في ظهيرة الثاني والعشرين من يونيو/حزيران عام 2002 كان السيد «سون وونج جونج» يصطحب ولديه نحو ملعب مباراة إسبانيا وكوريا الجنوبية بربع نهائي المونديال الذي تستضيفه بلده. بالتأكيد كانت تلك فرصة رائعة بالنسبة للجماهير الكورية كي تشاهد منتخب وطنها يواجه نجومًا بحجم «كاسياس، فرناندو هييرو، وراؤول جونزاليس»، إلا أن وونج جونج كان ينظر أبعد من ذلك.فازت كوريا بركلات الترجيح. واتهم الإسبان حكم المباراة المصري «جمال الغندور» بالتواطؤ ضدهم. وملأت الاحتفالات شوارع المدن بعد إنجاز الصعود لنصف النهائي. أما وونج جونج فعاد أدراجه سريعًا نحو المنزل، وجلس يحدث الولدين عن الشرف الذي يحظى به لاعبو المنتخب في تلك اللحظة، وبمجرد أن أنهى حديثه بدأ البرنامج التدريبي اليومي الذي أعده بعناية لابنيه.بعد 17 عامًا من تلك الليلة، كان وونج جونج يجلس أمام التلفاز لمشاهدة مباراة ربع نهائي أخرى، هذه المرة في دوري أبطال أوروبا بين مانشستر سيتي وتوتنهام. يجلس الآن إلى جانبه أحد الولدين، أما الثاني فيوجد في الملعب ويستعد لخوض أفضل مباراة في مسيرته المهنية، واسمه «سون هيونج مين».


لا للزواج

هل كان مدربًا صارمًا؟ نعم، هو كذلك. بل كان مرعبًا.
من حوار سون هيونج مين لصحيفة الجارديان

قبل أي حديث عن سون، دعني أعرفك في البداية على والده، إذ إنه من لعب الدور المحوري في مسيرة جناح السبيرز. السيد وونج جونج هو لاعب كرة قدم سابق، لعب لأندية كورية وله مشاركة يتيمة بقميص المنتخب. في الواقع لم يكن لاعبًا متميزًا بأي حال، لكن كانت طموحاته أكبر من إمكانياته، وهو ما كان يدفعه لبذل جهد مضاعف في سبيل تحقيقها، سوى أنه تعرض لإصابة قوية في عامه الثامن والعشرين ستدفعه لإنهاء مسيرته مبكرًا. بعد سنوات قليلة، سيكتشف أن ابنيه الصغيرين مولعان بكرة القدم. وهنا سيأخذ على عاتقه مهمة تدريبهما والتخطيط لمسيرة كل منهما، ولكن وفقًا لمنظوره ورؤيته الخاصة لكرة القدم. ففي تلك الأحيان، قد يذهب أي أب بطفليه لإحدى مدارس كرة القدم مستغلًّا علاقاته وخبرته، أما وونج جونج فسيحوِّل منزله لمدرسة كرة قدم! كان الوالد يرى أن نظام رعاية الناشئين في كوريا غارق في العيوب والسلبيات، ولن ينتج لاعبًا يمكن أن يشارك في مستويات أعلى، لذا اتخذ قرارًا بعدم انضمام الولدين لأي نادٍ أو مدرسة كرة حتى يتقنان أساسيات اللعبة، ومن ثم بدأ في إعداد برنامج شديد الصرامة سيخضع له هيونج مين وشقيقه لمدة 6 ساعات يومية. في حواره مع الجارديان، يحكي هيونج مين كيف كانت الأولوية لتعلم المهارات الأساسية، بالإضافة للتمرين البدني، ثم يضرب مثالًا سيدهش «ديفيد هيتنر» محرر الصحيفة الإنجليزية عن إتقان مهارة التحكم بالكرة «keepy-uppie»، حيث كان يكلفه الوالد بالحفاظ على الكرة في الهواء لمدة تصل لأربع ساعات متواصلة، وحين كان يفشل بعد مضي ثلاث ساعات كان يغضب الوالد ويعاقبه بتدريبات بدنية مضاعفة!وبمرور الوقت، كانت حياة هيونج مين كلها تسير وفقًا لهذا البرنامج التدريبي؛ إذ كان عليه النوم مبكرًا ليواصل التمرين، والتخلي عن لعب الفيديو جيم ليواصل التمرين، وقضاء أوقات قليلة مع أصدقائه ليواصل التمرين. ما يثير الدهشة هو أن الوالد لا يزال ينصح هيونج مين بالتركيز على كرة القدم فقط حتى بعدما أصبح لاعبًا محترفًا بالبريميرليج، تخيَّل أنه لا يريد له أن يتزوج إلا بعد اعتزال اللعبة، وذلك حتى لا ينشغل بالأسرة عن مهمته الأساسية!هذه الصرامة، وأحيانًا القسوة، التي تبناها والده لم يتحملها أخوه الأكبر، لكن سون الصغير تمكن من التأقلم مع هذه الظروف.

سون هيونج مين رفقة والده


صنع في البوندسليجا

قبل أن يتم سون عامه الـ 16، كان قد أتقن عددًا من المهارات الأساسية كالركض، ترويض الكرة، الاستلام والتسليم. وفي أحد الأيام، صادف والده إعلانًا لشراكة تم توقيعها بين نادي هامبورج الألماني واتحاد الكرة الكوري. تقوم الشراكة على اختبار عدد من الناشئين الكوريين، ومن ثم منح من يستحق منهم الفرصة لقضاء فترة معايشة بأكاديمية النادي. لم يتردد وونج جونج في إدراج اسم ابنه.خضع سون بالفعل للاختبار. وخلاله أحس بقيمة العمل الشاق الذي بذله خلال السنوات الماضية، إذ تمكن من لفت الانتباه لإمكانياته أكثر من باقي أقرانه، فكان أول من حصل على تأشيرة العبور نحو الأراضي الألمانية. بالتأكيد كان وونج جونج في قمة السعادة، لكنه كان يدرك أن هذه هي فقط البداية، وقد اختار أن يرافق سون في رحلته الأوروبية الأولى.يذكر زملاء سون بأكاديمية هامبورج كيف أن الوالد كان يحرص على مراقبة التدريبات بشكل يومي، أما مدرب الأكاديمية «فون ألين» فتفاجأ عندما عرف أن سون لا يكتفي بتدريباتهم وحسب، بل إنه يتدرب أيضًا في المنزل تحت رعاية وونج جونج. لم يكن ذلك فقط هو ما لاحظه المدرب، بل إنه كان معجبًا بثلاثة أمور تميز سون. الأمر الأول هو السرعة الكبيرة؛ وهذه صفة أساسية للدوري الألماني. والثاني هو أنه لاعب منضبط للغاية؛ لا يتأخر، لا يشكو، ولا يتمرد على التعليمات. أما الأمر الثالث فهو التأقلم والقدرة على التعلم؛ إذ يؤكد ألين أن سون كان مهتمًّا بتطوير مهاراته، ومعرفة ما يجهله. وقد تمكن من اللعب في أكثر من مركز داخل أسلوب لعب 4/4/2، فشارك كمهاجم تارة وكجناح تارة، ونجح في ترك بصمة رائعة. وبعد عامين من الإجادة بالأكاديمية، تم تصعيد هيونج مين للفريق الأول، ووقع عقدًا احترافيًّا بينما يحتفل بعيد ميلاده الثامن عشر – هذا إذا كان يسمح والده بإقامة أعياد الميلاد أصلًا – المهم أنه خطا خطوة كبيرة الآن. ونجح خلال ظهوره الأول الرسمي بقميص هامبورج في هز شباك نادي كولن. قبل أن ينتهي موسمه الأول مع هامبورج حصل على استدعاء من منتخب بلده. وقبل نهاية موسمه الثاني، كان قد سجل 44 مشاركة رسمية وهو لا يزال ابن التاسعة عشرة. وقبل نهاية موسمه الثالث، كان في سجله 20 هدفًا ونال اهتمام كبار البوندسليجا. وفي النهاية ظفر باير ليفركوزن بخدماته. خلال تلك الفترة كان ليفركوزن يعيش فترة استفاقة تحت قيادة «روجر شميت». المدرب الألماني الذي عبر عن قناعته بإمكانيات سون ورغبته في العمل معه. والحق أن هيونج مين كان محظوظًا بما توفر له هناك من رعاية فنية، إذ أضافت له على صعيد دقة التصويب، والتصرف بالكرة، ومنحته فرصة اللعب في منافسات أعلى كدوري الأبطال، كما أكسبته شعبية أكبر وبدأت الوجوه الآسيوية في الظهور بمدرجات ليفركوزن. سون قضى هناك موسمين، أحرز فيهما 21 هدفًا وصنع 9 آخرين وفاز بجائزة أفضل لاعب آسيوي مرتين وسجل معدل سرعة جاوز 34 كم/الساعة، تحوَّل من لاعب واعد لآخر جيد وأكثر شمولًا.


فخر آسيا، ولندن أيضًا

سون هيونج مين، هامبورج، توتنهام، كوريا
سون هيونج مين، هامبورج، توتنهام، كوريا
في الأسبوع الأخير من أغسطس/آب 2015، كان وونج جونج يتجه نحو العاصمة الإنجليزية. هدفه هذه المرة شراء منزل جديد له ولسون الذي أصبح أغلى لاعب في تاريخ آسيا بعد انتقاله لنادي توتنهام هوتسبير. وبذكر آسيا، فجدير هنا الإشارة لحقيقة أن لاعبي القارة الصفراء لا يمتلكون تاريخًا جيدًا مع البريميرليج، ويفشل أغلبهم في التأقلم مع أجواء المنافسات الإنجليزية. ولهذا ظن كثيرون أن سون أحد هؤلاء بعد موسم أول متواضع قضاه في لندن، بل إن بعض الصحف أشارت لرغبته في الرحيل والعودة من جديد لمنطقته الآمنة بالبوندسليجا.كان سون محبطًا ويفكر في الاستسلام، إلا أن ما منعه هو أمران؛ الأول بالطبع هو قيم المثابرة والتفاني التي زرعها والده في نفسه خلال سنوات الطفولة والمراهقة، والثاني هو مدى إيمان المدرب «ماوريسيو بوتشيتينو» بقدرات سون، واستعداده لتحمل ومعالجة عيوبه، إذ تؤكد مجلة fourfourtwo أن الجهاز الفني لتوتنهام ينظر لمستقبل الجناح الكوري، ويعده كي يكون لاعبًا من الطراز الأول. فكانت خطوة بوتشيتينو الأولى هي إعادة الثقة له. أما الثانية فكانت تحسين قدراته الدفاعية وتطوير لمسته أمام المرمى، والهدف من ذلك هو تحويله من لاعب يجيد فقط عندما يؤدي الفريق بصورة رائعة للاعب يصنع الفارق بنفسه. وقد بدا أثر المدرب الأرجنتيني على أداء لاعبه في الموسم التالي مباشرة، عندما نجح لأول مرة في مسيرته في تسجيل أكثر من 20 هدفًا بمختلف المسابقات. لكن سون لم يكن قد قدم أفضل ما يملك بعد، واحتاج عامًا آخر حتى يكتمل نضجه وتقوى شخصيته. وبدأ الموسم الحالي برحلة لإندونيسيا رفقة المنتخب الكوري تحت 23 سنة لخوض بطولة الألعاب الآسيوية، لا بد أنك تعرف مدى أهمية تلك البطولة بالنسبة لسون، إذ كان ينبغي عليه قيادة المنتخب للتتويج حتى يفلت من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية لمدة عامين. وهو ما تمكن من إنجازه بالفعل بعدما صنع هدفي الفوز على اليابان بنهائي البطولة مكتسبًا تعاطفًا جماهيريًّا حول العالم.ومن إندونيسيا إلى إنجلترا، عاد هيونج مين للندن مجهدًا لكنه كان سعيدًا بتخطيه لأكبر عقبة قد تعيق مسيرته. وسرعان ما ظهر مجددًا بتشكيل توتنهام الأساسي، ليقدم الكوري واحدة من أفضل فتراته بين شهري نوفمبر ويناير الماضيين، وتقول إحصائياته إنه امتلك دقة مراوغات جاوزت مراوغتين ناجحتين/المباراة، ودقة تمرير 82%، وبدا مبادرًا أكثر على المرمى فوصل معدل تسديداته لـ3.4 تسديدة/المباراة، وكل هذه الأرقام يسجلها سون للمرة الأولى في تاريخه. كان أداء هيونج مين خلال تلك الفترة مؤشرًا على صحة رهان بوتشيتينو عليه، إلا أن الأخير احتاجه في أهم لحظة من الموسم عندما أصيب مهاجمه «هاري كين» في ذهاب دور ربع نهائي التشامبيونزليج، وحينها علقت آمال أنصار توتنهام جميعًا على قدمي الكوري. ومرة أخرى لم يخيِّب سون رجاء مدربه، ونجح في التسجيل ذهابًا ثم ترجيح كفة فريقه إيابًا والعبور على حساب السيتي، أحد أقوى المرشحين للفوز بالبطولة. كان والده وونج جونج ذو الملامح الصارمة يشاهد ابنه يصنع تاريخًا أوروبيًّا لفريقه، ويحتل مكانة لم يحظَ بها لاعب آسيوي منذ «بارك جي سونج». لا بد أنه كان أسعد أب في تلك اللحظة. سوى أنه لم يستهلك وقتًا طويلًا، وقام لعمله في إدارة أكاديمية سون لرعاية الناشئين التي أنشأها لتنفذ رؤيته في كرة القدم، والهدف هو إعداد سون هيونج مين القادم.