إن الإنسان كائن اجتماعي، ولكنه ليس الكائن الاجتماعي الوحيد، فالكثير من الكائنات الأخرى تعيش في مجتمعات، وقد تختلف هذه المجتمعات في بعض خصائصها وأشكالها، ولكنها تتفق جميعًا في الدافع الأوّلي الكامن وراء تكوينها؛ وهو محاولة التأقلم مع صعوبات البيئة الخارجية، من خلال الحصول على المَنعة والدعم اللذين يُوفرهما المجتمع. هذا هو الدافع الذي تشترك فيه جميع الكائنات في تكوينها لمجتمعاتها، وفي حرصها على ترابط هذه المجتمعات واستمرارها.

ورغم ذلك، قد اكتسب المجتمع عند الإنسان قيمةً إضافية تربو على الدافع الأولي المادي عند باقي الكائنات. فحاجات الإنسان لا تقتصر على الحاجات المادية، ودوافعه في الحياة لا تنحصر في الرغبات والغرائز الأولية. ولعلنا إن أردنا تعريف الإنسان، نجد أنه الكائن الذي يسعى إلى ما وراء البقاء، بخلاف الكائنات التي يقتصر سعيها في الحياة على البقاء. ولذلك صار المجتمع البشري يُلبي الاحتياجات المعنوية والنفسية لدى أفراده، بل إن حالة المجتمع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحالة الإنسان النفسية، كما يُشكِّل تصورُ الإنسان للمجتمع ووعيه بالعلاقة بينه وبين أفراده الآخرين أسلوبَ حياته وطريقة تفكيره.

الحاجة إلى التقدير بين الإفراط والتفريط

ومن المعروف أن حاجة الإنسان إلى التقدير هي إحدى أهم هذه الاحتياجات النفسية، وأشدها إلحاحًا عليه. وإشباع «الحاجة إلى التقدير» هي واحدة من ركائز الصحة النفسية وضرورة من ضرورات اتزان الشخصية. كل ذلك شريطة أن تظل في نطاقها الطبيعي، لا أن تستولي على تفكيره كله بطريقة تجعله لا يُفكر ولا يصدر عنه أي سلوك إلا امتثالًا لأمر هذه الرغبة. وتصبح الحاجة إلى التقدير -خارج هذا النطاق الطبيعي- رغبة جامحة تُشكل على صاحبها ضغطًا نفسيًا كبيرًا.

والتقدير إما أن يكون ذاتيًّا؛ مُعتمدًا على تقييم الإنسان لذاته من غير تدخل عنصر خارجي. وإما أن يكون تقديرًا خارجيًا؛ معتمدًا على تقييم الإنسان لذاته بناء على تقييم الآخرين له. والإنسان السوي يجمع بين نوعي التقدير في موازنة ووئام، فلا يطغى عنده التقدير الذاتي على التقدير الخارجي، فيدفعه ذلك إلى ازدراء المجتمع الذي يعيش فيه، واحتقار قيمه ومبادئه وأعرافه، ويصير حبيس نرجسية مشؤومة تعزله عن الناس وتُنفّر الناس منه. ولا يطغى كذلك عنده التقدير الخارجي الاجتماعي على تقديره الذاتي، فيحتقر ذاته ويزدريها، ويجعلها وَقفًا على أنظار الآخرين وآرائهم، فإن رآه الناس جديرًا بالتقدير قَدّر نفسه، وإن سلبوا منه هذا التقدير لم يجد المسكين لنفسه قيمة ولا قدرًا. وإن كان إرضاء الناس غاية لا تُدرَك، فكذلك تقدير الذات بناء على رضا الناس هو غاية لا تُدرَك.

وهذه المبالغة في الاعتماد على تقييم الآخرين، تؤدي بالإنسان إلى حالة مريرة من الاضطراب والشتات، وتحرمه الاستقرار النفسي والصفاء الذهني، فتقل فاعليته في المواقف الاجتماعية المختلفة، وتضطرب علاقاته بالناس، وينجم عن ذلك ضغط نفسي هائل يؤثر بالسلب على نواحي حياته المختلفة. هذه الحالة النفسية البائسة هي ما أطلق عليها علماء النفس: «القلق التقييمي الاجتماعي» أو كما سماها آلان دو بوتون: «قلق السعي إلى المكانة».

«قلق السعي إلى المكانة»

آلان دو بوتون هو فيلسوف بريطاني وكاتب معروف، يحاول في كتاباته المختلفة أن يُسقِط الفلسفة على أرض الواقع ويُقرّبها من الناس ويجعل مفاهيمها قابلة للتطبيق في الحياة اليومية. وأسفرت محاولاته هذه -في تقريب الفلسفة لغير المتخصصين- عن وجهٍ آخر للفلسفة، وجه قريب من الناس وقريب من الحياة، على خلاف التصور الشائع بأن الفلسفة ما هي إلا تحليق في عالم المُجردات والمُثُل الميتافيزيقية البعيدة عن الواقع.

تناول دو بوتون في كتابه «قلق السعي إلى المكانة» مشكلة القلق الاجتماعي التقييمي تناولًا حشديًّا موسوعيًا، فقام باستعراض الظاهرة من جوانب عديدة، واستعان في سبيل دراستها بمجموعة من الحقول المعرفية والفكرية المختلفة مثل الفلسفة والسياسة وعلم النفس. وقد أدت طريقة التناول هذه إلى إثراء مادة الكتاب وتنويع محتواه، وإن دفعت الكاتب في بعض الأحيان إلى انتزاع المعلومات من سياقها الأصلي وتكديسها في سياق الكتاب وموضوعه. وقد تكرر هذا النشاط الترقيعي في مؤلفاتٍ أخرى لدو بوتون، مثل كتابه «دين للملحدين»، الذي حاول فيه أن يُطوع القيم الدينية بحيث يتمكن الملحد أن يستخدمها كما يستخدمها المؤمن.

الأسباب والحلول

ينقسم كتاب قلق السعي إلى المكانة إلى جزئين؛ يبحث دو بوتون في الجزء الأول عن الأسباب التي تؤدي إلى قلق السعي إلى المكانة، ومن تلك الأسباب -كما يراها دو بوتون- حاجة الإنسان إلى الحصول على الحب الذي توفره له مكانته الاجتماعية، وليس المقصود بالحب هنا الحب الجنسي، بل حب الناس وتقديرهم لنا وقبولهم لما نحن عليه. وكلا الضربين من الحب -الرومانسي والاجتماعي- مشتركان في حدتهما العاطفية وأهميتهما بالنسبة للإنسان، ويقول دو بوتون عن المحبوبين بسبب المكانة:

شأنهم شأن المحبوبين في الغرام الرومانسي، سوف يشعرون بالأمان تحت النظرة الحانية لمن يقدرونهم.

واعتبر دو بوتون التباهي الاجتماعي أو ما سماه بـ التغطرس أحد أسباب القلق من تقييم المجتمع ونظرة الآخرين. ويتخذ التغطرس صورًا عدة، فقد يكون المُتغطرس فردًا واحدًا: صديقك بالعمل أو منافسك في الدراسة على سبيل المثال. وقد يكون طبقة اجتماعية كاملة، كما كان واضحًا في المجتمعات الأرستقراطية. والمشترك بين صور التغطرس المختلفة أنها تجعلك قلقًا حيال مكانتك في المجتمع، والمتغطرسون يسحبون بساط الأمان النفسي من تحت قدميك، فتشعر حولهم دائمًا بعدم الارتياح والخوف على مكانتك.

أما الجزء الثاني من الكتاب -وهو الذي خصصه بوتون للحلول- فقد جاء شاهدًا على تنوع ثقافة الكاتب وسعة اطلاعه. طاف فيه دو بوتن على حقول ومجالات مختلفة واقتطف منها حلولًا عملية لمعالجة القلق من تقييم المجتمع. من هذه الحلول مثلاً، عقلنة آراء الآخرين وعدم قبولها دون تمحيص، ومنها توسيع أفق النظر للحياة وتوسيع مدى التعاطف الإنساني وعدم اختزال الناس في مكانتهم الاجتماعية، وغيرها من الحلول التي استنبطها من القيم الدينية والأعمال الفنية وبعض المذاهب الفلسفية والتصوفية.

صورة بليغة

في الترجمة العربية للكتاب، الصادرة عن دار التنوير، تجد غلاف الكتاب غلافًا بديعًا! أدمنتُ النظر إليه أثناء قراءتي للكتاب، وحتى بعد انتهائي من قراءته لم أستطع منع نفسي من إعادة النظر إلى هذه الصورة كلما سنحت الفرصة.

والصورة على بساطتها الشديدة تحمل معنى غاية في التركيب والعمق، وتحمل-من وجهة نظري- الحل الأمثل لمشكلة تقدير الذات ومشكلة القلق من تقييم المجتمع ونظرة الآخرين.

في الصورة تجد شخصًا واقفًا، لا يظهر من جسده إلا الجزء السفلي من رجليه وحذائه. مرسوم في مقابل هذا الشخص كرسي خشبي ضئيل الحجم بالنسبة لحجم الشخص الواقف. وضآلة حجم الكرسي بالنسبة لحجم هذا الشخص هو مربط الفرس.

والمعنى الذي تتأوّله من هذه الصورة، هو أن الإنسان أكبر بكثير من الصورة التي يرسمها الآخرون عنه وأكبر بكثير من المكانة التي يتبوؤها في مجتمعه. قيمة الإنسان تفوق ذلك بكثير. وحياة الإنسان الاجتماعية ليست كل شيء، بل هي جانب واحد ضمن جوانب أخرى كثيرة لحياة الإنسان. والصورة التي يرسمها الناس عنك (الكرسي) ما هي في الحقيقة إلا نظرة ضيقة وسطحية تجاهك، لا ترى فيك إلا جانبًا واحدًا من كيانك الضخم الكبير (الشخص الواقف).

وكما أننا سنعاتب هذا الشخص إذا حاول أن يجلس على الكرسي الضئيل بالنسبة إلى حجمه، فالأولى بالعتاب هو ذاك الشخص الذي يحاول أن يحشر قيمته وقيمة حياته بجوانبها الفسيحة في قوالب ضيقة يرسمها له الناس ويفرضها عليه المجتمع.