قبل أن يصنع فيلم Blue Valentine عام 2010، كان المخرج ديريك كيانفرانس يعمل على وثائقي بلمسة روائية (Docufiction)، عن عازف طبول لموسيقى الميتال يفقد سمعه. لا نعرف ما إذا كان التمويل قد توقّف أو أن كيانفرانس فقد الشغف. كل ما نعرفه أن المشروع توقّف.

لاحقًا، وخوفًا من أن يموت الفيلم على الرفوف، طلب كيانفرانس من «داريوس ماردر» (شريكه سابقًا في كتابة فيلم The Place Beyond The Pines) أن يكمل ما بدأه. ورفض ماردر مقترحًا أن يأخذ كيانفرانس القصة ويعيد كتابة السيناريو، أي يصنع الفيلم بلُغته هو، لا أن يُكمل على لغة سابقه.

اللغة التي يتواصل بها الفرد مع العالم

يدَشن «روبن» (Riz Ahmed في أحد أفضل أدواره) المشهد الافتتاحي لفيلم Sound of Metal، كشخص يُمسك بالسَكينة على هيئة عصيان خشبية، كل ضربة على الرقع دفقة منها، إنه طليق خلف الطبول، بينما شريكته «لو» (تؤدي دورها ببراعة Olivia Cooke) تلعب الجيتار وتصرخ في الميكروفون.

الأضواء الفاتنة والصوت العالي، الاحتفالي في صخبه، تم غرسها في رؤوسنا بمَكر، كجمهور غير فاقد للسمع. المشهد كموضع آمن: روبن، من العالم، حيث ينبغي أن يكون.

دقائق بعد ذلك المشهد، وفجأة، يبدأ «روبن» بخسارة سمعه، فيتحوّل الموضع الآمن إلى فردوس مفقود يتوق إليه «روبن» في دورانه فيما بعد الفقد، ممسوسًا بالفكرة، تأكل ما عداها: عليه أن يعود مُجددًا إلى هناك، مُقيدًا بفلسفة متجذرة في دواخلنا: تمام، كل شيء يُمكن إصلاحه.

يسلك الفيلم مذهب الكاتب الأمريكي «جورج سوندرز»، بأن يرصد قواعد الخصوصية (ما هو لون الثوب؟ كيف يمسّه الضوء؟ ماذا قال؟ ماذا قالت؟) واثقًا أنه بذلك يخلق فلسفة أكثر تعقيدًا وإحكامًا من أي أجندة كان يود طرحها مسبقًا.

هكذا بواسطة شيء بسيط كسيجارة، نعرف أن «روبن» و«لو» كانا مدمنين، فتظهر لنا الفترة بين المشهد الافتتاحي وفقدانه السمع، ذلك الصباح الرائق التالي على الحفلة، سجّادة فُرشَت على الزجاج المتكسر للماضي، مشى عليها «روبن» و«لو» بأطراف أصابعهما.

الآن تتداعى الأشياء في الحافلة المتنقلة حيث يعيشان، سابقًا طفت هنا حياة هادئة من شعرية الأفعال الاعتيادية والحوارات الصغيرة، لكن الآن، بعد فقدان «روبن» لغة تواصله مع العالم وحصره مع العفاريت في رأسه، تتلاشى لمحات سكينة المشهد الافتتاحي التي عبقت الأجواء بينما تسير الحافلة على منحدر التوتّر، التوتّر الذي يبدو لنا هاجسًا بحدوث انتكاسة.

الدعوة إلى لغة أخرى

هناك تيار من الأفلام يتدفق الآن في الولايات المتحدة، يدفع بالشخصية الرئيسية إلى ثقافة مغايرة، مُهمَشة في الأغلب وغير مُمثَلة، وفي الوقت نفسه يدعوها لتحتل فضاءه، لتوفر ديناميكية العلاقة بينهما وسيلة خلاص (أو اكتشاف ذات) للشخصية الرئيسية.

يحدث ذلك في أفلام مثل American Honey» (2016)» لأندريا أرنولد، وGive Me Liberty» (2019)» لميخائيل ميخانوفسكي و Nomadland (2020) لكلوي تشاو، أفلام نرى فيها دينًا لـتيرينس ماليك وتوجهًا طبيعيًا، مبنية على مقالات في الصحف أو مقابلات حقيقية، وتؤسِس بالضرورة لشخصياتها الرئيسية، التي تطل علينا كمنازل آيلة للسقوط، عزلة آسرة مع المحافظة على اتصال بالبشر، مستخدمة مقاربة وثائقية، وتُوظِف طاقمًا من غير الممثلين أو شخصيات من تلك الثقافات المغايرة.

كما تُوضع تلك الثقافة نفسها (ثقافة بائعي المجلات المتجّولين في American Honey أو الرحّل في العربات في Nomadland على سبيل المثال) في اتجاه معاكس لمجتمع تتجلى أخطاؤه المتأصلة ظاهرة، تُوضع تلك الأفلام مقاربتها للموضوع المطروح على ضفة مقابلة للمعتاد والمتوقع من السينما الأمريكية؛ بدلًا من الانغماس في معالجات سطحية تليق بكتب المساعدة الذاتية أو المشاركة في تخدير المشاهد بحلول نصف مخبوزة، يخاطر صانعوها، بالضبط كما خاطرت شخصياتها المتمردة على المألوف، فيختارون طرقًا قلّ سالكوها.

تلك الأفلام ترحل عن الوعي الذي نشأت فيه المشكلة، إنها ترفض اللغة السائدة فتخلق لغة جديدة خاصة بها. صوت المعدن (الذي انبعث للحياة بالأساس عبر انتقاله من لغة لأخرى) ليس غريبًا عن هذا التيّار؛ أشياء تقنية مثل حتميّة استخدام التعليق النصّي (Caption) أو قصصية مثل اختيار «لو» بأن تتصل بالراعي (Sponser: الشخص المسئول عنهما في رحلة التعافي من الإدمان)، هي أشياء لا تقع في غير تلك اللغة الجديدة.

عبر هذا الانتقال يدفع «روبن»، خشية أن تحدث له انتكاسة، إلى مجموعة للتعافي من الإدمان (Recovery Group)، وبما أنه فقد سمعه، فإن هذه المجموعة تنتمي إلى مجتمع فاقدي السمع. هكذا تتم الدعوة.

الجلوس في غرفة فارغة

التغيّر: لا شيء في العملية شرٌ في ذاته… ولا شيء في النتيجة خيرٌ في ذاته.
ماركوس أوريليوس، التأملات

عَبر شخصية المرشد في المجتمع الجديد «چو» (وقام بدوره «بول رايسي» بحركات واثقة ووجه يحمل في تجعيداته أثر الطريق) يعلن الفيلم أنه لا يتعامل مع فقدان السمع كفجيعة، بل كتغير تخضع كيفية استقباله والنتائج المترتبة عليه، لعقلية الفرد.

يُطلب من «روبن» أن يتعلم كيف يكون فاقدًا للسمع ويتم اختيار اسم له في لغة الإشارة، لكن «روبن» يتحرّك بحقيبة ممتلئة بالشكوك المُعلّبة، والاستغلاق الذي يؤكل على العشاء، ففي الملامح الصبيانية لـRiz Ahmed  إحباطات منْ لا يفهم لماذا هو عالق، ولأن وجهة النظر في الفيلم هي، في الحقيقة، وجهة سمع (نُغمَر فيها بواسطة تصميم صوت أصيل ومُتقن)، نجد أنفسنا عالقين معه في عقله، أمامنا تستلقي أفكاره ونوازعه على اهتزازات وذبذبات خفيضة، نشعر معه بالذعر حينما يكون على وَشك التشقق، ونغضب مثله عندما يسنِد إليه «چو» تمرين الجلوس في غرفة فارغة عوضًا عن محاولاته المستمرة لتصليح الأشياء.

لا يستخدم ماردر موسيقى تصويرية ليجعلنا نحسُ شيئًا ما، حين يردّنا من الحصر في عقل «روبن» فإنه يترك صوت أوراق الشجر يحرّكها الهواء لتقوم بالمهمة، أصوات الملاعق على المائدة أو بهجة أطفال يلعبون في أحد الحقول. يلمح المشاهد السكينة تمس «روبن»، في اندماجه في اللغة الجديدة، لقد قُبض عليها وهو جالس بعد ذلك في الغرفة الفارغة، تتمطى عبَر النافذة على صوت العصافير، لا بُد أنه أحسّ، ولو لوهلة، بما كان يحس خلف الطبول.

بينما انتمت كلمات مثل اللحظة الحالية، الهنا والآن إلى اللغة الجديدة، عبثت كلمات مثل الماضي والمستقبل في اللغة القديمة، بمجرد أن تُجلب سيرتها ينزلق «روبن» مجددًا إلى حقيبة الشكوك وهوس التصليح، رافضًا أن يقصيه التغيّر عمّا كان له، إنه يفعل الأشياء التي تُعرِّف كلمة انتكاسة، من دون أن يدُمن: يبيع كل شيء ليحصل على العملية.

يسأله «جو» عن كل الصباحات التي أمضاها في الغرفة، هل استطاع وحصل فيها على قدر من السكينة، التي تجعل العالم القاسي محتملًا، السكينة التي هي مملكة الرب؟ لا يجيب «روبن» على السؤال، في وجهه التهاوي في سلوك إدماني وكسره الثقة بينه وبين أعضاء المجموعة، إنه يُدرك تمامًا أنه كَفر بتلك السكينة، وها هو يُطرد منها.

صوت المعدن

صوت المعدن، كفكرة، صوتان. الأول، نتعرف عليه في المشهد الافتتاحي: حرفيًا ومجازيًا في الوقت نفسه. إنه «روبن» خلف الطبول، يتحدث لغة مملكة الرب، يحسُّ التناغم في العالم ويحقق، بحسب تعبير أوريليوس، الألوهة في داخله.

عندما يفقد ذلك، يظهر صوت المعدن الثاني في البداية مجازيًا (هو إصلاح الأمور والعودة إلى اللغة نفسها)، ثم حرفيًا (ألواح معدنية في رأسه، تتجاوز قوقعتي الأذنين، فتخدع المخ وتجعله يظن أنه يسمع) لكن اللغة، التي عاد إليها «روبن» بسبب ذلك، ليست سوى مكسور لغة عرفها، موتّرة ومنفّرة كمعدن يحتك بمعدن ولغة أخرى غريبة عنه (الفرنسية)، وجد «لو» مُدمَجة فيها، بشعر قصير ولباس مختلف.

في المشهد الأخير للفيلم، بعد ما خسر «روبن» كُل شيء وأدرك استحالة العودة، تدهمه الضوضاء من كل جانب (جرس كاتدرائية، حركة السيّارات، أولاد يلعبون حوله) فيفصل معالج الألواح المعدنية.

يخبرنا ماردر أن ذلك المشهد هو انعكاس للمشهد الافتتاحي وأن صوت المعدن، عنوان الفيلم، هو بالأساس تعليق نصّي (Caption)، أي غير مسموع، موجود في لغة أخرى غير لغة الجمهور غير فاقد السمع، كما لو كان يدعوهم إلى فصل ألواحهم المعدنية والانضمام إلى «روبن»، للحظة هناك، في مملكة الرب.

لقد قال «روبن» لا أخيرًا، كما قالها قبله داريوس ماردر لـديريك كيانفرانس، وكما قالتها الأفلام المغايرة إلى تيار المعالجات السائد، ها هو يجلس هناك، على مقعد من دون طبول، حيث العالم كله الآن، صار غرفة فارغة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.