ما نعرفه عن كرة القدم هو دوري الأبطال، كأس العالم، الأموال، الجماهير، العنف، العاطفة، الانتصار والهزيمة. هذا صحيح ،تلك الأمور جميعها تعتبر جوانب مهمة لكرة القدم، لكن هناك دائمًا جوانب أُخرى لا يعرفها كثيرون عن كرة القدم، القيم الحقيقية، الرجال والمواقف الرجولية، لاعبون استخدموا كرة القدم كوسيلة للكفاح، استخدموا الكرة من أجل تثقيف وحرية شعوبهم.

عند سماعك لاسم «سقراط» يتبادر إلى ذهنك الفيسلوف والحكيم اليوناني سقراط أحد أهم مؤسسي الفسلفة الغربية، لكن هناك سقراطًا آخر ولد ما بعد الميلاد في «البرازيل» أرض الفقراء، والذي سماه والده تيمنًا بالفيسلوف اليوناني، ولم يكن أقل شأنًا منه على الإطلاق. والده لم يكن أديبًا أو ما شابه، لكنه استطاع تثقيف نفسه بنفسه وبنى مكتبته المنزلية الخاصة التي أغنت فكر ولده، وجعلت منه لاحقًا أفضل لاعب لكرة القدم في تاريخ البرازيل، ليس لمهاراته وموهبته فهناك من يفوقه موهبة ومهارة؛ بل لنضاله من أجل شعبه عن طريق كرة القدم.


المجد من جميع أطرافه

يولد الطفل في البرازيل وفي جيناته جين فطري خاص بكرة القدم، وكسائر الأطفال هناك كان «سقراط» مولعًا باللعبة كما الآخرين، حيث مارسها في شوارع الأحياء الفقيرة. رغم ولعه الكبير بالكرة، لكنها لم تشغله عن شغفه الكبير بالعلم أيضًا، فبعد إكماله الدراسة الثانوية التحق سقراط بكلية الطب، وفي تلك الأثناء لعب لفريق الجامعة وانضم لاحقًا لأحد أندية الهواة، لم يتدرب كثيرًا هناك بسبب انشغاله بالدراسة، لكن مدربه سمح له باللعب لأهمية تواجده مع الفريق.

تأخر سقراط بالدخول إلى عالم اللعبة الاحترافي بسبب دراسته للطب، فانضم إلى نادي كورينثيانز وهو في الـ24 من عمره، ليخطو أولى خطواته في عالم الاحتراف، وفي الوقت نفسه استمر كطالب في كلية الطب في جامعة «دي ريبيراو بريتو» وأنهى دراسته عندما كان لاعبًا في كورينثيانز.

بالإضافة للكرة والعلم ومعرفته الواسعة التي اكتسبها من كتب والده، كان سقراط متيمًا بالموسيقى، وعلى وجه الخصوص الأغاني الثورية لكل من بوب مارلي وجون لينون، وكما قال مارلي «كرة القدم هي الحرية»، اتبع سقراط المبدأ ذاته في حياته الرياضية والشخصية. بجانب كل هذا كان للسياسة حصة كبيرة من اهتماماته، فكان متعلقًا بالسياسة والحركات الثورية التي قامت في أمريكا اللاتينية، وكان معجبًا بكل من تشي جيفارا وفيديل كاسترو، حتى أنه سمى ابنه فيديل تيمنًا به. عنما قرر تسمية ولده بفيديل قالت له والدته:

هذا الاسم لا يناسب طفلاً صغيرًا، فهو قوي بعض الشيء

فرد عليها:

أمي، انظري ماذا فعلتم بي، عندما كنت طفلًا صغيرًا أطلقتم علي اسم سقراط، ألم يكن اسمي قويًا بعض الشيء!

أنا لست لاعبًا، أنا إنسان!

سقراط لم يكن رياضيًا اعتياديًا، فلقد تأخر بالدخول لعالم الاحتراف، وعلاوة على ذلك لم يهتم بنفسه كرياضي، فكان يدخن بكثرة ويشرب الكحول بإفراط، وكما كان خارجًا عن التقاليد الرياضية كان ثائرًا في السياسة، فكانت كرة القدم بالنسبة لسقراط وسيلة من أجل تثقيف الشعوب،وكان تسجيل الأهداف من أجل الديمقراطية والحرية، والجري بالكرة كان سعيًا وراء الأفكار التقدمية.ربما كان مقدرًا له أن يكون رجلاً رافضًا للظلم من خلال اسمه وشخصيته وحتى مظهره الخارجي.

أنا أكافح من أجل الحرية واحترام الإنسان، من أجل المساواة، لإجراء مناقشات واسعة وغير مقيدة، أكافح من أجل الديمقراطية، أنا لست لاعبًا، أنا إنسان.

بدأ ولع واهتمام سقراط بالسياسة في سن مبكرة بسبب قراءته لكتب والده، والذي شاهده يحرق بعضها مع بداية تسلم المجلس لسدة الحكم في البرازيل في منتصف الستينات. استولى المجلس العسكري على الحكم في البرازيل، وتحكم العسكر في كافة تفاصيل الحياة، فعانى الشعب البرازيلي من قمع الحريات وحملات الاعتقال والتعذيب الذي كان يصل إلى حد الموت بسبب وحشية المجلس العسكري.

في عام 1964 حصل الانقلاب العسكري، كنت أبلغ حينها 10 سنوات فقط، وأذكر جيدًا عندما قام والدي بحرق كتبه التي تتعلق بالسياسة والحرية ومن خلال هذه الحادثة بدأ اهتمامي بالسياسة، كنت طفلا في زمن الديكتاتورية، أنظاري تحولت إلى الظلم الاجتماعي والاضطهاد، واضطر العديد من أصدقائي للاختباء أو للهرب من البلاد.

تجمع كورينثيانز من أجل الديمقراطية

النظام العسكري تحكم في كل شيء واضطهد الجميع، الشعب كان متوجسًا من بطش العسكر، فتجنب الجميع الخوض في معترك السياسة، ومنهم من غادر البلاد في مسعى لحياة أفضل. حتى في كرة القدم فقد كان اللاعبون كالعبيد أو كالأطفال بيد النظام العسكري، والذي كان يفرض تدريبات خاصة على اللاعبين، وكانت الملاعب التدريبية محاطة برجال الأمن والكلاب بسبب التخوف من التجمعات. وحاول النظام استغلال النجاح الرياضي للسيليساو من أجل تبييض صفحته، وحشد لذلك دعمًا جماهيريًا كبيرًا، حيث حاول استضافة كأس العالم على غرار الخطوة التي قام بها المجلس العسكري في الأرجنتين باستضافة كأس العالم في 1978، وكان هدفه الرئيسي الحصول على المزيد من التأييد داخل البرازيل لكنه لم ينجح في مساعيه.

تصرفات النظام العسكري القمعية والإقصائية لم تعجب سقراط وأصدقاءه، فقرر سقراط مع زميله فلاديمير تأسيس تجمع ديمقراطي خاص بنادي كورينثيانز في عام 1980، هذا التجمع كان أشبه بالإدارة الذاتية والحكم المستقل، كان جميع أفراد النادي من لاعبين وإداريين وحتى الطاقم الطبي منخرطين في صناعة القرار داخل النادي، وكل شيء كان يقرر من خلال التصويت «رجل واحد،صوت واحد»، وكان هذا بمثابة تحدياً واضحاً للمجلس العسكري الديكتاتوري. فتم اعتماد التصويت في أكبر الأمور وصغائرها، كاختيار اللاعبين والإداريين الجدد، من يبقى ومن سيرحل، وتم التصويت على اختيار وسيلة النقل المعتمدة للذهاب إلى المدن الأخرى «حافلة – قطار – طائرة»، الفندق الذي سيقيم به الفريق، مواعيد التدريبات وأوقات الوجبات، وحتى إن كان أحدهم يحتاج إلى الدخول إلى الحمام خلال رحلة الفريق بالحافلة، كانت النتيجة تحسم بواسطة التصويت، كان الجميع تواقًا لعيش التجربة الديمقراطية حتى في أبسط الأمور.

شعار كورينثيانز الديمقراطية
شعار كورينثيانز الديمقراطية

بطبيعة الحال، قرار كهذا أزعج المجلس العسكري، وحتى فئة واسعة من الشعب البرازيلي وعلى رأسها رجال الأعمال والمنتفعين من السلطة، فتم محاربتهم بشكل كبير، ولهذا قرر سقراط وأصدقاؤه التصعيد وعدم الخنوع لأوامر المجلس العسكري. لذلك كان القرار الرسمي بإطلاق تجمع كورينثيانز من أجل الديمقراطية، فلم يعد مجرد تجربة اجتماعية محصورة بالنادي، فاتخذ النادي شعارًا خاصًا يحمل اسم التجمع تم وضعه على القميص من الخلف، وبتصميم مشابه لشعار كوكا كولا، لكن برمزية أكبر حيث كانت البقع الحمراء المتناثرة تعبر عن دماء القتلى.

عاش النادي تجربته الديمقراطية بأجمل أشكالها، حيث وجه النادي دعوات للرموز الفنية والأدبية والسياسية للبرازيل بشكل أسبوعي، سواء كشاعر أو عازف للبيانو أو فنان تشكيلي أو ناشطين سياسيين، ويتم الحديث لساعات وساعات والجميع تغمره سعادة كبيرة، وكانت هذه الأمسيات تقام قبل يوم من المباراة، وحقيقة الأمر أن الجميع كان يؤدي بشكل جيد بعد أمسيات كهذه وخاصة سقراط الذي كان يحب لعب كرة القدم لكن لم يتحدث عنها كثيرا بسبب وجود ما هو أهم من ذلك.


كورينثيانز، نادي الشعب

ربما الصدفة أو القدر جعلتا بداية مسيرة سقراط الاحترافية مع نادي كورينثيانز أو نادي الشعب، فقد كان أول ناد يمارس كرة القدم من الطبقة العاملة بعدما كانت لعبة نخبوية فقط في أوائل القرن العشرين، فلقد أسسه مجموعة من الأشخاص يعملون في السكك الحديدية في وقت كانت فيه اللعبة تقتصر على الطبقة المرموقة من المجتمع. ومنه كانت انطلاقة النشاط السياسي الشعبي ضد النظام العسكري.

في عام 1982 ذهب سقراط إلى إسبانيا مع منتخب الأصفر والأخضر، المدرب تيلي سانتانا أعطاه شارة قيادة المنتخب والذي كان يُعد من أفضل المنتخبات عبر التاريخ، في تلك البطولة خرجت البرازيل مبكرًا على يد المنتخب الإيطالي بعد مباراة ملحمية كانت بمثابة خيبة كبيرة لسقراط وزملائه والشعب البرازيلي.

بعد خيبة الخروج من كأس العالم، لم ينته العام إلا ومعه فرحة عظيمة جدًا ولحظة تاريخية بالنسبة لكورينثيانز، حيث استطاع النادي الوصول إلى نهائي بطولة ساباولو المحلية وشعار تجمع كورينثيانز الديمقراطي على قمصان اللاعبين وأمام أعين مسؤولي المجلس العسكري الذي طالبهم مرارًا بالابتعاد عن السياسة والتركيز على كرة القدم فقط، فكان رد كورينثيانز من خلال لافتة رفعها اللاعبون في الملعب قبل بداية المباراة «ليس من المهم أن ننتصر أو نهزم، ما يهم هو أن تكون دائما في ظل الديمقراطية»، وكانت الفرحة الأكبر بتحقيق اللقب وهم يرتدون قمصان «كورينثيانز الديمقراطية».

هذا أعظم فريق لعبت لأنه كان أكثر بكثير من الرياضة، انتصارنا السياسي أكثر أهمية من تحقيق الألقاب كلاعب محترف، المباراة انتهت بعد 90 دقيقة، ولكن الحياة تستمر

الكذبة البيضاء

بعد تحقيق النجاح السياسي، انتقل النادي لخطوة أكبر والتي اعتبرت فيما بعد الانطلاقة الحقيقية لإسقاط النظام العسكري، حيث قام لاعبو كوينثيانز بارتداء قمصان كتب عليها من الخلف « صوت في الـ15 من أجل الانتخابات» دعا فيها النادي الشعب البرازيلي للتصويت في الإنتخابات التي ستقام للمرة الأولى منذ بداية سيطرة المجلس العسكري، وكان شعار الحملة «صوت من أجل حريتك، صوت من أجل الديمقراطية».

في بداية الثمانينات تشكل حزب العمال الذي كان أحد قادته الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا والصديق المقرب من سقراط، والذي أسس لاحقا بعد شعار كورينثيانز «صوت من أجل الانتخابات» بصحبة العديد من الناشطين السياسين حركة مدنية سموها «صوت الآن».

أجبرت هذه الحركات والمطالبات المجلس العسكري على إجراء استفتاء شعبي من أجل الرئاسة، وخلال تجمع حاشد في عام 1984 اجتمع فيه 1.5 مليون شخص خرج سقراط على الملأ وطالبهم بالتصويت، في تلك الأثناء انتشرت أخبار تتحدث عن انتقاله إلى إيطاليا من أجل اللعب مع فيورنتينا، خرج إلى الجمهور وهددهم إذا لم يصوتوا سيغادر البرازيل وإن استطاعوا تغيير النظام العسكري سيبقى في ساوباولو، لكن عملية انتقاله إلى فيورنتينا كان قد انتهيت حتى قبل تحدثه إلى الشعب البرازيلي.

رحلته في إيطاليا لم تدم طويلًا بسبب عدم تأقلمه مع أجواء الكرة الإيطالية، في الواقع أن إيطاليا لم تلائم شخصيته الرياضية بسبب إفراطه بالتدخين وشرب الكحول الذي لا تتناسب مع الضوابط الصارمة هناك، ولم تناسب فلسفة سقراط في كرة القدم تعتمد على مصطلح اللعبة الجميلة.

الجمال يأتي أولا، الانتصار ثانيا، ما يهم هو السعادة والبهجة

لكن حقيقة الأمر أن عقله كان في البرازيل وعاد ليعيش حياة الديمقراطية بعد إسقاط المجلس العسكري في عام 1985، عاد لكي ليعيش الحلم بصورتة الواقعية كما يتخيله وكما قرأ في كتب والده وسمع في أغاني بوب مارلي وجون لينون.