ما الذي يمكن فعله اليوم بصدد الأزمة البيئية؟ يسود شعور عام مُشترك بأن ثمة كارثة لا تواجه دولة أو قارة فحسب، بل تواجه شعوب العالم بأكملها. هنالك تجارب يتسع نطاقها من برلين إلى سان فرانسيسكو وجوهانسبورج، في الزراعة العضوية، والحد من استخدام البلاستيك، واستخدام الدراجات والطاقة الشمسية، وتأسيس بنايات تستهلك الحد الأدنى من الطاقة.  

يقترح الليبراليون المزيد من الضغط على الحكومات والقطاع الخاص من أجل إقرار قوانين أكثر جذرية، لكنهم باستعمال مجاز الأرض بوصفها الأم التي انتُهِكت قدسيتها، يُحمّلون ضمنيًا الجنس البشري بأكمله مسئولية التسبب في الأزمة بالتساوي، بينما، على سبيل المثال، تتسبب الولايات المتحدة والصين وحدهما في ما يقارب 40% من انبعاثات الغازات الدفيئة.

يصف سلافوي جيجك السياسة الليبرالية تجاه البيئة بأنها استنساخ لأيديولوجيا رومانسية تضع حدودًا للنقاش لا يمكن تجاوزها، فالأرض بنظرها هي الأم التي نبذها جميع أبنائها، وبالتالي تتحمل شعوب العالم الثالث المسئولية ضمنيًا عن ذلك بقدر شعوب العالم الصناعي، ويُحشر في سلة واحدة من ليس لديهم أية سلطة لتنفيذ إصلاحات بيئية إلى جانب من لديهم تلك السلطة، بينما تستوعب الثقافة الاستهلاكية (والتي تُمثل أحد أعمدة الأزمة) المشكلة، عبر الطقس الذي يدعوه جيجك «تطهير ضمير المُستهلك»، فَتعد ستاربكس مثلًا مستهلكيها بأن جزءًا من نفقاتهم سيذهب لصالح الأطفال الفقراء في أفريقيا؛ القارة التي تتعرض لاستنزاف موارد مُجحِف ومُنظم.

قد يدفعنا ذلك للتساؤل حول ماهية الليبرالية، وهل ليبرالية اليوم هي نفس ليبرالية سميث ومل وبنثام؟ أي الاقتصاديين الليبراليين الكبار الذين كانوا (للمفارقة) فلاسفة أخلاقيين بالأساس، لقد كتب أحدهم وهو بنثام ذات يوم «ربما يأتي ذلك اليوم عندما تكتسب بقية المخلوقات الحيوانية تلك الحقوق التي لم يكن أبدًا حرمانها منها إلا على أيدي الطغيان»، و«ربما يأتي ذلك اليوم الذي نُقر فيه بأن عدد الأرجل أو زغب الجلد، أو نهاية عظم العجز هي أسباب غير كافية بالدرجة نفسها لأن نترك كائنًا حساسًا يعاني»[1]، فهل أحبطت الليبرالية المعاصرة طموحات بنثام إلى الحد الذي تحولت فيه البشرية إلى تهديد لذاتها وليس لباقي الكائنات فقط؟

وهل كان مِل الشهير بارتيابه الدائم في كل أشكال السلطة، ليرضى عن سلطوية أساليب الدعاية الاستهلاكية «الجوبلزية» المُعاصرة، والتي تمارس سلطتها على كل مجتمعات الأرض تقريبًا، مُساهِمة في تعزيز نمط حياة قامع للفردانية، وشمولي حيث يفرض تصورات الإعلانات المُسبقَة والشمولية لنمط حياة واحدة مثالية هي حياة المستهلك، نمط هو فوق ذلك مُدمر للبيئة.

لَمْ تدفعنا الحالة البائسة لليبرالية أكثر إلى اليسار الراديكالي، الذي يدل صعود الخضر واليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية الأخيرة على تعمق أزمته، والمتمثلة في عجزه العميق عن تقديم أطروحاته الخاصة بشأن العولمة والبيئة، فالجزء الأكبر من اليسار السياسي لم يزل أسير الطموحات الليبرالية، أو الماركسية التقليدية حيال المجتمع الصناعي، بينما يتنازل عن تطوير حل سياسي للمسألة البيئية لصالح أحزاب الخضر، كما تنازل عن تطوير حل ملائم لمسألة العولمة لصالح تشنجات اليمين المُتطرف.

نزع الرومانسية عن العالم مُجددًا

بعيدًا عن الممارسة السياسية المباشرة، ما الدرس الفلسفي الذي نجنيه من الأزمة البيئية وفقًا لجيجك؟ إنه التخلي الشجاع عن آخر ما تبقى من أفكار رومانسية (ذات طابع ديني) حول الوجود البشري، الذي يتهدده الفناء في أية لحظة، إذا أردنا فعل شيء جاد، فإنه سيكون القطع مع عقائد انتظار المسيح المخلص و«يوم الحساب» الذي سيحسم كل الأزمات البشرية، والتوقف عن الاعتقاد بأن الطبيعة التي خلقها الله مُتعهِدة بإصلاح نفسها تلقائيًا لأجل الإنسان، وكذلك التخلي عن ميراث عصر الأنوار الطامح لإخضاع الطبيعة بعد أن انقلب علينا مُهددًا وجودنا.

علينا التصديق بشجاعة بأن العالم لم يُخلق لأجلنا، ولا الطبيعة وُجدت لخدمتنا، وإنما نحن مجرد مظهر من مظاهرها المتعددة، يتحدث جيجك عن فكرة «نقص العالم»، التي يناقشها عبر «سفر أيوب» من العهد القديم (باعتباره نصًا فلسفيًا)، حيث الله لا يقدم حلًا للغز بلاء أيوب أو الإنسان (لغز يمكن استبداله بالأزمة البيئية)، ولكنه يجعل الألغاز مقبولة من حيث المبدأ، وبذلك يقوم الله بنزع الرومانسية عن العالم الذي خلقه ليظهر مدى نقص الأخير وحاجته للتحسين.  

يعتقد جيجك بأنه يمكن إدراك العالم عبر التفكير في فيزياء الكوانتم، التي لا تستدعي قدرًا من الثقة في اكتمال بنائه بقدر ما تسبب من الارتياب، وهو الارتياب ذاته الحاضر في نفس أيوب حينما يُسائِل الذات الإلهية، فتتوقف الأخيرة قليلًا عن استعراض قوتها الفائقة، وتستعرض العالم الذي خلقته أمام أيوب كلغز كبير، لغز يشبه لعبة فيديو، حيث بعض الأجزاء مبنية باكتمال، بينما بعضها الآخر مبني بصورة عرَضية مثل فِناء خلفي لمنزل. تشبه البيئة تلك اللعبة غير المكتملة، فالازدهار الصناعي، والانفجار الاستهلاكي أديا إلى كارثة مُحدقة، وهي انبعاثات الكربون التي لم نحسب حسابها سوى متأخرًا للغاية، والتي تُماثِل الِفناء غير المكتمل لمنزلنا أي الأرض، لكنه ليس فِناءً عارضًا قد يسبب ارتباكًا لرؤيتنا فقط، لكنه يُهددنا بالفَناء.

[1] الفلسفة البيئية، مايكل زيمرمان ص 59