بينما كانت أفكاره حرة تنطلق لتكشف الستار وتُسقط القناع عن تزييف الحقائق التاريخية، كان قابعًا هناك، يُحاكم بتهمة ألا تهمة، وجريمة ألا جريمة، يُحاكم على أفكاره التي أبت أن تستسلم لأفاقي ومُزيِفي الحقائق التاريخية.إنه روجيه جارودي الكاتب والمفكر الفرنسي الشهير، الذي تمت محاكمته من أجل كشفه لأسطورة «ملايين الهولوكوست الستة» التي ادعاها اليهود من أجل أغراض يُفنّدها جارودي في كتابه الذي بين يدينا «محاكمة جارودي».


محاكمة باطلة

يبدأ جارودي بتوضيح ما تم اتهامه به وما تم محاكمته من أجله، فيستعرض ما قامت به جماعة «الليكرا» (الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية) من مقاومة لكتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، والذي تُرجم في ثلاث وعشرين دولة، وقد جاء موقف «الليكرا» معاديًا لهذا الكتاب لأن جارودي يُحذّر فيه من خطر حرب يخلقها اللوبي العالمي، كما أنه قد فنّد في هذا الكتاب الأساطير التي قامت عليها إسرائيل، وما يعد الأخطر بالنسبة لليكرا في هذا الكتاب هو دعوة جارودي للبحث العلمي الدقيق في الرقم «المقدس» لضحايا الهولوكوست والذي تم تقديره بـ 6 ملايين يهودي.وعندما انتقد جارودي السياسة الإسرائيلية أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، والذي أسفر عن 20 ألف قتيل، وقد نشرت صحيفة لوموند الفرنسية مقالاً لجارودي ينتقد فيه السياسة الإسرائيلية المتوحشة، قررت جماعة «الليكرا» مقاضاة جارودي، وتقديمه للمحاكمة، وكان السبب الرئيسي للمحاكمة هو تشكيك جارودي في أسطورة عدد ضحايا الهولوكوست، وقد رُفضت دعواها في البداية.ولكنها عادت مرة أخرى لتقاضي جارودي وتقدمه للمحاكمة، بسبب مواقفه المناهضة للسياسة الإسرائيلية، وكان ذلك عام 1996، وقد تجددت دعوتهم تلك بناءً على تبني فرنسا لقانون «فابيوس – جيسو»، حيث ينص القانون على معاقبة كل من يُعبر بكلمات أو أفعال تنم عن عنصرية ومناهضة للسامية وتحض على الكراهية العرقية.وقد أوضح جارودي أن هذا القانون جعل من محكمة نورمبرج التي أعلن رئيسها أنها كانت آخر عمل حربي للحلفاء، جعلتها المرجع النهائي المطلق للحقيقة التاريخية.

يقر جارودي أنه يحترم الديانة اليهودية، أما الصهيونية فهو يعتبرها سياسة قومية متطرفة واستعمارية.

وكما أوضح المحاميان جاك فيرجيس والسيد بيتيلو، اللذان كانا يدافعان عن جارودي أثناء محاكمته أن هذا القانون خلافًا لكل من الدستور الفرنسي والإعلان الدولي لحقوق الإنسان، فقد أوجد نوعًا من التفرقة العنصرية لصالح فئة واحدة من ضحايا هتلر، متجاهلاً ضحايا كل الأشكال البربرية الأخرى، ولذلك استغل اللوبي الصهيوني هذا القانون وقدم جارودي للمحاكمة مرة أخرى.ويقر جارودي هنا أنه يحترم الديانة اليهودية، أما الصهيونية فهو يعتبرها «سياسة يحاربها، كسياسة قومية متطرفة واستعمارية»، كما يؤكد جارودي أنه لا يقلل من حجم الجريمة التي ارتكبها هتلر، ولكنه يرى أن الرقم الذي يعرضه اليهود مبالغ فيه، فبعد التحقيقات المتتابعة التي قامت بها الجمعيات العلمية انخفض الرقم من 6 ملايين إلى مليون واحد فقط، وقد أكد جارودي في هذا الصدد أنه كشف في كتابه المشار إليه سابقًا التلاعب الحسابي في أرقام ضحايا الهولوكوست الذي لا يخدم فقط تعويض الضحايا، لكن وكما اعترف «ناحوم جولدمان» أن هذه «التعويضات استُخدمت لتمويل البنية الأساسية لدولة لا تملك أي حق في هذه التعويضات، بما أنها لم تكن موجودة في زمن ارتكاب هذه الجرائم، وهي الدولة التي استخدمت هذه التعويضات لبناء قوتها ولارتكاب جرائم جديدة».وأوضح روجيه اتهامًا آخر وُجه ضده من قِبل اللوبي الصهيوني وهو نفيه وجود غرف الغاز لضحايا الهولوكوست، بينما أوضح روجيه أنه لم يطلب سوى مناظرة علمية علنية بين المتخصصين وطالما لم يتم عقد هذه المناظرة فقد استنكر جارودي هذا الاتهام، خاصة وأن هناك من المؤرخين المعروفين بالموضوعية لم يشيروا في تأريخهم للهولوكوست لما يُعرف بغرف الغاز هذه لذلك يرى الكاتب أن هذه المسألة تستحق الفحص والتدقيق.


الرقم «المقدس» لضحايا الهولوكوست: من أجل من!

أورد جارودي بعض الملاحظات على عريضة الاتهام التي اتُهم بها، فيرى أن معظم الانتقادات والتهم لم تعترض على أطروحاته حول الحجج اللاهوتية للسياسة الإسرائيلية، خاصة وأن هذه السياسة كانت الموضوع الأساسي لكتابه، كما لم يتطرق الادعاء إلى الفصل المتعلق بتعاون قادة الصهاينة مع هتلر منذ اتفاقيات «هعفاراه»[1] المرتبطة بقيام الصهاينة بخرق الحصار الاقتصادي على ألمانيا الهتلرية، حتى العروض التي قدمها «إسحاق شاميير» للتعاون العسكري مع النازيين وكذلك العروض البشعة بمبادلة مليون سجين يهودي بعشرة آلاف شاحنة للجبهة الشرقية عام 1944.ومن جهة أخرى فيرى جارودي أن كتابه موجه لسياسة إسرائيل ولا يتطرق إلى تاريخها إلا عند اللجوء لتعليل هذه السياسة. وجاء هذا التجاهل للقضايا الهامة التي عرضها جارودي في كتابه، لأن كل ما يهمهم أنهم لا يريدون أحدًا أن يزعزع أسطورة الرقم المقدس لضحايا الهولوكوست، فكانت تلك جريمة جارودي التي حوكم من أجلها.

جزء بسيط من تعويضات الهولوكست ذهبت إلى مستحقيها، لكن الجزء الأكبر منها ذهب إلى خدمة أغراض أخرى في إسرائيل.

لا أعرف ماذا سيكون مصير إسرائيل لو لم تصدق ألمانيا بتعهداتها، فالسكك الحديدية، ومنشآت الموانئ، وأنظمة الري، وقطاعات كاملة من الصناعة والزراعة لم تكن لتصل إلى ما هي عليه لولا التعويضات الألمانية.

صهيونية بمعارضة دينية

يرى جارودي أنه من الإجحاف والظلم الذي أوقعه عليه جماعة «الليكرا» أنهم تعمدوا أن يتهموه أنه يعيب في اليهودية وينتقدها، وهو ما لم يحدث، فجارودي يؤكد أنه يُفرّق تمامًا بين اليهودية كدين، وبين الصهيونية كحركة سياسية، لذلك قرر جارودي أن يعرض جزءًا خاصًا عن تعريف الصهيونية بادئًا بتعريفها من مصادرها الأصلية، وقد وجد التعريف الأكثر رسمية في «الموسوعة الصهيونية وإسرائيل» التي نشرتها هرتزل بوك – نيويورك عام 1971، برعاية رئيس إسرائيل.ويقول هذا التعريف أن الصهيونية «مصطلح أُطلق في عام 1890على الحركة التي جعلت هدفها عودة الشعب اليهودي إلى أرض إسرائيل (فلسطين) ومنذ 1896 ارتبطت الصهيونية بالحركة السياسية التي أسسها تيودير هرتزل».وجدير بالذكر أنه عندما أسس هرتزل هذه الحركة السياسية واجه معارضة كبيرة من غالبية اليهود وحاخاماتهم، كما لخص «بروفوس لوارزي» رد المنظمات اليهودية على رسالة هيرتزل قائلا «عارضته أهم المنظمات اليهودية في أوروبا الغربية».وقد استشهد جارودي بما قاله «ماكس نوردو»، أحد أقرب المساعدين لهرتزل في أن هناك فرقًا جوهريًا بين الصهيونية واليهودية، فقد كتب نوردو عام 1902 «أن النقطة الوحيدة التي تمنع، ربما إلى الأبد، إمكانية تفاهم اليهود الصهاينة، واليهود غير الصهاينة، هي قضية القومية اليهودية، هؤلاء الذين يعتقدون ويؤيدون فكرة أن اليهود ليسوا أمة، لا يمكن بالتأكيد أن يكونوا صهاينة».

عندما أسس هرتزل الحركة الصهيونية، واجه معارضة كبيرة من غالبية اليهود وحاخاماتهم.

وأكد جارودي على الخصائص غير الدينية والاستعارية لمؤسسة هرتزل الصهيونية ويدلل على ذلك برسالة هيرتزل إلى الجنوب إفريقي «سيسل روديس»، والتي جاء فيها: «إنك في الواقع الرجل الوحيد الذي يمكن أن يساعدني… لأن الأمر يتعلق بمهمة استعمارية … إنني لا أطلب منك أن تمدني أو تقرضني الأموال لكن أن تضمن بسلطتك المشروع الصهيوني …».كما أن رسالة هيرتزل إلى سيسل روديس لم تترك أي شك حول أن الفكرة الأساسية عند هرتزل هي أن يُطبّق في الشرق الأوسط نفس السيناريو الذي طبقه سيسل روديس في جنوب إفريقيا، حيث إنشاء شركة بميثاق، على غرار نموذج شركة الهند تحت حماية قوى استعمارية عظمى مثل إنجلترا التي عرضت على هرتزل بدورها «أوغندا» لتكون هي الوطن القومي لليهود والتي قبلها هرتزل بسرور، لكن رفاقه لفتوا نظره إلى أن فكرة العودة إلى فلسطين يمكن أن تكون محركًا قويًا لليهود المتدينين الذين سيرون فيها وطنًا روحيًا”.وأخيرًا، فقد أُختتم هذا الكتاب بعرض لمرافعات المحامي الفرنسي «فيرجيس»، ومرافعة الدكتور «علي الغتيت» الذي سافر إلى باريس متطوعًا للدفاع عن روجيه جارودي.


[1]– في مقابل اعتراف النظام النازي بالمنظمة الصهيونية كممثل وحيد ليهود ألمانيا، عرض القادة الصهاينة خرق المقاطعة التي كانت جميع القوى المناهضة للفاشية في العالم تحاول فرضها على ألمانيا، وقد بدأ هذا التعاون الاقتصادي في عام 1933، حيث تأسست شركتان هما “هعفاراه”، في تل أبيب، و”بالترو” في برلين.