على ضفاف نهر السوم الهادئ شهد عام 1916 المعركة الأكثر دموية في تاريخ البشرية، الأطول زمنيًّا في العصر الحديث، والأكثر فشلًا في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. معركة «السوم» أو معركة «السوم الهجومية» كما يحلو للمؤرخين البريطانيين والفرنسيين تسميتها، استمرت لنحو خمسة شهور، وبلغ ميدانها 15 ميلًا. دارت رحى المعركة بين بريطانيا وفرنسا من جهة والجيش الألماني من جهة أخرى.

في الجزء الشمالي الغربي من فرنسا، حيث تقع مجموعةٌ ضخمة من الهضاب المرتفعة يجري وسطها نهر السوم. تلك الجغرافية جعلت من نهر السوم درع أمانٍ للجيوش على جانبيه، فلا يجرؤ جيش أن يقترب منه كي لا يصبح مكشوفًا لعدوه الرابض على الهضاب المرتفعة. وفي أسفل الهضاب يوجد سهلٌ متسعٌ أمام النهر، السهل يمثل ميدان رماية ممتاز للجنود على جانبيه. إذن، التمركز حول نهر السوم يُعطي أفضليةً للمُدافع لا المُهاجم، ويصلح للدفاع فقط دون الهجوم، هذا ما عَلمه قادة جيشي بريطانيا وفرنسا، لكنهم قرروا رغم ذلك بدء الهجوم على القوات الألمانية المسيطرة على تلك الرقعة.

القائد العام للقوات الفرنسية الجنرال جوزيف جوف -صاحب فكرة الهجوم المشترك- كان مدفوعًا برغبة في إلهاء القوات الألمانية كي لا تتقدم نحو العاصمة باريس. الحل في رأيه كان الدخول في معركةٍ طويلة ذات خسائر فادحة تستنزف القوات الألمانية. أراد أيضًا من تلك المعركة أن تستدعي القوات الألمانية فرقها من مختلف أنحاء فرنسا ما يُخفف الضغط على باقي القوات الفرنسية.

معركة السوم, الحرب العالمية الأولى, ألمانيا, انجلترا, الحلفاء, تاريخ
خريطة تحركات الجند إبان المعركة

كذلك أراد أن ينتصر على الجناح الأيمن للألمان في السوم من أجل اختراق عمق الجيش الألماني لتعطيل الجناح الأيسر من الوصول إلى باريس. خاصةً أن الجناح الأيسر المرابض على مدينة «لانس» استطاع صد هجوم البريطانيين والفرنسيين ضده عام 1915، فلم يبقَ إلا المراهنة على ضعف الجناح الأيمن.


الطرفان

الجيش الألماني مكونًا من 9 فرق مُشاة، و672 مدفعًا، و300 قذيفة هاون، و114 طائرة، ينتشر على طول نهر السوم بطول 40 كيلومترًا من مدينة «جوميكور» شمالًا حتى «سوايكور» جنوبًا. يواجه الحليفين بريطانيا وفرنسا بإجمالي 32 فرقة مُشاة إضافةً إلى 6 فرق فرسان، و2189 مدفعًا، و1160 قذيفة هاون، و300 طائرة. قُسمت قوات الحلفاء إلى 4 صفوفٍ تقف متتابعة.

القوة تبدو مائلةً نحو الحلفاء، وهو الأمر نفسه الذي أدركه الألمان فلجئوا إلى الحيلة. استفاد الألمان من صلابة الأرض في جهتهم ما يسمح لهم بالتنقل بآليتهم من موقعٍ لآخر بسهولة وبسرعة. كما أنشئوا مواقع ثابتة للمدافع الثقيلة وأحاطوا أنفسهم بالألغام منعًا لتسلل الحلفاء إلى معسكرهم. حرص الألمان على تغطية مواقع المدافع والألغام بفروع الأشجار ليُفاجئوا الحلفاء بالنيران من حيث لا يدرون.

نهاية فبراير/ شباط 1916 يجري التنسيق بين الجنرال جوفر وقائد القوات البريطانية السير دوجلاس هيج، اتفق الاثنان على تقسيم جبهة القتال لنصفين. ما بين طريق «بيرون» إلى «ماريكور» تتولاه القوات الفرنسية، ومن «ماريكور» إلى «جوميكور» تتولاه القوات البريطانية. اتفق الطرفان على أن تبدأ المعركة 21 فبراير/ شباط عام 1916، ثم طلب القائد البريطاني تأجيلها لحين اكتمال وصول إمدادات الغذاء والمدافع، لكن تطورًا مفاجئًا هو الذي حدد ميعاد المعركة.

القوات الألمانية تُهاجم الجيش الإيطالي في «ترنتان» 19 مايو/ آيار 1916، يطلب الإيطاليون من الروس التدخل لنجدتهم. الروس يقررون التحرك لنجدة الإيطاليين لكن يوم 4 يونيو/ حزيران. لذا قرر الحلفاء تأجيل معركة السوم إلى أول يوليو/ تموز، كي تنسحب بعض القوات الألمانية من قتال الروس لقتالهم، ما يُشتت القوات الألمانية بين أكثر من جبهة. وتحقيقًا لإنهاك القوات الألمانية قرر الحلفاء أن تُسبق المعركة بقصف مدفعي متواصل لمدة أسبوع قبل بدايتها فعليًّا.


الألمان اكتشفوا

ظن البريطانيون والفرنسيون أنفسهم في المشهد وحدهم، يحشدون ثم يقررون الهجوم أو يأجلونه بإرادتهم، غير مدركين أن طائرات الاستطلاع الألمانية رصدت تزايدًا ملحوظًا في عدد جيش الحلفاء. أراد الألمان القيام بهجومٍ وقائي لكن ضعف إمكانيتهم حال دون ذلك، فاكتفوا بتعزيز دفاعاتهم، ووضعوا فرقةً كاملةً لكل 6 كيلومترات. لكن يومًا تلو الآخر فقد الألمان التفوق الدفاعي إذ سحبت القيادة الألمانية فرقتين من الفرق الألمانية، وأحلت مكانهم فرقةً واحدة مُنهكة قادمة من الجناح الأيسر المُرهق بقتال الفرنسيين. ثم سحبت المدافع الثقيلة الألمانية وأرسلت مكانها مدافع فرنسية الصنع قديمة الطراز قد استُولي عليها مُسبقًا.

لم تُعر القيادة الألمانية اهتمامًا لكلام جنودها على جبهة السوم بأن اكتساحًا قد يحدث عما قريب. بعد فترة صدَّقت القيادة الألمانية جنودها حين علمت بوصول الفيلق 20 الفرنسي، الفيلق ذائع الصيت بقدراته الهجومية العالية، فدعمتهم بفرقة مشاة إضافية وفرقة مدفعية و17 بطارية مدفعية مُتنقلة.

اقرأ أيضًا: حرب الأفيون: كيف أذل «الكيف» شعبًا كاملًا؟

حل فجر 24 يونيو/ حزيران 1916، أسبوع قبل بدء المعركة، بداية التمهيد المدفعي. على جبهةٍ بطول 25 كيلومترًا قصف الحلفاء كل شيء. وأصابوا 9 مناطيد مراقبة ألمانية ما أضعف قدرة الجيش الألماني على الاستطلاع والمراقبة. استمر القصف لمدة 7 أيام كما خطط الحلفاء، وفي 1 يوليو/ تموز تكثف القصف. 450 مدفعًا ثقيلًا تُطلق القذائف لمدة 60 دقيقة دون توقف، بعد نهاية الساعة اندفع البريطانيون والفرنسيون إلى جبهة القتال ليحصدوا الانتصار الذي عبَّده لهم القصف الشديد لمدة 8 أيام.

لكن المفاجأة أن البريطانيين عادوا باختراق محدودٍ للدفاعات الألمانية و60 ألف قتيل من جنود الحلفاء. أما الفرنسيون فكان حظهم أوفر، إذ أطلقوا 850 مدفعًا ثقيلًا ، ولم يفصلوا بين الإطلاق وبين الهجوم البري، فاستطاعوا بذلك اختراق دفاعات الألمان وأسروا 4000 ألماني. وفي مساء اليوم نفسه ارتكب البريطانيون مجزرة غير مبررة ضد مدنيين فرنسيين. طوال 7 أشهر حفر المهندسون البريطانيون أنفاقًا أسفل تلك القرية للوصول من خلالها لقادةٍ ألمان احتلوا مقارها الحكومية. وفي مساء يوم الهجوم الأول أغرق البريطانيون الأنفاق بالمتفجرات فأُبيدت القرية بالكامل.


الدبابة تظهر لأول مرة

استمر القتال واستمرت الانتصارات بالتوغل لصالح الحلفاء، لكن الألمان لم يخسروا كذلك. كلما تقدم الحلفاء، تراجع الألمان تراجعًا مُخططًا ومدروسًا لدفاعات تنتظرهم في العمق، كما أن نشوة الحلفاء بكثافة نيرانهم أعمتهم عن حقيقة زيادة عدد الفرق الألمانية إلى 18 فرقة مقاتلة. تلك الزيادة والتراجع المدروس أوقف تقدم الحلفاء في النصف الثاني من شهر يوليو/ تموز، طوال 15 يومًا لم تتقدم القوات البريطانية إلا 1000 متر فقط.

ثم في 18 يوليو/ تموز شن الألمان هجومًا مضادًّا فاستعادوا الأرض التي خسروها. وفي اليوم التالي وفدت فرقٌ جديدة فأنشأ الألمان مناطق محصنة جديدة، وأنشئوا دفاعاتٍ في قلب الدفاعات، وبلغ حجم القوات الألمانية 31 فرقة و300 طائرة، في مواجهة 51 فرقة و500 طائرة للحلفاء. من منتصف يوليو/ تموز حتى آخر أغسطس/ آب استمر القتال وسقوط القتلى من الطرفين لكن دون أي تقدم ملحوظ على الأرض.

3 سبتمبر/ أيلول شعر الحلفاء بالملل وبعبثية القتال، ضحايا يتساقطون لكن دون تقدم على الأرض أو استنزاف للألمان، فشنوا هجومًا مباغتًا من جميع الجهات على القوات الألمانية. فتمكنوا من تحقيق تقدمٍ ملحوظ وهزيمة الفرقة الثالثة الألمانية واحتلال «جينشيفي». سرعان ما تدارك الألمان الأمر وعززوا دفاعاتهم، فأضحى تقدم قوات الحلفاء لا يتجاوز 200 متر يوميًّا. فعاودهم الشعور بالضيق، فلجئوا إلى أمر مختلف هذه المرة.

للمرة الأولى في التاريخ، 19 سبتمبر/ أيلول 1916،تدخل الدبابة ميدان المعركة. استخدم البريطانيون دبابات من طراز مارك-1 مكنتهم من التقدم 5 كيلومترات في يوم واحد. إلا أن الدبابات صنعت ذلك بتأثيرها المعنوي في نفوس الألمان لا بتأثيرها العسكري. إذ كانت تلك هى التجربة الأولى للبريطانيين على الدبابات فلم يستطيعوا أن يستخدموها، كما وضعوا 38 دبابة على طول جبهة القتال، ما يعني أن بين الدبابة والأخرى كيلومترين.


الملل يُنهي المعركة

إجهادٌ وأمطارٌ غزيرة جعلت الأراضي موحلةً فزادت صعوبة التنقل، كما ارتفع منسوب المياه فصار عبور الموانع المائية مخاطرةً. وبالرغم من تقدم الحلفاء قليلًا فإنهم عدموا كيفية الحفاظ على ما يستولون عليه. طوال شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني استمر القتال من مواقع ثابتة، لا تقدم ولا تقهقهر. فبدأت حدة الهجمات تقل تدريجيًّا لكنها لم تتوقف نهائيًّا إلا في 12 ديسمبر/ كانون الأول 1916.

اقرأ أيضًا: الحرب الكورية: الحرب المنسية التي غيَّرت مجرى التاريخ

انتهت بذلك المعركة الأضخم في تاريخ الحرب العالمية الأولى، فازت فيها القوات البريطانية بـ 12 كيلومترًا من الأراضي التي احتلها الألمان. وفازت فيها ألمانيا بعدة هجمات مضادة ناجحة، وأظهرت دفاعًا شرسًا يُعتبر أنه لم يتأثر بشراسة هجوم الحلفاء. لكن تلك النتائج لا يُمكن اعتبارها مكاسب مقارنة بخسائر الطرفين من أجل تحقيقها. خسر الحلفاء أكثر من 700 ألف قتيل، وخسر الألمان ما يُقارب 600 ألف قتلًا وأسرًا. لم تعتبر بريطانيا نفسها منتصرةً فعُزل الجنرال جوفر. وتعلمت بريطانيا درسًا أتقنته من حينها حتى الآن، وهو استراتيجية استخدام الدبابات وتطويرها. كما درَّب الألمان جنودهم على كيفية قنص الدبابات.