في 1917، وخلال الحرب العالمية الأولى، تقدمت القوات البريطانية عبر سيناء إلى فلسطين، وبعد معارك مع القوات العثمانية دخل الجنرال الإنجليزي أدموند أللنبي Edmund Allenby (1861-1936) مدينة القدس الشريف في الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول، ويقف في ساحتها ليعلن مفتخراً: «اليوم… انتهت الحروب الصليبية» [1]. فتتحول فرحة العرب المناصرين للإنجليز إلى صدمة.

كانت صدمة أن الغرب الذي يزعم أنه تحرر من قيود التعصب الديني ما زال يذكر الحروب الصليبية، ويتأكد الوجه الصليبي البغيض للغرب ما أشيع بأن الجنرال الفرنسي الذي دخل دمشق مُحتلاً عام 1920، سارع إلى قبر الناصر صلاح الدين الأيوبي، وركل بابه بقدمه، ووقف أمام القبر مُتحدياً «لقد عدنا يا صلاح الدين».

كلمات الجنرال الإنجليزي وكلمات الجنرال الفرنسي أكدت أن الموجة الثانية من الغزو الأوروبي لديار الإسلام والتي بدأت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ليست إلا امتداداً للموجة الأولى التي جرت في القرن الخامس عشر الميلادي، واستهدفت تطويق ديار الإسلام من الأطراف وضرب الاقتصاد الإسلامي بتحويل التجارة إلى الدوران حول أفريقيا، وأن الموجتين الأولى والثانية ليستا إلا امتداداً للحروب الأوروبية التي عرفها مؤرخو العرب باسم حروب الفرنجة (489–690 هجرياً/ 1096–1291 ميلادياً).

لكن احتلال بيت المقدس وفلسطين في ديسمبر/كانون الأول 1917 لم يكن نهاية الحروب الصليبية كما أعلن الجنرال أللنبي، فقد جاء احتلال بريطانيا لفلسطين لكي تمهد أرضها للحركة الصهيونية وتخلق دولة وظيفية تخدم مصالح الغرب. فقبل احتلال بيت المقدس بخمسة أسابيع صدر تصريح وزير الخارجية البريطانية آرثر جيمس بلفور للحركة الصهيونية في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

كلمة وطن في التصريح لم تكن إلا تخفيفاً لكلمة دولة، بل إن الحركة الصهيونية تعاملت مع تعبير وطن قومي على أنه دولة. ومن قبل التصريح، اتفقت بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقاسم أملاك الدولة العثمانية في الشرق، فاختارت بريطانيا فلسطين وشرق الأردن، فيما عُرف باسم اتفاقية سايكس/ بيكو عام 1916.

الحركة الصهيونية إذاً هي الامتداد للحركة الصليبية. وعلى هذا؛ فإن دراسة الحروب الصليبية تكتسب أهميتها باعتبارها نسخة مبكرة من الحروب الصهيونية في العصر الحديث، إذ تجمع بين الحركتين العديد من متشابهات.

دوافع النشأة

من حيث الدوافع، جاءت الحركة الصليبية كمخرج من مشاكل أوروبا الاقتصادية والاجتماعية في عصورها الوسطى الكالحة، ففرنسا –مهد الدعوة والمغذي لها– تقاسي من مجاعة شديدة بسبب نقص المحاصيل، والإقطاع يسيطر على طابع الحياة في أوروبا. في الحركة الصهيونية، دعمت أوروبا الغربية الحركة الصهيونية بهدف التخلص من مشكلة يهود شرق أوروبا الذين تدفقوا عليها كالجراد، مُسبِّبين مشاكل اقتصادية واجتماعية، وتظاهر عُمّالها ضاغطين على حكومتهم لطرد العمالة اليهودية الرخيصة.

وظيفياً، استهدفت الحركة الصليبية خلق نقاط ارتكاز لها في الشرق الإسلامي، فأنشأت ثلاث إمارات ومملكة: مملكة بيت المقدس وإمارات الرها وأنطاكية وطرابلس، لتكون بمثابة رؤوس حراب تخدم وتحرس مصالح الغرب الاقتصادية، وهو ما يبدو واضحاً من مساندة المدن التجارية الإيطالية للحركة الصليبية، والتركيز على احتلال مدن الساحل الشامي بهدف الاستحواذ على نصيب من التجارة العالمية.

بشكل متوازٍ، استهدفت أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية من دعم الحركة الصهيونية خلق دولة وظيفية في قلب ديار الإسلام، تقطع بين جناحيها الشرقي والغربي، وتخدم مصالح الغرب في المنطقة، وتؤدي دور كلب حراسة لمصالحه.

ظروف الخلق

إذا انتقلنا إلى الظروف السياسية التي طرقت فيها الحركة الصليبية ديار الإسلام لوجدناها ملائمة، فقد كان المشرق الإسلامي منقسماً سياسياً ومذهبياً بين خلافة عباسية سنية في بغداد وخلافة فاطمية شيعية في القاهرة، وكلاهما يعانيان سكرات الموت، فالسلاجقة يسيطرون على خليفة بغداد، والوزراء يسيطرون على خليفة القاهرة. السلاجقة أنفسهم انفرط شملهم بعد وفاة السلطان السلجوقي ملك شاه عام 485 هجرياً/ 1092 ميلادياً، حتى تفتت دولتهم إلى خمس ممالك متناحرة.

الخلاف العباسي/ الفاطمي جعل الوزير الأفضل يرتكب حماقة كبرى، إذ ظن أن الصليبيين مجرد مرتزقة يعملون لصالح الإمبراطورية البيزنطية، فسيكتفون من الشام باحتلال شماله، لهذا أرسل إلى الصليبيين وهم يحاصرون أنطاكية يعرض عليهم التحالف ضد العدو المشترك، أي السلاجقة، مقابل أن يكون شمال الشام للصليبيين، وجنوب الشام أي فلسطين للفاطميين.

في إطار هذه الخطة، تقدّم الأفضل مُستغلاً انشغال السلاجقة بدفع الغازي الصليبي واستولى على جنوب فلسطين، ودخلت قواته بيت المقدس بعد حصار دام أربعين يوماً، أسفر عن تهدم أسوار المدينة. حينما واصل الصليبيون تحركهم نحو الجنوب أدرك الأفضل الحماقة التي انزلق إليها، لكن الوقت كان قد فات، واستولى الصليبيون على بيت المقدس.

الغفلة والحماقة العربية تكرّرت مع الحركة الصهيونية؛ أولاً ساند بعض العرب الحلفاء في حربهم ضد الدولة العثمانية بدعوى الانتقام من مجازر جمال باشا الاتحادي في الشام، وأشعل الشريف حسين ثورة ضد العثمانيين في شبه الجزيرة العربية، فكان العرب الشاميون وكان الشريف حسين كالمستجير من الرمضاء بالنار. وهل مقاومة الظلم تعني الاستعانة بغازٍ أجنبي؟!

استتبع سقوط دولة الخلافة –وكانت رمزاً يجمع المسلمين– خلق الغرب لدول وطنية على النمط الأوروبي، تُديرها نخبة متغربة، فكانت كل دولة منغلقة على ذاتها، سعيدة بالتقوقع داخل حدودها، وحدودها مجرد خطوط رسمها الغازي الغربي على الخريطة، ثم أقام أسلاكاً شائكة تفصلها عن محيطها العربي والإسلامي، ثم تحولت الأسلاك الافتراضية والحقيقية إلى حوائط من جدران الانعزال عن قضايا الأقطار العربية والإسلامية الأخرى.

من الغرائب أن المنظمة الصهيونية بالإسكندرية احتفلت بصدور وعد بلفور، ليس احتفالاً في مكان مغلق بين جدران أربعة بعيداً عن العيون، إنما خرج أتباعها في مظاهرة طافت شوارع المدينة، وأقامت المنظمة حفلين حضرهما محافظ المدينة أحمد زيور، والذي سيصبح رئيساً للوزراء بعد سنوات معدودة.

بقيت الحركة الصهيونية في مصر تحتفل بذكرى وعد بلفور سنوياً، إلى أن كان عام 1945، حيث انفجر الغضب الشعبي، وتم تلقين المظاهرة الصهيونية درساً قاسياً. أمّا مصر الرسمية، فقد بقيت نخبتها في غفلتها حتى أنها لم تحظر الحركة الصهيونية وأنشطتها إلا عام 1948، أي بعد وقوع حرب فلسطين الأولى.

الموقع الجغرافي

من حيث الموقع الجغرافي؛ ارتبطت الحركة الصليبية بالأنهار والساحل الشامي، فالإمارات والمملكة الصليبية لم تتوغل داخل ديار الإسلام. على الخريطة يبدو الكيان الصليبي مثل مثلث قائم الزاوية مقلوب القاعدة، ضلعه الأول على خط الساحل الشامي من إمارة أنطاكية شمالاً وصولاً إلى عسقلان جنوباً، ثم يمتد الضلع الثاني من عسقلان إلى الداخل وصولاً إلى بيت المقدس، ويمتد الضلع الثالث شمالاً إلى الرها في شمال الجزيرة الفراتية (بين نهري دجلة والفرات)، والتي تُشكِّل قاعدة المثلث من خلال الاتصال بإمارة أنطاكية. الارتباط بالأنهار هدفه التوطن قرب مواقع تجود أراضيها بالزراعة، والارتباط بالساحل هدفه الارتباط بالغرب، للتجارة وتحقيق مكاسب اقتصادية، وإبقاء منافذ له على الغرب تمده بموارد بشرية وحملات عسكرية لإنقاذه حينما يوشك أن يتداعى.

الحركة الصهيونية اتبعت النمط نفسه، وقد أعلنت أن حدود الدولة الصهيونية ستكون من الفرات إلى النيل، صحيح أن هناك اختلافاً حول المقصود بالنيل، أهو نيل القاهرة، أم نهر العريش، لكنها في كل الأحوال ارتبطت بالأنهار. هذه النقطة تفسر لنا تحركات إسرائيل حالياً في القرن الأفريقي، إذ مثلما سعت الحركة الصليبية إلى السيطرة على دلتا النيل والقاهرة لإدراكها ثقل مصر بمواردها البشرية والاقتصادية، فإن الحركة الصهيونية تسعى للسيطرة على مصر، ليس عسكرياً، وإنما مائياً، ودوافعها أن نهر الأردن تكاد مياهه أن تنضب، والبحر الميت يموت المعنى الحرفي جفافاً، لهذا تبحث تل أبيب عن مورد جديد للمياه، ولأنها تطمع في مياه النيل، فهي تساند إثيوبيا في سد النهضة وغيرها من المشاريع التي تعتزم أديس أبابا تشييدها على النيل الأزرق لخنق مصر.

الإمداد والتموين

إن الكيان الصليبي لكي يعيش ويُعمِّر هذا العمر وهو في قلب ديار الإسلام، ولا يغرق في المحيط السكاني الكبير، كان لزاماً عليه أن يعتمد باستمرار على الغرب وإمداداته البشرية والاقتصادية، فالغرب هو الحبل السري الذي غذّى باستمرار الكيان الصليبي، ولولا هذا الحبل لكان عمره قصيراً لأسباب عدة، منها أن الكيان الصليبي عانى على الدوام من قلة السكان، فالحروب التي خاضتها الأمة الإسلامية ضده قد أنهكته، فهي كل يوم تقتل من المستوطنين الصليبيين، أو تجبر بعضهم على الرجوع إلى أوروبا، وهي تهلك أعداداً من الغزاة الجُدد. ولولا الدعم السكاني الغربي لانقرض الكيان الصليبي سريعاً.

الكيان الصليبي يواجه المأزق نفسه، فهو يشعر بالغربة وسط هذا المحيط السكاني العربي/ الإسلامي/ المسيحي الشرقي، ونظراً لأنه يزعم تأسيس دولة دينية لليهود فهو يعتمد على جلب اليهود من شتى بقاع العالم، ولو كان اليهود الغربيون الذين يحكمون الكيان ينظرون إليهم نظرة احتقار وازدراء، فالمهم جلب مزيد من اليهود. ولأن أعداد اليهود الصهاينة كانت ضئيلة لا تكفي لخلق دولة فقد لجأت الصهيونية إلى إجبار اليهود الشرقيين على الهجرة من بلدانهم بتفجير قنابل وتدبير مذابح تدفعهم للهجرة. واليوم؛ يخوض أهالي فلسطين حرباً ديموغرافية مع الصهاينة.

ومثل الكيان الصليبي يعتمد الكيان الصهيوني في بقائه على الغرب. في البدء؛ اعتمد على بريطانيا. وبعد الحرب العالمية الثانية نقل شراعه إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولولا المساعدات الأمريكية لكان له شأن آخر. ولكي تستدر الصهيونية عطف شعوب العالم تركز دعائياً على الهولوكوست، لكن إلى متى سوف تنجح تلك الأكذوبة؟! أو على الأقل المبالغة في أرقام ضحاياها؟!

عوامل الإنهاء والاستئصال

المتأمل لجهاد الأمة الإسلامية ضد الحركة الصليبية يجد أنه استمر قرابة قرنين من الزمان، فالأمة لم تهزم الصليبيين بالضربة القاضية، إنما بالاستنزاف، وربما يصح أن نقول الاستنزاف البطيء عبر عديد من المعارك التي تراوحت بين معارك صغيرة يشارك فيها عشرات الفرسان أو معارك متوسطة أو معارك كبرى. صحيح أن الكيان الصليبي تأسس سريعاً مُستغلاً عوامل الفرقة والتشرذم، لكن بعد سنوات معدودة استفاقت الأمة الإسلامية، وسرت موجة الجهاد، لتمر عملية استئصال الكيان الصهيوني عبر استرداد حصن حصن، وقلعة قلعة، ومدينة مدينة، في جهاد دام قرنين من الزمان.

فإذا أردت أن تستذكر اسم معركة كبرى مع الكيان الصليبي لجاء على خاطرك على الفور معركة حطين الشهيرة عام 582 هجرياً/ 1187 ميلادياً، التي استرد بعدها صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة بيت المقدس. قبل هذه المعركة الكبرى ومن بعدها، عملت الأمة على مجاهدة التحدي الصليبي عبر عملية استنزاف طويلة. هذه الحروب الطويلة أنهكت الكيان الصليبي، إذ كانت تفنى أجيال المستوطنين وتهلك أعداداً من الغزاة الجُدد.

الوعي بهذه النقطة مهم للغاية في التعامل مع الكيان الصهيوني، فهو قد خُلق في مايو/أيار 1948، وانتصر في الجولة الأولى لظروف الغفلة العربية التي ظنت أنها تتعامل مع مجرد عصابات صهيونية، تماماً مثلما استهان السلاجقة بالحملة الصليبية الأولى، ومثلما توهّم الوزير الفاطمي الأفضل أن الصليبيين مجرد مرتزقة يعملون لحساب الإمبراطورية البيزنطية.

بعد فورة البداية، كان على الخط البياني لانتصارات الصليبيين أن يتوقف بعد يقظة الأمة الإسلامية، فلم يحقق الصليبيون انتصاراً ذا بال بعد عملية الخلق والتأسيس، سوى احتلال عسقلان عام 1153 ميلادياً، بل كان احتلاله لها إدراكاً بخطورة سعي نور الدين محمود لتوحيد محور الموصل/ حلب/ دمشق، وتطلعه إلى ضم مصر إلى محور الشام.

الخط البياني للصهاينة يبدو متشابهاً إلى حد التطابق، فبعد عملية الخلق والتأسيس، حققت الصهيونية أعظم انتصاراتها في حرب يونيو/حزيران 1967، وتبلغ أقصى اتساع لها، بيد أن هذه النقطة كانت في الوقت نفسه آخر انتصاراتها الكبرى. منذ هذه الحرب؛ لم تنتصر إسرائيل انتصاراً كاملاً في حروبها مع العرب، إنما تخرج من المواجهات التالية إما خاسرة أو نصف خاسرة. لم تنتصر في حرب 1973، خرجت منهزمة في حرب لبنان 2006، لم تنتصر انتصاراً كاملاً في مواجهات 2009، و2012، و2014، و2021.

يبدو في الأفق أن الانتصار على الصهيونية سيكون مثل نسختها الأولى الصليبية، بالنقاط وليس بالضربة القاضية، بعملية استنزاف طويلة مرهقة، وهذه هي جدوى المقاومة، ولو كانت بحجر طوب، أو كلمة حق، أو كلمة توعية. المقاومة المستمرة والتهام جزء بعد جزء كان أحد استراتيجيات تحرر الأمة من الغازي الصليبي، وسيكون طريقها للتحرر من ربيبه الغازي الصهيوني.

كلما قاومت الأمة واستمرت في المقاومة ازدادت قوة وزاد خصمها ضعفاً. صحيح أن الأنظمة العربية خرجت من المواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني بدعاوي السلام، تماماً مثلما تهادن أمراء وملوك مع الحركة الصليبية، إلا أن مقاومة الأهالي لم تلن ولم تستكين، تماماً مثلما قاد الأهالي المقاومة ضد الصليبيين.

المُبشِّر أن المقاومة في فلسطين تُطوّر نفسها يوماً بعد يوم، لا أعني فقط تطور أسلحة المقاومة العسكرية، إنما أعني الأسلحة التي تبتكرها المقاومة الشعبية، وأخطرها كما أعتقد «الغزاة المنفردين»، أولئك النفر من الشجعان الذين يغزون منفردين، وتخفق أجهزة الأمن وعسسها في اكتشافهم، أو مجرد الظن أن هؤلاء سيكونون من الغزاة المنفردين، فهم من سواد الناس، لا ينتمي أغلبهم إلى تنظيمات هرمية، لكنهم فجأة يعزمون، فإذا بهم يضربون ضربة توجع الاحتلال.

الوحدوية

من الناحية الوحدوية، يُدرِك قارئ حروب الفرنجة أن الحركة الصليبية استغلت عوامل الفرقة في الأمة الإسلامية، أي الاختلاف السياسي والمذهبي بين خلافة عباسية سنية في بغداد وخلافة فاطمية شيعية في القاهرة، فكان من السهل عليها الانفراد بكل قوة لكي تلتهمها ثم تواجه القوى الأخرى منفردة.

لكن بعد الحماقة التي ارتكبها الوزير الأفضل، أدركت الأمة أن عليها أن تتوحد وتتجاوز اختلافها المذهبي، لهذا بدت بوادر تعاون فاطمي شيعي/ سلجوقي سني لمواجهة الغازي الفرنجي، صحيح أن هذا التعاون لم يثمر كثيراً، لكن هذا جرى بسبب أن الدولة الفاطمية كانت في طور الاضمحلال، يؤكد هذا أن الخليفة الفاطمي العاضد لم يمنعه الاختلاف المذهبي من الاستغاثة بنور الدين محمود لكي يدرك مصر من السقوط في أيدي الفرنجة، إذ «أرُسلت الكتب إلى نور الدين مسوّدة، وفي طيها ذوائب نساء أهل القصر مجزورة»، أي أدرك أيها الأمير المجاهد حرمة العرض وحرمة الأرض.

واستغلت الحركة الصليبية في البدايات العنصر المسيحي في الأمة الإسلامية، بخاصة الأرمن والسريان، فقد توّهم هؤلاء أن الصليبيين إخوان لهم في الدين، فساعدوا الصليبيين، فإذا بهم يرون في الغازي الصليبي وجهاً قبيحاً، يُفضِّل المذهب الكاثوليكي على المذهب الأرثوذكسي، ويهدم كنائس الأرثوذكس ويقيم كنائس كاثوليكية [2]، وحينما دخل البرابرة الفرنجة بيت المقدس قتلوا كل ما وجدوه به مسلماً كان أو مسيحياً شرقياً أو يهودياً، ثم حظروا على أقباط مصر زيارة الأماكن المقدسة باعتبارهم هراطقة!

بعد هذا الدرس القاسي، أيقن المسيحيون الشرقيون ممّن ارتضوا التعاون مع الغازي الصليبي شناعة ما اقترفوا، فاستغاثوا بالمسلمين لتحريرهم، وقد أيقنوا أن الأمة الإسلامية أرحب وأوسع صدراً وسماحة من الغازي الكاثوليكي المتعصب.

في مواجهة التحدي الصهيوني، يبدو تماسك الأمة الإسلامية مسلمين ومسيحيين شرقيين، ومعركة بيت المقدس –والتي صارت رمزاً على الصراع مع الصهيونية– تجمع بين المسلمين والمسيحيين ضد اليمين المتطرف الصهيوني الذي يريد تهويد المدينة.

وإذا كان الخطاب الدعائي الصهيوني يحاول طمس الدور المسيحي، فإن علينا تقوية وإظهار وإشاعة هذا الدور الإسلامي/ المسيحي في مواجهة الغازي الصهيوني، ولا يجب السماح لآلة الدعاية الصهيونية بتصوير الصراع معها بأنه عربي/ صهيوني، أو أنه صراع ديني بين المسلمين واليهود.

أمّا اليهود غير الصهيونيين فهم العنصر الثالث المفقود في أضلاع مثلث مواجهة الأمة للغازي الصهيوني. يجب إشاعة أن اليهودي ليس حتمياً أن يكون صهيونياً، وأن الصهيوني قد يكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو ملحداً طالما يسعى إلى تحقيق أهداف الصهيونية.

يجب إشاعة هذا الفصل بين اليهودية والصهيونية لحرمان الصهيونية من التحدث باسم اليهودية، وإدراك أن الأوصاف التي أوردها القرآن الكريم فيما يخص اليهود إنما تتحدث عن يهود حاربوا النبي محمد (صلّى الله عليم وسلّم) والأمة الإسلامية زمن البعثة النبوية، وهي أوصاف ما زالت تنطبق على كل من يحارب الإسلام والأمة الإسلامية دون اشتراط أن يكون يهودي الديانة، فهي إذاً صفات لا يختص بها اليهود وحدهم وفق ما يتصور بعض الناس، فالإسلام لا يحارب اليهودية ولا يعاديها، إنما يعترف بها ديانة سماوية، وهو يؤكد في مواضع عديدة من القرآن بأن اليهودية تعرضت للتحريف والتشويه، لكن رغم هذا التحريف تبقى في أصلها ديانة سماوية، ويبقى أتباعها أهل كتاب وأهل ذمة تقع حمايتهم في ذمة المسلمين، ويحذر النبي (صلّى الله عليم وسلّم) المسلمين من التعرض لهم بالأذى فيقول «من آذى ذمياً فأنا خصمه».

لا يمكن –بعد كل هذه السنوات من الصراع مع الصهيونية– أن يجهل أئمة المساجد الفارق بين اليهودية والصهيونية، وتأخذهم الحماسة في الدعاء على اليهود، كل اليهود هكذا على الإطلاق. الدعاء يكون على الصهاينة، ولو كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو ملحدين يعملون لصالح الصهيونية.

بهذا الوعي يمكن تفعيل دوائر الصراع مع الصهيونية، لتشمل الدائرة الإسلامية، والدائرة المسيحية، والدائرة اليهودية غير الصهيونية، والدائرة الإنسانية. أيضاً تحقيق التكامل بين الدائرة الوطنية، والدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، والدائرة الإنسانية العالمية. إذا تكاملت تلك الدوائر فإنها خانقة لا محالة دعاية الكيان الصليبي.

المراجع
  1. القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية، الكتاب الثاني من مذكرات الموسيقي واصف جوهرية 1918-1948، وزارة الثقافة الفلسطينية، 2009، ص 30. وأهمية شهادة واصف جوهرية أنه كان شاهد عيان. مجلة الهلال، ديسمبر 1969، ص 87. ويحكي أمين الحسيني أن الجيوش الإنجليزية حينما دخلت القدس أمرت بعض الهيئات المسيحية الألمانية بدق أجراس الكنائس في جميع أنحاء البلاد احتفالاً بانتصار المسيحية على الإسلام (مذكرات توفيق الشاوي، نصف قرن في العمل الإسلامي، دار الشروق، ص 43).
  2. قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 149، مايو 1990، ص 210.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.