انطلقت مواقع التواصل الاجتماعي قبل نحو 15 عامًا من الآن، وسرعان ما أخذت تتطور وتشَغْل مساحة أكبر على المستويين الفردي والاجتماعي حتى أصبحت تلعب دورًا بارزًا في الحياة السياسية وفي التأثير على حركة الرأي العام.

ظهر ذلك جليًا بداية بالثورات العربية التي عُرفت بـ «الربيع العربي»، وهي التي كان لمواقع التواصل الاجتماعي دور رئيس في تحريكها وتنظيمها، وصولًا إلى الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي صُنّفت الأعلى استقطابًا في تاريخ الولايات المتحدة، وانتهت بحدث استثنائي لم تعرفه الحياة السياسية الأمريكية من قبل، حيث اقتحم أنصار الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب مبنى الكونجرس في مشهد هوليودي هزلي، وكانت تغريدات الرئيس ترامب عبر حسابه على موقع تويتر السبب الرئيس في انفجار تلك الموجة الغاضبة.

السوشيال ميديا كفضاء عام

يُعرّف الفيلسوف الألماني المُعاصر يورجن هابرماس «الفضاء العام» بأنه المساحة التي يتبادل فيها أفراد المجتمع الآراء والنقاشات حول ما هو مشترك بينهم بخصوص المجتمع الذي يعيشون فيه، حيث تكون تلك المساحة غير خاضعة لسلطة ورقابة الدولة.

بدأ يتكون هذا الفضاء في القرنين السابع عشر والثامن عشر من خلال تشكُّل الطبقة البرجوازية، حيث أدّت سياسات التجارة الحرة وتبادل السلع إلى خلق مساحة موازية لتبادل الآراء الحرة. ومع تضييق الدولة على تلك المساحة باعتبارها المسيطر على كل أشكال الحياة الاجتماعية، كوّنت الدوائر البرجوازية وعيًا مضادًا ضد سلطة الدولة ولِدَ من خلاله الفضاء العام كمساحة حرة لتبادل الآراء وتشكيل رأي عام مناهض لسلطة الدولة.

وفي سياق المجتمعات التكنولوجية الحديثة، نشأت مواقع التواصل الاجتماعي كأداة لتسهيل التواصل بين البشر، ولكن ما لبثت أن تمحورت تلك الأداة لتصبح وسيلة إعلامية حرة يستطيع من خلالها أي إنسان أن يشارك آراءه ووجهات نظره مع الجميع دون الحاجة إلى أن يكون منتميًا إلى طبقة بعينها؛ ذلك الشرط الذي كان من الضروري تحقيقه في مساحات الفضاء العام الكلاسيكية.

وقد أنكر هابرماس قدرة وسائل الإعلام التقليدية على تأدية وظيفة المجال العام، حيث تشترط نظريته أن تكون هناك مساحة للفرد للتفاعل مع الرأي العام، وهذا ما لا توفره الصحافة والإعلام بشكله التقليدي الذي وصفه هابرماس بـ«الفضاء العام أُحادي الاتجاه»، أي أنه يلعب دورًا وعظيًا داخل المجتمع أكثر من كونه نقديًا.

وعلى جانب آخر، تراجعت حرية الصحافة بشكل عام حول العالم بخضوع أغلب المنصات الصحفية والإعلامية لسلطة الدولة، رغمًا بسبب القمع، أو طواعية بدافع التملُّق، أو لتبنّيها أجندات حزبية وسياسية معارضة للدولة. أدى ذلك إلى الحد من المساحات الحرة التي تعمل بها الصحافة مما أدى لانتفاء الشرط الأساسي الذي يجعل منها فضاءً عامًا، ومن ثمّ تحولت لفضاء خاص.

هذا الأمر جعل مواقع التواصل الاجتماعي تنتهز الفرصة وتنقض على هذا الاحتياج الاجتماعي الحثيث لتُنصّب نفسها ملكةً على عرش الفضاء العام.

من العام إلى الخاص

في السنوات الأخيرة، اتخذت إدارات مواقع التواصل الاجتماعي سياسات جديدة تجاه منصاتها، حيث بدأت في الالتزام بما أطلقوا عليه «معايير المجتمع»، وهي مجموعة من الخطوط الحمراء الموضوعة على أساس مفاهيم الصوابية السياسية. وبدأت تلك المنصات في اجتثاث المنشورات التي تخالف تلك المعايير.

تجلّت تلك السياسات مؤخرًا في تعطيل حساب الرئيس الأميركي دونالد ترامب نهائيًا على منصة تويتر بعد حادثة الكونجرس المذكورة آنفًا بدعوى استخدام حسابه للتحريض على العنف. هذا الأمر أسفر عن انهيار أسهم تويتر في البورصات العالمية بنسبة وصلت لـ8%، ليس فقط لأن الذي تم منعه من الحديث هو رئيس أكبر دولة في العالم، بل أيضًا بسبب التكهنات العديدة بشأن فرض قيود من الإدارة الأمريكية الجديدة على منصات التواصل الاجتماعي التي بدأت تتغوّل وتضع نفسها في موضع يتجاوز سلطة الدولة.

المفارقة هي أن تلك السياسات لم تولد من خارج الفضاء العام، بل من داخله. حيث اعتمدت نظرية الفضاء العام الهابرماسية على الطبقة البرجوازية بالأساس، وتجاهلت الطبقات الأخرى. فالبرجوازية هي الطبقة التي استخدمها هابرماس في تحليلاته، حيث إنها هي التي تمتلك الأدوات التي تُمكّنها من بناء رأي عام معارض للدولة وامتلاك مفاتيح الرأي العام بشكل منفرد بحيث أصبح في سلطة تلك الطبقة أن تتحكم في الفضاء العام وتحركه بما يتوافق مع مصالحها دون الأخذ في الاعتبار مصالح سائر المجتمع.

من هنا يأتي التحول البنيوي الذي ظهر على منصات التواصل الاجتماعي كفضاءات اجتماعية، حيث أصبحت مواقع التواصل تُقاد من قِبل نخبة برجوازية تفرض رؤيتها على جميع المستخدمين بشكل غير مباشر، وفقدت أحد الشروط الأساسية التي تجعل منها فضاءً عامًا، حيث باتت المنشورات تخضع لرقابة صارمة من قِبل خوارزمات شديدة الدقة تتلهف لاصطياد أي كلمة أو تعبير مخالف للمعايير لتقوم بحذف المنشور فورًا، وربما بحذف الحساب بالكامل إذا تكررت مخالفته للمعايير. فأصبحت تلك المنصات فضاءً خاصًا خاضعًا لسلطة تفرض رؤيتها أشبه بسلطة الدولة.

الفضاء العام مقابل الدولة

ركّز يورجن هابرماس كثيرًا على فكرة تجاوز الدولة، حيث اعتبر أن ذلك هو السبيل الوحيد لمقاومة سيولة التدفقات، أو بتعبير آخر، مقاومة العولمة والسياسات الاقتصادية الرأسمالية التي يرى أنها دمرت المجتمعات الصناعية الحديثة، ورأى أن «الفضاء العام» يمكن أن يكون الحل لتلك الأزمة بصفته مجالاً اجتماعيًا محركه الرئيسي هو التحليل النقدي للوظائف السياسية للدولة.

وبتحوّل منصات التواصل الاجتماعي إلى وظيفة الفاعل الاجتماعي المؤثر في الأحداث السياسية حول العالم، شعرت الدولة ككيان بالتهديد من جانبين:

أولًا، وجود الفضاء العام كفاعل اجتماعي في حد ذاته يعد تهديدًا لسيادة الدولة وهيمنتها، حيث يوجد مجال مفتوح يتم فيه تبادل جميع الآراء والأفكار والنقد في غياب تام لسيطرة أجهزة الدولة.

وثانيًا، مع وقوع منصات التواصل الاجتماعي في يد طبقة اجتماعية بعينها، تتشارك في المصالح وتتكاتف من أجل تحقيقها، تحولت تلك المنصات من فضاءات عامة إلى خاصة من حيث المفهوم، حيث أصبح ذلك الأمر يشكل تهديدًا أكبر على الدولة، إذ إن المجال العام لم يصبح مفتوحًا فحسب، بل بات يسيطر عليه كيان خارج عن الدولة ولا يخضع لسلطتها بأي شكل، بل يمكن أن تتعارض مصالحه مع الدولة أحيانًا.

السؤال إذن هو: ما الذي يمكن أن يمنع ذلك الكيان من أن يقود حملات لتوجيه الرأي العام كما حدث بالفعل في الانتخابات الأميركية الأخيرة حينما تعمّدت منصات التواصل الاجتماعي إرفاق إعلان دائم يشير إلى كذب التصريحات التي ينشرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب؟

الأفق الذي لا يمكن تجاوزه

قسّم الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل المجتمع إلى ثلاث مراحل أساسية تبدأ من الأكثر بساطة إلى الأكثر تعقيدًا، هي: الروح الذاتي، والروح الموضوعي، والروح المطلق. يمثّل الإنسان أو «الشخص» بتعبير هيجل وهو (الذات الواعية لذاتها) الروح الذاتي، أي الإنسان بوصفه وحدة فردية في شكلها الأبسط في اللحظة الذرّية حيث يكون غير مُحمّل بأي خبرات إضافية ناتجة عن احتكاكه بالمجتمع.

بينما يكون الروح الموضوعي هو المجتمع، وهو المركب من نقيضين هما الأسرة والمجتمع المدني. الأسرة تمثل الوحدة الجزئية للمجتمع التي تنتهي كحاضن للأفراد إلى الانهيار بالضرورة، وفق النسق الجدلي الهيجلي، عند مرحلة استقلال الأبناء وانفصالهم عن الأسرة. يقابلها المجتمع المدني الذي يواجهه الأفراد لاحقًا كنقيض لقيم الأسرة ومنظومتها الأخلاقية. حيث ينتج عن هذا التناقض في النهاية المجتمع كروح موضوعي.

بحسب النسق الجدلي الهيجلي فإن الفرد والمجتمع كروح ذاتية وأخرى موضوعية على التوالي هما في حالة صراع دائم حيث يمثل كل منهما الفكرة النقيضة للفكرة الأخرى. أسفر ذلك الصراع عن ظهور المركب بين النقيضين وهو الروح المطلق، أي «الدولة».

تُعد الدولة هي الكيان الذي تجلت فيه الإرادة الكلية للمجتمع ويتعالى على جميع الصراعات الفئوية لأفراده ومؤسساته وينظمها وأحيانًا يقمعها إذا تطلب الأمر، حيث اعتبر هيجل أن المبدأ الأساسي لقيام الدولة هو السيادة، وأن الدولة ككيان قوي ذي سيادة وكجهاز قمعي أحيانًا هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه المجتمع على المستوى السياسي، إذ إن الدولة تصبح الأفق الذي لا يمكن تجاوزه.

نبوءة هيجل دائمة التحقق

أعلن وزير العدل البولندي مؤخرًا أن حكومته تعتزم إصدار قانون يحاسب مواقع التواصل الاجتماعي على سياساتها، حيث سيكون من حق المواطن البولندي التقدم بشكوى للإدارة الحكومية المختصة إذا تم حذف منشور له لا يخالف القوانين البولندية من قِبل منصات التواصل الاجتماعي. وستقوم الحكومة البولندية بدورها بالتواصل مع إدارات المواقع لاستعادة المنشورات المحذوفة.

وهكذا، بامتلاك الدولة الأدوات التشريعية والتنفيذية استطاعت أن تجد حلًا لهروب الفضاء العام الافتراضي من براثن سيطرتها وعادت لتحاول إخضاعه من جديد لسيادتها، حيث بدأت إرهاصات تحقق نبوءة هيجل الكلاسيكية من جديد عن عدم القدرة على تجاوز الدولة كروح مطلق في أية نشاطات خاصة بالسياسة.

ولكن من المبكر جدًا أن نحسم الأمر بانتصار أحد الطرفين على الآخر. فبالرغم من أن هناك دولًا قد بدأت بالفعل في التصدي لقوة مواقع التواصل الاجتماعي بشكل قانوني، إلا أن الصراع يظل قائمًا، ليس فقط بسبب التطور السريع الذي يصعب استيعابه للتكنولوجيا الرقمية، بل أيضًا لأن ذلك هو الصراع الكلاسيكي الذي لطالما حاول الساسة والفلاسفة إيجاد الحلول له.

بين قوة الدولة وسيطرتها وإرادة الفرد وحريته، من ينتصر؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.