يذهب البعض بخياله إلى أن اشتداد قبضة «الغرب» الاستعماري على أغلبية بلدان عالمنا الإسلامي تعني أن «الوعي الذاتي» لأبناء مجتمعات أمتنا قد تبدَّل أو انقلب من موقف التحفظ والدفاع عن الهوية الذاتية كحق مشروع لكل أمة تتعرض للعدوان، إلى موقف الرضوخ والقبول والاستسلام للأمر الواقع. وما أبعد هذا الخيال عمَّا وراء ظواهر الواقع وما في حقائب حقائق الأحوال.

فبتدقيق النظر يتضح ما تخفيه غواشي الأحداث رغم قسوتها، ورغم ما يشي به نفاد الصبر على احتمال ما يجري. ذلك لأن الوعي الموصوف بأنه «إسلامي» لا تُشكِّله «أحداث الواقع» وحدها، لأن «الأحداث» ليست سوى «قشرة» وإن كانت غليظة وقاسية، مثلما هي أحداث الهمينة الاستعمارية اليوم غليظة وقاسية وشديدة الوطأة على مجتمعاتنا؛ وإنما تشكل هذا الوعي أربعة مصادر كبرى لا ينفك عنها أبناء أمتنا في غالبيتهم، بل يتوارثونها جيلًا بعد جيل. وهذه المصادر هي المسئولة عن غرس ثوابت الهوية، ولئن طرأ عليها شيء من التغير، فهو تغير في الشكل لا في المضمون، وفي الوسائل لا في المقاصد. وهذا إجمال سأوضحه من خلال بيان معنى ومؤدى كل مصدر من تلك المصادر الأربعة.

المصدر الأول هو: الوحي (القرآن والسنة المطهرة)، وهذا مصدر مرجعي أعلى وله سلطة عليا مطلقة كما سنبين. والمصدر الثاني هو: الفقه الذي أنتجته عقول العلماء المجتهدين انطلاقًا من مرجعية القرآن والسنة، وما يرتبط بهذا الفقه من أصول وفروع. والصفة الأساسية لهذا المصدر هي: وحدة الأصول، وتعدد الاجتهادات مع مرونة في الأحكام. والمصدر الثالث هو: الاختيارات المؤسسية والممارسات الاجتماعية التي طبقها المسلمون حكامًا ومحكومين عبر المراحل التاريخية المختلفة. وهذا المصدر هو محض كسب بشري، وفيه «العبرة» وما تعلمته الأمة من «دروس الحياة»، رغم أن الحياة معلم غليظ الكبد.

والمصدر الرابع هو وقائع الهمينة الاستعمارية الغربية واجتياحها لديار المسلمين خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وما خلَّفته هذه الهيمنة من آثار تدميرية مروعة وبعيدة المدى في آثارها السلبية. وهذا مصدر واقعي، وقد أنتج تأثيراته في تكوين الوعي الإسلامي ليس بالاستسلام له، وإنما عبر استدعاء قيم المرجعية العليا واجتهادات المجتهدين السابقين وعبرة الحياة ودروسها على مر أزمنة تاريخ المواجهة بين الشرق والغرب.

لا يستوي كل مصدر من هذه المصادر الأربعة مع المصادر الأخرى؛ لا من حيث الثبات والتغير، ولا من حيث الصحة والصلاحية، ولا من حيث قوة الإسهام في تكوين الوعي أو التأثير في الواقع الراهن ورسم صورة المستقبل.

فالمصدر الأول (القرآن والسنة)، هو الأعلى منزلة، وهو أصل الشريعة، وفيه بيان الإرادة الإلهية، التي نزل بها الوحي على محمد (صلى الله عليه وسلم)، ليكون منهاجًا يهتدي به جميع البشر في ترتيب شئون حياتهم، وفي تنظيم علاقاتهم ببعضهم، وفي تحقيق مصالحهم العامة منها والخاصة، الدنيوية والأخروية.

وهو أصل ثابت لا يتغير، وكامل لا نقص فيه، وصالح لكل زمان ومكان. هو أساس لما عداه من مصادر تكوين الوعي وحاكم له وليس محكومًا به. ويمثل هذا المصدر مركز بناء الوعي الإسلامي وإدراك الذات بعامة، وتصور العلاقة مع الآخر(الغربي) وتحديد الموقف منه بخاصة: تعاونًا أو صراعًا، سلمًا أو حربًا.

ولا يوجد في أصول هذا المصدر ما يدعو إلى المخاصمة أو الانغلاق والمقاطعة أو شن الحرب والمواجهة إلا دفاعًا عن النفس كحق أصيل أقرته كل الشرائع والقوانين القديم منها والحديث، وهذا حق ثابت لا يناله التغير. ولهذا فإن الهجوم على هذا المصدر واستهدافه بحجة أنه يحض على العنف ونفي الآخر أو كراهيته إنما يؤدي إلى خلق هذه الحالة المرفوضة من حيث لا يدري الذين يشنون هجماتهم، ولا يرون تبعاتها وسوء نتائجها في وعي الأجيال الجديدة وردة فعلها.

والمصدر الثاني (الفقه)، هو حصيلة الفهم والاجتهاد من أجل تنظيم الحياة اليومية في ظل الاجتماع السياسي الإنساني/الإسلامي ومعطياته الحضارية؛ بمختلف جوانب هذه الحياة التي تشمل: العبادات، والمعاملات، والمناكحات، والعادات، والأعراف، والجنايات والجزاءات، والأخلاق والسلوكيات. وهو أيضًا حبُّ حصيد اجتهادات المجتهدين من أجل حل مشكلات الواقع، وإرشاد الناس إلى أفضل الطرق لتطوير مجتمعاتهم، وتحسين نوعية حياتهم.

هذا «الفقه» يرد عليه النقصان كونه من كسب البشر (المجتهدين)، وأكثره متغير، وقليله ثابت. ومن حيث الصحة والصلاحية، فإن بعضه صحيح صالح لبعض الأزمنة وبعض الأمكنة، وبعضه ليس كذلك؛ ويرد عليه التغيير، ويقبل – باستمرار – التجديد.

ولم يتوقف الأخذ منه والترك، والقبول والرفض؛ بضوابط النظر الفقهي وشروطه المعتبرة. ومن هنا تتعدد الاختيارات والحلول بتعدد الاجتهادات التي يقوم بها العلماء في كل عصر.

وبشأن الموقف من الغرب والعلاقة معه؛ نجد انعكاسًا لهذه التعددية الفقهية ولتلك السعة الاجتهادية، وبخاصة في التمييز بين: وجه الغرب الاستعماري، ومقاومته هي من ثوابت الوعي الإسلامي، وليس مقاومته فقط، بل مقاومته بكل أدوات القوة الممكنة. ووجه الغرب العلمي، ووجوب التعلم منه دون حرج. ووجهه الاجتماعي السلوكي ونمط حياته ووجوب الحذر منه والتمسك بالهوية الذاتية ورفض كل ما يهدد هذه الهوية. ووجهه التبشيري الديني ووجوب مخاطبته باللين والدعوة إلى كلمة سواء والجدال بالتي هي أحسن.

وأما المصدر الثالث؛ فهو المتمثل في «الاختيارات المؤسسية والممارسات الاجتماعية»، ومنه نعرف القدر الذي تحقَّق بالفعل على أرض الواقع من جملة الاجتهادات الفقهية التي أنتجها المصدر الثاني (الفقه). وبقياس ما تحقق، بما كان يجب أن يتحقق نعرف حجم الفجوة بين «النظرية»، و«التطبيق»، ومن هنا يمكننا أيضًا معرفة الأسباب التي أدت إلى هذه الفجوة، ولماذا ضاقت حينًا واتسعت حينًا آخر. أما معيار الحكم على الممارسة فهو بمدى اقترابها أو ابتعادها عن الإجماع الشرعي الذي يحيط بها في بيئة اجتماعية وسياسية معينة وفي زمن معين.

ولا شيء من معطيات هذا المصدر (الثالث) يتمتع بالثبات، ولا بالصلاحية لكل زمان ومكان؛ فكله من قبيل المتغيرات، وقليله صالح لبعض الأزمنة وبعض الأمكنة، وكثيره على عكس ذلك، ولا يتحمل اللاحقون وزر أخطاء السابقين في اختياراتهم وممارساتهم أو ضعف مؤسساتهم، وإنما هم يحمِّلون أنفسهم ما لا طاقة لهم به؛ إن هم ظلوا على ما كان عليه أسلافهم من أخطاء هنا أو هناك. وعلى هذا المستوى يتحدد الموقف من الغرب بقواه وتكويناته المختلفة في ضوء المصالح المتغيرة؛ حيث تتحدد العلاقة معه تعاونًا، أو حوارًا، أو مقاطعة، أو مواجهة بحسب ما يحقق المصالح العامة كما تقدرها السلطات المسئولة في مجتمعات أمتنا.

وفي نور ما سبق يمكن النظر إلى مواقف الحكومات والأحزاب والحركات السياسية وقادة الرأي والدعاة والعلماء وغيرهم، ويمكن تقدير مواقفهم من العلاقة مع الغرب، وتقييم هذه المواقف والسياسات تقييما منضبطًا وموضوعيًّا ومثمرًا.

إن معطيات الوعي الإسلامي المستمدة من الممارسات الاجتماعية والاختيارات السياسية لا ترقى إلى مستوى تلك المستمدة من الاجتهادات الفقهية، وهذه بدورها – رغم أهميتها – لا ترقى ولا تساوي المعطيات المستمدة من القرآن والسنة. وكلما كانت هذه العلاقة التراتبية واضحة في الأذهان، من حيث حجية كل مصدر، وإلزاميته ووجوب العمل به، كان الوعي الإسلامي أكثر نضجًا، وأهدى سبيلًا، ليس في النظر إلى الغرب وحسب، وإنما في النظر إلى مختلف جوانب الحياة وقضاياها.

وظَنِّي أنَّ «صورة الغرب» قد ارتسمت بإيجابياتها وسلبياتها في الوعي الإسلامي المعاصر من خلال تفاعل تلك المصادر الثلاث فيما بينها. وقد يسأل سائل: على أي أساس تكونت هذه الصورة؟

والجواب هو أن هناك ثلاثة مكونات كبرى أسهمت مجتمعة – وإن بنسب متفاوتة فيما بينها – في تكوين هذه الصورة، وهي:

1. العقيدة الإسلامية:

والتي تؤسس للمسلم رؤيته للعالم على نحو شامل، بما فيه الغرب الحضاري والجغرافي بوجوهه الأربعة المشار إليها سابقًا. وتسهم مبادئ «العالمية»، و«وحدة الإنسانية»، و«الجهاد»، و«الوسطية» والشهادة على الأمم، في تكوين وبناء الرؤية الإسلامية للعالم على نحو يكون فيه الغرب جزءًا منه، وليس مهيمنًا عليه؛ ناهيك أن يكون مرجعًا له، أو نموذجًا وحيدًا يجب احتذاؤه. ومن ثَم فإن أوضاع الهيمنة التي تمارسها القوى الغربية على العالم الإسلامي منذ أكثر من قرنين ستظل مرفوضة، وستظل تسنتهض الهمم لمقاومتها والتخلص منها. ومن هنا يأتي رفض الوجه الاستعماري للغرب، ويأتي عدم التسليم بمركزيته الحضارية؛ حتى مع الإقرار بفوائد تقدمه الحضاري ووجوب التعلم من تقدمه العلمي والتكنولوجي.

2. التاريخ:

وهو يقدم الشواهد والأدلة على صدق الإدراك الإسلامي للغرب من وجوهه الأربعة السالف ذكرها. ويدخل التاريخ في تكوين الرؤية الإسلامية للغرب من زاويتين: الأولى هي زاوية تاريخ الذات الحضارية الإسلامية التي كانت متقدمة ومنتصرة في الأزمنة السابقة على العصر الحديث. وهو تاريخ يبعث على الفخر؛ لأنه من صنع القيم الإسلامية/الإنسانية، ومن كسب الإبداعات الحضارية. والثانية هي زاوية تاريخ الهيمنة الغربية والظلم الاستعماري الذي حاق بأغلب مجتمعات أمتنا الإسلامية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/التاسع عشر والعشرين الميلاديين.

وتتناقض الزاويتان في الوعي الإسلامي الحديث والمعاصر ولا تتعايشان؛ فتاريخ الذات هو نقيض تاريخ الخصم الحضاري. وعليه ينشأ الشعور بتهديد الهوية؛ التي يدخل التاريخ المجيد في مكوناتها، ومن ثَم تصبح الهوية الإسلامية مأزومة، وغير مساوية لذاتها، ويتعذر على المسلم المعاصر أن يعرف ذاته بذاته، وهو الوضع الصحيح، ويجد نفسه مضطرًّا لتعريف ذاته بغيره، وهو وضع خطأ ومقلوب. والسبب الرئيسي هو وجود المكون السلبي في تاريخ الهيمنة الغربية الحديثة والمعاصرة.

ومن هنا يتأتى رفض نمط الحياة الغربي عند أغلبية التيارات الإسلامية؛ لأن هذا النمط يصبح من مصادر تهديد الهوية الإسلامية الحضارية وإبقائها في حالة تأزم وتشتت وعدم اتزان. وينضم هذا الأثر إلى أثر العقيدة في دعم المقاومة والتمسك بأصول الذات وهويتها؛ الأمر الذي قد يغذي بعض الميول الانتقامية العنيفة في العلاقة مع الغرب وحضارته بمجملها.

3. الواقع:

والواقع مليء بالمآسي والمظالم التي تمارسها دول الغرب وحكوماته ضد مجتمعات أمتنا الإسلامية وشعوبها على امتدادها الديمغرافي الواسع. والأدلة على ذلك كثيرة وآخذة في التكاثر دون توقف أو تراجع. إلى الدرجة التي استقر فيها في وجدان الأجيال الراهنة من أبناء مجتمعات أمتنا أنه لا توجد أمة في العالم أساء الغرب إليها ولا يزال يمعن في الإساءة إليها مثل أمتنا الإسلامية؛ هو أساء ويسيء إليها اقتصاديًّا بنهب ثرواتها وخاصة النفط والغاز.

وهو أساء ويسيء إليها سياسيًّا بدعم أنظمة الحكم الاستبدادية التي تقهر شعوبها وتقتلها، ولا يقيم لحقوق الإنسان وزنًا إذا تعلقت بشعوب أمتنا الإسلامية. وهو أساء ويسيء إليها عسكريًّا في مناطق شتى تتسع يومًا بعد يوم، وبخاصة في فلسطين حيث يدعم الكيان الصهيوني على حساب الحق الفلسطيني، ويحتل أكثر من بلد عربي وإسلامي، أو يتدخل فيها عسكريًّا بحجج لا تنتهي، ويمارس ازدواجية المعايير جهرة ودون خجل أو وازع من ضمير. ثم إنه يغذي النزاعات المحلية، ويسعى لتعميق عوامل عدم الاستقرار في بلدان أمتنا ويستغل دون تردد عوامل ضعفنا الداخلية وما أكثرها.

ومن هنا يتأتي رفض الوجه التبشيري والوجه الاستعماري والوجه الاجتماعي للغرب في مجتمعاتنا المعاصرة؛ لأنها – والحالة هذه – وجوه عدوانية، وليست تسالمية، وتمتهن كرامتنا ولا تتورع عن سلب إيماننا بذواتنا الحرة متى ما تمكنت من ذلك؛ لقاء بعض المساعدات المادية.

صورة الغرب في أعماق الوعي الجماعي لأبناء أمتنا لها أربعة وجوه، وليس وجهًا واحدًا، وترسمها ثلاثة مكونات لا مصدر واحد، ولكل وجه موقف، ولكل مكون دور ومهمة. وستبقى ملامح الغرب على ما وصفناها في رؤية الأجيال الجديدة من أبناء أمتنا ما بقيت العوامل التي تنتجها على حالها.