حين يتم ذكر المرأة في المجتمعات المتخلفة فهو ذكر محفوف بالتناقض لا تستطيع تفسير توجهه إلا بظهور بدايات مجرى الحديث، فوضعية المرأة تمثل أحد التناقضات الجلية في المجتمعات المتخلفة، فهي أكثر العناصر الاجتماعية تعرضًا للتبخيس وتقليلًا للمكانة الفكرية والإنتاجية، كما أنها للبعض تمثل رمزًا للعار الذي يجب أن يُتقى شره دائمًا، على الجانب الآخر تمثل رسوخًا في اللاوعي الإنساني كرمز للأمومة والحنان والملجأ.

ولكن ما أصبح مترسخًا من إلحاق الصفات المتدنية كرمز للمرأة ما هو إلا نتاج دائرة فكرية يتم إعادة تدويرها في المجتمع بشكل مستمر، ويتم توارثها عن طريق التعود والممارسة، فلا يوجد أي اختلاف من الناحية البيولوجية بين الرجل والمرأة على المستويات الرئيسية، ولكن الفرق يحدث بوجود الفرص التي تتاح لكل منهما والحواجز التي توضع في طريقهما، مما يجعل ما هو ممكن له التطور أن يصبح مجرد مميزات لا قيمة لها فتتنحى مع مرور الوقت.

إذن فنحن لسنا بصدد ما يسمى بطبيعة المرأة كشيء ثابت، إنما نتائج الوضع الذي فرض على كائن حي يتفاعل مع محيطه ويتعايش معه، وهو ما يمكن أن يحدث مع الرجل بالمناسبة لو توافرت نفس الظروف.


مفهوم التخلف الاجتماعي والمجتمعات المتخلفة

لا يمكن وضع تعريف محدد للتخلف الاجتماعي في سطور قليلة، لأن له أكثر من اتجاه يتم دراسته من خلاله سواء اتجاه اقتصادي او اتجاه اجتماعي وعلاقتهما ببعضهما، ولكن فلنضع تعريفًا مبدئيًا عن التخلف الاجتماعي: البلد المتخلف هو أقل مستوى من بقية البلدان من حيث تأمين الحاجات الحيوية الضرورية للإنسان (غذاء، وصحة، وسكن، وتعليم، ..إلخ) ومستوى إنجازاته الاقتصادية والتقنية منخفض.

هذا التعريف لا يستقيم بصورة أساسية حيث توجد تفاصيل بداخل كل معيار من هذه المعايير تختلف من بلد لآخر، كما لا ينفي وجود بلدان متقدمة على المستوى الاقتصادي، ولكن مع سيطرة التخلف الاجتماعي والفكري عليها.


ملامح وضعية القهر

هناك مقولة تؤكد الأيام صحتها، أن المجتمعات المقموعة تولد في داخل كل فرد من أفرادها ديكتاتورًا، ولذا فإن كل فرد فيها مُهيأ نفسيًا لممارسة القمع على من هو أقل منه مكانة في هذه السلسلة، فكلما زادت درجة القهر على الرجل كلما مارس قهرًا أكبر على المرأة.

يوجد وسطان اجتماعيان ظاهران بصورة جيدة يمكن العرض من خلالهما: المجتمع العشائري، والمجتمع الحضري.

المجتمع العشائري

يعتبر بيئة خصبة لدراسة وضعية المرأة في المجتمعات المتخلفة، والتغيرات التي تُرسخ مع الزمن في شخصيتها، وتصبح جزءًا منها حتى يتم توارثها مع الوقت. فالمرأة في المجتمع العشائري لا تزيد عن كونها أداة تأخذ قيمتها حسب درجة خصوبتها، وقدرتها على إنجاب الأولاد الذكور، وزيادة أفراد العشيرة، أو عن طريق تقوية الروابط سواء عن طريق تزويجها لأبناء عمومتها حفاظًا على ثروة العشيرة أو عن طريق تزويجها في عشيرة أخرى من أجل إقامة التحالفات ووأد بعض الخصومات، فهي لا وجود لها خارج هذا الحيز؛ المرأة ذات الجسد وسيلة الإنجاب والمصاهرة.

المجتمع الحضري

يمكن تصنيف وضع المرأة حسب ثلاث طبقات: الكادحة، والمتوسطة، والممتازة.

1. وضع المرأة في الطبقة الكادحة

تظهر حالة من التناقض والتكامل في الوضع بين المرأة والرجل في الطبقات الكادحة وما تحتها، فالرجل دائمًا ما يشار إليه بحالة من التعظيم لصفات الذكورة والقوة والمكانة، وأنه حائط السند الأساسي للأسرة والمسئول الأول عن وجودها، حتى إن كانت هذه الصفات غير موجودة به فعملية إظهار هذه الصفات تسبب حالة من الاطمئنان بالنسبة للأسرة حول كفاءته في التصدي للمجتمع وتقلباته، حيث ينتزع اللقمة من فمِ السبع كما يُقال.

وحين يوجد الشخص المطلق الذي لا تشوبه شائبة، فلابد من وجود القطب الآخر الذي يتم إلقاء اللوم والعيب عليه، وإسقاط ما لا نستطيع إسقاطه على الرجل من صفات الخزي والضعف والمهانة، فحين يمثل الرجل العقلانية والقدرة على مواجهة المشاكل تُمثل المرأة بناقصة العقل التي تتحكم فيها عواطفها.

المرأة في تلك الطبقة يتم حصرها في دور ودائرة محددة، فهي الرضيعة التي يكون قدومها غير مرغوب فيه، ولا يُحتفى به كما يحدث مع الولد، وهي الابنة التي تمثل فمًا آخر مطلوب من الرجل السيد إطعامه، وتحمل مشاكله، والحفاظ على شرفه متمثلًا بها، وهي الأخت المطلوب منها القيام بواجبات الأم المنزلية بعد ما اُستنفدت قواها في الخدمة وأن تصبح خادمة للأب والإخوة وأولويتها تأتي بعد إخوتها الذكور رجال المستقبل، وهي الزوجة التي يتم تزويجها لمن يستطيع تغطية تكاليفها، وتبدأ المرأة في دائرة مفرغة لا نهاية لها. وفي كل دائرة مزيد من الانزواء يحدث لشخصيتها ومزيد من التجاهل والرضوخ يثبت في طباعها، حتى تصبح مجرد تابع لا وجود لها إلا فيما هو مطلوب منها.

أخيرًا المرأة التي تنبغ وتتعدى الحيز المرسوم لها من حيث القيام بمهام الرجل سواء في العمل أو تدبر أمور الأسرة، يتم إزالة صفة الأنوثة عنها، ووصفها بصفات الرجال أو كما يقولون: المرأة القادرة.

التفوق والنبوغ في نظر المجتمع صفة الرجل فحسب، فإذا أثبتت امرأة ما نبوغها بما لا يدع مجالًا للشك، اعترف المجتمع بنبوغها، وسحب منها شخصيتها كامرأة وضمها إلى جنس الرجال.
نوال السعداوي

2. وضع المرأة في الطبقة المتوسطة

تتميز هذه الطبقة بطرح مشكلة القهر على المرأة بشكل علني، حيث أفراد هذه الطبقة يمكن تسميتهم بالمكافحين لتحسين وضعهم الاجتماعي. ونظرًا لوجود حد أدنى من الثقافة بهذه الطبقة، فالرجل فيها مدرك إلى حد ما بأهمية دور المرأة في المجتمع، فهو لا يستطيع ان يرتقي بمستواه الفكري والاجتماعي بدونها، فلا فائدة ترجى من جهوده في حين أن هناك شريكًا في حياته تسيطر عليه الخرافة أو تبعات القهر الاجتماعي من سلوكيات تُزرع في أطفاله فهو لا يحقق أي تقدم بهذه الطريقة. لذا فقد تم إفساح مساحة حرية للمرأة للتعليم والعمل والمشاركة في الحياة الفعلية خارج حيز دور ربة المنزل الذي التصق بها.

ولكن هذه الفئة ما زالت تعاني من آثار التخلف ما علق في شخصيتها، فالمرأة تدرك دورها وأهمية محاولة التقدم ومسايرة الرجل الذي يدرك ذلك أيضًا، إلا أنها لا تطرح ذلك بشكل مباشر، وعلى الصعيد الآخر الرجل يتحدث عن المساواة وحقوق المرأة إلا أنه لا يرغب في التخلي عن الامتيازات التي يحظى بها من المجتمع نظير كونه رجلًا.

على هذا الوضع يتولد داخل المرأة حالة من التضارب، والكره لكل القيود التي تٌفرض عليها بواسطة المجتمع، مما يجعلها تثور على دورها كامرأة في المجتمع بكل ما يمثله من مهام مفروضة، ويحدث لها حالة من التماهي في ذات الرجل الذي تراه في نظرها نموذجًا للتحرر، فيظهر ذلك في ملابسها ومحاولة تقليد بعض السلوكيات التي وضعها المجتمع في إطار سلوك ذكوري.

أما الرجل فمعاناته وإن كانت بسيطة فهي ليست بالهينة، فهو يؤمن بالمساواة وحق المرأة في العمل، والمشاركة في الحياة، إلا أنه يساوره الكثير من القلق حول تقبل المجتمع لدورها، هذا بجانب خوفه من انفلات مقاليد السلطة من يده، تلك السلطة التي تعطيه الكثير من الامتيازات التي سوف تتبخر في حالة وُضعت قدراته قيد الاختبار، فهكذا يُرى الأمر.

3. وضع المرأة في الطبقة ذات الامتياز

لا تعاني المرأة في هذه الطبقة من القهر المادي فهي تحصل على حرية مشروطة؛ تشتهي ما تشاء وتفعل ما تريد ولكن داخل إطار القفص الذهبي الموضوعة فيه، فهي تشبه إلى حد ما وضع المرأة داخل العشيرة مع وجود هامش حرية واختلاف في الدور.

المرأة في هذه الطبقة تتعرض للاستغلال العقائدي، ففي مقابل ما يُدفع نظير ترفها فهي مجبورة على مسئوليات محددة من أول وجودها في بيت أهلها إلى وصولها إلى بيت الزوج، الذي يرى فيها أداة للتباهي على قدرته على الإنفاق من حفل زفاف وتجهيزات مبهرجة، حتى يصبح دورها بعدها المحافظة على صورة الأسرة صاحبة الجاه، سواء أسرة أهلها أو زوجها من خلال الاستعراض بالقدرة على الإنفاق، فالمرأة تفرغ من محتواها الفكري وتتحول إلى مانيكان للعرض والمبارزة بالمستوى المادي للعائلة.

وهكذا فإذا أفلتت المرأة من القهر المادي فإنها ستعيش أسيرة قهر قد يكون أدهى وأمر؛ وهو الاستلاب المعنوي لكيانها الذي لا يقل عن كونه موتًا نفسيًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.