– هذه الصغيرة ميتة! اصطك حنكا إيغوشي. فركت المرأة عينيها وقالت دون أن ترتعش: -ميتة؟ ولماذا تكون ميتة؟ – بل هي ميتة، أؤكد لك. لم تعد تتنفس ونبضها متوقف.
الفصل الأخير، موت الفتاة ذات البشرة السوداء.

فتاة جميلة عارية ممددة – تحت تأثير المخدر – على سرير في غرفة محاطة بستارة مخملية قرمزية توحي بالعبور إلى عالم خيالي بعيد كل البعد عن الواقع ومساوئه، كأنها تنبض بالحياة بمنزل يرتاده العجائز، محرم عليهم مس عذريتهن، ما مسموح به هو لمسهن والنوم بجوارهن والتمتع بجمالهن الذي ينبض بالحياة والشباب الذي فقده هؤلاء العجائز.

في رواية «الجميلات النائمات»، يدخلك الأديب الياباني «ياسوناري كواباتا» عالم «إيغوشي»، عالم الحب والجنس والوحدة واليأس والذكرى، يجوب في أعماق نفسه، وحسراتها، الحنين للذكرى والخوف من الموت، الرغبة في الحصول على السلام قبل الموت. خمس ليال وست فتيات مختلفات، جمعهم إلهامهم للأحلام السعيدة أو ربما لذكريات الشباب.

أرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة! هذا غير لائق.

قالتها المضيفة موضحة أن هذا المنزل لا يأتيه سوى زبائن لا يجلبون المتاعب، ولكن إيغوشي في قرارة نفسه كان يرى أنه ما زال لم يدخل في هذه المنطقة ولم يبلغ من الشيخوخة ما تبعده عن جلب المتاعب، كان إيغوشي متعجبًا من قوانين هذا المنزل ومحرماته، وفكّر في أن ينتهكها ولكنه تراجع وأخذ عهدًا على نفسه بألا يتخطى هذه الممنوعات.

ما الذكرى التي تثيرها هذه الفتيات؟

ربما كان محمود درويش مخطئًا حين قال إن الحنين هو استرجاع الفصل الأجمل في الحكاية، فإيغوشي لم يسترجع أفضل ذكرياته، بل ما كانت تثيره في نفسه هذه الذكريات لا شيء غير الحنين للحزن.

لقد دخل إيغوشي هذا المنزل بدافع الفضول في بدء الأمر ثم تطور إلى دافع الرغبة. كل رائحة وكل فعل لا إرادي من هذه الفتيات يثير في نفسه ذكرى ما. فأول فتاة تصاعدت منها رائحة مثل رائحة الحليب التي تفوح من الرضع جعلته يشعر بالوحدة والحزن، فهذه الرائحة ذكرته برائحة أحفاده وبناته وذكريات أخرى مع نساء.

أما الثانية فرقوده بجانبها جعله يغوص في رؤى جديدة متعلقة بذكريات قديمة كأزهار الكاميلية منزوعة البتلات، كانت هذه الأزهار مرتبطة برحلة قام بها مع بناته المتزوجات، كذلك ذكرياته مع نساء فتيات من خارج العائلة، فتوهم أن الفتاة الراقدة بجنبه تنتمي إلى نساء هذه الفترة.

أما الفتاة الثالثة فذكرته بامرأة كوب «الغرق في نوم قاتل»، وعاهرة الرابعة عشر عامًا. والفتاة الرابعة كانت رائحتها نفاذة وقوية للغاية وذكرته أيضًا برائحة الرضيع. ومع آخر فتاتين تذكر أمه واستحضر ذكرى مرضها ووفاتها.

«لقد حكت شاعرة، ماتت على إثر سرطان وهي لم تزل شابة، عن ليالي الأرق في إحدى قصائدها قائلة: «هوذا الليل يخبئ لي … ضفادع وكلابًا ميتة وغرقى».

ما الذي يدفع العجائز لارتياد هذا المنزل؟

لقد قرر إيغوشي أن ينتهك محرمات هذا المنزل وينتقم للعجائز الضعفاء الذين يرتادون عليه، ولكن اكتشافه لعذرية هذه الفتاة جعله يبعد هذه الفكرة كلية عن باله. لقد أدرك أن النوم الهادئ إلى جانب هذه الفتيات فيه تعزية وهمية للسعي الدائم وراء مباهج الحياة الغاربة.

أفكار وأسئلة كثيرة كانت تدور ببال إيغوشي، أهمها: لِمَ يتردد العجائز على هذا المنزل وما المتعة في ذلك؟ وتوصل إلى إجابات عديدة منها أنه لا يوجد بوذا للعجائز كي يركعوا إليه، وأن هؤلاء الفتيات العاريات اللاتي تضمهم دون إدراكهن تمنحهم حريتهم المطلقة في الندم والنحيب دون الشعور بالخجل.

بتتابع الأحداث تزداد الرغبة ويزداد فضول إيغوشي وتظهر عنده الرغبة في الحصول على نفس المخدر الذي أُعطي لهذه الفتيات.

فوكورا والفتاة السمراء

ذلك العجوز «فوكورا» الذي كان يقضي ليلة بجانب فتاة من الجميلات النائمات وتلفظ أنفاسه الأخيرة محاولًا خنقها.

كان من نصيب إيغوشي في هذه الليلة فتاتان استعاد معهن ذكرى امرأة أخرى وازدادت رغبته في تحطيم محرمات هذا المنزل وإيقاظ الفتاة.

كان يرى أن الفتاة غير السمراء هي آخر امرأة في حياته وهذا جعله يتساءل من هي المرأة الأولى في حياته؟ وتوصل إلى حقيقة أنها أمه، واستعاد ذكرى احتضارها ثم تناول الحبوب المنومة، ولكن أفاقه موت الفتاة السوداء التي أصبح جسمها باردًا ولم تعد تتنفس وقلبها لم يعد يخفق.

لقد اختار الكاتب فصل الشتاء كزمن لأغلب أحداث هذه الرواية، ربما هذا الاختيار عكس مدى الحاجة إلى الحب والدفء في أكثر الأوقات بردًا، كما أن فصل الشتاء يعكس الموت لأنه آخر فصول السنة، ويعكس هذا الحوار الذي دار بين مضيفة المنزل وإيغوشي في الفصل الخامس عندما سألته لماذا أتى في ليلة باردة كهذه فقال: «ألا تعتقدين أنني أتيت لهذا السبب بالذات؟ أليس الموت المفاجئ في حرارة جسد شاب هو النعيم المنشود لرجل عجوز؟».

كما أن إيغوشي كرر التحدث عن صخب الأمواج والرياح، والذي بدوره يعكس حالته، فقد كان يملأه الفوضى والاضطراب والخوف كالبحر تمامًا.

ما جدوى الذكرى؟

يُقال إن لا شيء كالروائح جدير بأن يجعلنا نتذكر الماضي.
هذه الرواية تثير في نفسي سؤالًا: «ما الجدوى من الذكرى؟».

لقد قالت لي صديقة ذات مرة: يجب أن ينتبه الناس إلى أفعالهم، يجب أن يكونوا على اقتناع بما هم مقدمين عليه؛ لأنهم عندما يتقدمون بالعمر تصبح هذه الأفعال ذكرى، ولذلك هل تحبين أن تجلب الذكرى في النفس الارتياح والطمأنينة أم الذعر والندم؟

ربما لا نحتاج شيئًا في شيخوختنا سوى أن نمتلك الحب والقرب الذي يثير الدفء في نفوسنا ويبعث بالطمأنينة، لا نريد أن نكون وحيدين مثل إيغوشي، لا نريد أن نستسلم للذكرى ولا للموت، وكما يقول مؤلف «الجميلات النائمات»: «للعجوز الموت، للشاب الحب، نموت مرة واحدة، نحب مرات عديدة».