو-سيميوني مع ليفربول-كلوب. لا يهم المنطق، ولا تهم الحسابات، فقط تخلص من هذا الخصم، وبعدها سوف نسوي الأمور معًا، ونعود لانتقاد دفاعك الممل، وتستمر الدورة.