في فجر الثلاثاء، 9 مايو/ آيار 2023، استيقظ العالم على أزيز الطائرات الإسرائيلية في سماء غزة. لكن عددًا من قادة المقاومة لم يستيقظوا، هم الذين لأجلهم أشعل الاحتلال عملية السهم الواقي، والذين منعوا الاحتلال من النوم لسنواتٍ طويلة، فأرادت إسرائيل أن تغتالهم ظنًا أنها قد تنعم بلحظات من الهدوء. كان السهم الواقي مصوبًّا نحو قادة الجهاد الإسلامي أكثر من بقية فصائل المقاومة.

أول قادة الجهاد الإسلامي الذين استهدفتهم طائرات الاحتلال هو خليل صلاح البهتيني. عضو المجلس العسكري، وقائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد الإسلامي. والرجل من أبرز القادة في السرايا، كما وصفته صحيفة «جيروزاليم بوست» بعد اغتياله بساعات قليلة. البهتيني بدأ نشاطه مع الجهاد الإسلامي في أواخر التسعينيات. وكانت آخر مسئولياته هى إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل شهر أبريل/ نيسان 2023.

كما أنه المسئول عن إقرار وتنفيذ كافة الأعمال العسكرية التي ستنُفذ ضد إسرائيل من شمال قطاع غزة. الشهيد ذو الأربعة والأربعين عامًا لم يهدأ منذ لحظة دخوله العمل المسلح. وتقول الأجهزة الإسرائيلية إن اغتياله أصبح ضرورةً حين علمت الأجهزة أنه بات يخطط لعمليات في عمق إسرائيل. كذلك يُعرف عن البهتيني علاقته الجيدة والمباشرة مع قيادات رفيعة المستوى في المكتب السياسي للحركة.

لكن ارتأت إسرائيل أن تقاطع كل ذلك بقصف الرجل. فكان اغتياله هو المهمة الأخيرة التي أداها البهتيني ليؤكد كلماته أنه سيسير على نهج سلفه. فقد تولى البهتيني منصبه بعد اغتيال القائد العسكري تيسير الجعبري في أغسطس/ آب عام 2022. وليؤكد الاثنان أن المقاومة ذات نهج متجاوز للأفراد والأجساد، فسوف يحلّ مكان البهتيني قائد جديد، قد يرتقي شهيدًا بعملية اغتيال جديدة، لكن سيظل فعل المقاومة مستمرًا.

حماس فاوضت لأجل قائد السرايا

الشخصية الثانية التي أرهقت الاحتلال طوال 62 عامًا هو جهاد شاكر الغنّام. شغل الغنام مناصب رفيعة في الحركة أبرزها كان قيادة المنطقة الجنوبية في غزة. أما منصبه الأخير لحظة اغتياله فكان تنسيق وجمع ونقل الأموال لحركة الجهاد الإسلامي، وحركة المقاومة الإسلامية حماس. ووصفه الإعلام الإسرائيلي بعد اغتياله بأنه أبرز القادة القدامى في المقاومة.

المفاجئ أن الغنام قد تعرض لعدة محاولات اغتيال. أصيب فيها إصابات خطيرة، وبُترت قدماه في واحدة منهم. وكان من منزله من المنازل التي حرص الاحتلال على قصفها في حرب غزة عام 2014، واستُشهد عدد من أقاربه. لكنه لم يتراجع في العمل العسكري، وظل من عوامل الإزعاج للجانب الإسرائيلي حتى آخر لحظة.

الثالث في صفحة الاغتيالات كان طارق عز الدين. القيادي البالغ 49 عامًا، كان المسئول عن توجيه هجمات في الضفة الغربية انطلاقًا من قطاع غزة. لهذا كان الرجل بمثابة همزة الوصل بين حركة الجهاد الإسلامي وعناصر المقاومة في الضفة الغربية. وبين مهامه كان نقل الأموال للضفة الغربية. وتقول الصحف الإسرائيلية إن الرجل قد تمت ترقيته مؤخرًا في تسلسل القيادة داخل الجهاد الإسلامي. وكان ضمن أول مكتب سياسي منتخب للجهاد الإسلامي عام 2018، وأُعيد انتخابه مرة أخرى قبل شهور.

في عقوده الخمسة تم اعتقاله أكثر من مرة، وقضى فترات متفاوتة في سجون الاحتلال الإسرائيلي. تعرّض فيها للتعذيب والتحقيقات غير الآدمية، وكانت آخر مرات اعتقاله عام 2002. في تلك المرة صدر ضده حكم بالسجن المؤبد مضافًا إليه 25 عامًا، بتهمة تنفيذ هجمات ضد الاحتلال في الضفة الغربية.

 لكن أُطلق سراحه ضمن صفقة تبادل الأسرى التي قادتها حماس عام 2011، والتي عُرفت إسرائيليًا بصفقة شاليط، ويعرفها الفلسطينيون بصفقة وفاء الأحرار. وكان الشرط الإسرائيلي لإطلاقه هو إبعاده عن مكان ولادته ونشأته ونشاط الجهاد الإسلامي، الضفة الغربية، إلى مكان جديد عليه تسيطر عليه حماس، غزة. لكن أثبتت الأيام أن المقاومة وإن تعددت أسماؤها، واختلفت أساليبها، فإنما هى مظاهر لجوهرٍ واحد.

الوحدة الصاروخية في مركز الاغتيالات

للضرورة أحكام، ومن أحكام الضرورة أن نسرد أسماء القادة فحسب. ونكتفي بالإشارة إلى أنهم لم يُستهدفوا برصاص قناصة، بل بقذائف صاروخية، فارتقى معهم زوجاتهم وعدد من أبنائهم. واستشهد في الغارات الأولى التي أودت بحياة القادة الثلاثة السابقين قرابة 12 فلسطينيًا، ليسوا على هامش السرد إطلاقًا، بل في مركزه، غير أن لضرورة الكتابة الصحفية أحكامًا.

القائد الرابع الذي ارتقى شهيدًا هو علي حسن غالي، 48 عامًا، مسئول الوحدة الصاروخية في سرايا القدس. اغتالته إسرائيل فجر الخميس 11 مايو/ آيار 2023 بغارة على شقة سكنية في خانيونس جنوبي قطاع غزة. كان لا بد أن يكون غالي، أبو محمد، على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية، فالرجل مشهور بقدراته التقنيّة العالية، وبخبرته في تصنيع الراجمات الصاروخية الأرضية والمحمولة.

انضم غالي لصفوف سرايا القدس في أوائل التسعينيّات، وتدرج في العمل العسكري بها. ويُوصف بأنه من مؤسسي الوحدة الصاروخية في السرايا، وصار نائبها عام 2010، حتى أصبحها قائدها حتى لحظة اغتياله. عاجلته عملية الاغتيال قبل أن تلتئم جراحه البالغة التي أصيب بها في العدوان الإسرائيلي العام المنصرم.

يبدو أن الوحدة الصاروخية ككيان مزعجة لإسرائيل، لهذا بالتزامن مع اغتيال قائدها علي غالي، وفي غارة منفصلة، حرصت طائرات العدو على تنفيذ اغتيالٍ خامس. اغتيال أحمد أبو دقة، نائب قائد الوحدة الصاروخية. أبو حمزة كان اغتياله معقدًا، لهذا أعلن الجيش الإسرائيلي أن اغتياله تحديدًا جاء بالتنسيق مع جهاز الأمن العام، الشاباك. ورأت إسرائيل اغتياله ضرورةً لدوره المركزي والحيوي في عمليات إطلاق رشقات الصواريخ تجاهها.

المقاومة تشاركت الصدمة والثأر

القائد السادس الذي اغتالته إسرائيل هو إياد الحسني. ارتقى شهيدًا يوم الجمعة، 12 مايو/ آيار 2023، في غارة استهدفت شقة سكنية في قطاع غزة هو ومساعده الشخصي محمد وليد عبدالعال. الحسني هو مسئول ملف العمليات في سرايا القدس، ويشغل منصب القائم بأعمال المجلس العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. الحسني، أبو أنس، مطلوب لإسرائيل منذ 26 عامًا. وتتهمه إسرائيل بأنه من المسئولين عن تنفيذ هجمات ضدها في الانتفاضة الثانية عام 2000. كما أنه المسئول الأبرز عن عملية بيت ليد الاستشهادية المزدوجة التي نُفذت عام 1995، وقتلت 22 إسرائيليًا وأصابت 60 آخرين.

بعد اغتيال الحسني كانت كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، أول من نعاه. قائلةً إنه كان في الأيام الماضية هو المسئول عن التنسيق بين قيادة السرايا والقسام خلال معركة ثأر الأحرار الراهنة للانتقام للقادة الذين ارتقوا قبله. لعل تلك من أبرز الإشارات إلى وحدة المقاومة في مواجهة العدو، وفي تكبيده أكبر ثمن ممكن لسياسة الاغتيالات التي أعاد نتنياهو إحياءها.

فقد كانت كتائب القسام ممن أصابهم سهم العدو. فقد أعلنت الكتائب عن استشهاد عيسي، أبو عماد، قائد لواء منطقة غزة. بجانب جمعة طحلب، مسئول مشروع تطوير الصواريخ في القسام. كذلك ارتقى من القسّام جمال الزبدة، مسئول قسم التطوير فيها. واستهدفت الغارات الإسرائيلية حازم الخطيب، رئيس قسم المهندسين. وارتقى سامي رضوان رئيس الوحدة التقنية في المخابرات العسكرية التابعة للقسام، ووليد شمالي رئيس قسم المعدات في قسم التطوير.

إذا وضعنا كتائب القسام وسرايا القدس في مقارنة فإن السرايا ستصبح القوة الثانية من حيث العدد والعتاد بعد القسام. ولها مندوب يمثل مجلسها العسكري في غرفة العمليات المشتركة، أما تشكيل المجلس العسكري فسريّ للغاية. لكن في حالة الاغتيالات والتعرض لصدمات الغياب المفاجئ للقادة فإن الفصائل الفلسطينية كلها تصبح سواء.

القائد يخلفه قائد

الاغتيالات تستهدف أسماء بارزة، وخسارتها تمثل خسارة فادحة لا يمكن إنكارها، لكن القائد يخلفه قائد، والدماء التي تُراق لا تزيد اللاحقين إلا عزيمة ورغبة في مواصلة المسيرة. فبينما ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي متفاخرًا بأنه وجه أكبر ضربة للجهاد الإسلامي، فإن طارق سلمي، المتحدث باسم الجهاد، قال إن نتنياهو واهم إذا اعتقد أنه بهذه الاغتيالات قد حقق أهدافه بالقضاء على الجهاد الإسلامي.

الأمر يتجاوز التصريحات المكلومة إلى الواقع المرئي. فرغم عمليات الاغتيال المستمرة لسنوات، وفي نفس الأيام التي توالى فيها ارتقاء القادة تباعًا، استطاعت حركة الجهاد امتصاص الصدمة سريعًا. كما واصلت عمليات إطلاق الصواريخ، بل وظهرت زيادة واضحة في مدى الصواريخ المطلقة، كما أحدثت أثرًا ماديًا ومعنويًا بسقوط قتلى وجرحى في العمق الإسرائيلي.

لهذا كانت إسرائيل راغبة في توسيع مدى الاغتيالات لأبعد مدى. فاستهدفت إسرائيل عبدالحليم جودت النجار، 21 عامًا، بصفته أحد عناصر الوحدة الصاروخية. واستهدفت كذلك سائد جواد فروانة، 28 عامًا، عنصر أمن في جهاز سرايا القدس. ووائل صبري الأغا، 34 عامًا، أحد عناصر وحدة الدروع بسرايا القدس في لواء خان يونس.

لكن لا تبدو أن أي محاولة لقطع تسلسل القيادة ناجحة، فالمقاومة استطاعت في اللحظات الأولى من الصدمة أن تعيد ترتيب أوراقها. لذا فبعد الصدمة بأيام وشهور سيكون الحال الأفضل، وسيصعد للقيادة آخرون يكملون. فالمقاومة تدرك أنها تطلب ثأرًا يطول، فتأخذ منه ما تستطيع، قليلًا من الحق في أعمار قادتها القليلة. فإنه ليس ثأر فرد وحده، لكنه ثأر جيلٍ فجيل. ومع كل اغتيال يقترب الغد، حيث يولد من يلبس الدرع كاملةً، يوقد النار شاملةً، يطلب الثأرَ، يستولد الحقَّ،من أَضْلُع المستحيل.