لم يكن الاحتفال الذي شهدته بكين بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي في مطلع يوليو/تموز الجاري حدثًا عاديًّا، بل نهاية مرحلة وبداية أخرى من الحلم الصيني لسيادة العالم، وقد جاء خطاب الرئيس شي جين بينج قويًّا وحادًّا، إذ تعهد بعدم السماح لأي قوة دولية بأن ترهب بلاده، وأن زمن التنمر عليها قد «ولى إلى غير رجعة»، وأنها ستمضي في بناء جيش «عالمي» لحماية مصالحها، ووجَّه رسالة تهديد إلى «المتنمرين الدوليين» بأنهم إنما يضربون رؤوسهم في جدار فولاذي عظيم يشكله أكثر من 1.4 مليار صيني، سيسحق رؤوسهم ويخضبها بالدماء.

ويبدو العملاق الآسيوي اليوم عازمًا، ليس فقط على غسل عار الماضي في زمن الخضوع للقوى الأجنبية، بل على تبادل الأدوار مع تلك القوى وإجبارها على الاعتراف بمكانته الجديدة. فبعد وصول شي إلى الحكم في عام 2012، بدأ يعد العدة لانتهاج سياسة خارجية مختلفة عن تلك التي أرساها دينج شياو بينج، مؤسس نهضة البلاد وصاحب سياسة إخفاء القوة، إذ أصبحت بكين أكثر صرامةً وحزمًا بصورة متزايدة اعتمادًا على وصولها إلى درجة من القوة والثراء تتيح لها مواجهة أي تحديات خارجية.

الصراع على كنوز بحر الصين

على الصعيد الإقليمي، أضحى التنين الأصفر قوة لا تُقاوم وبات يفرض نفوذه حتى على المياه الدولية، فبحر الصين الجنوبي خضع معظمه عمليًّا لسيطرة بكين التي تجاهلت حقوق الدول المشاطئة له: ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام والفلبين وبروناي وكذلك تايوان.

وتُقدر احتياطات بحر الصين الجنوبي من النفط بـ 11 مليار برميل، وحوالي 190 تريليون قدم من الغاز الطبيعي، إلى جانب احتوائه على 12% من مصايد الأسماك في العالم، وتمر عبره 30% من تجارة الشحن العالمية بما يتراوح بين 3 و5 تريليونات دولار تخدم سوقًا حجمه 2.2 مليار شخص.

وبحسب قانون البحار، فإن المياه الإقليمية لأي بلد تقع في نطاق 12 ميلًا بحريًّا من ساحله، تمتد بعدها منطقتها الاقتصادية الخالصة لمسافة 200 ميل، يبدأ بعدها نطاق المياه الدولية المفتوحة، لكن الصينيين مدوا حدودهم البحرية لآلاف الكيلومترات استنادًا إلى خريطة قديمة خالية من الإحداثيات تسمى «خط الخطوط التسع».

وقد فندت محكمة التحكيم الدولية هذه المزاعم في حكمها الصادر في 12 يوليو/تموز 2016  في القضية التي رفعتها الفلبين وربحتها، لكن بكين تجاهلت الحكم ولم تعترف به، ولم يكن له أي نتيجة عملية.

الإكراه الصيني

تعتمد سياسة الإكراه الصيني على عدم خوض أي مواجهات عسكرية قدر الإمكان، بل يتم الاكتفاء بتغيير الواقع من خلال سلسلة خطوات صغيرة تحت عتبة الحرب لتحقيق هدف استراتيجي عبر مدة زمنية طويلة. توسع الصينيون تدريجيًّا ولعبوا على عامل الزمن، وشيئًا فشيئًا بدأوا باستعمال طرق أكثر خشونة. ففي 1 فبراير/شباط الماضي تم إصدار قانون خفر السواحل (CCG) الذي يمنح القوات الصينية حق فتح النار على السفن الأجنبية المارة في المنطقة، وتم استبدال عبارة «خط الخطوط التسع» التي تتحدث عن مطالبات تاريخية بمصطلح «المياه الواقعة تحت الولاية القضائية الصينية» الذي يتحدث عن أمر واقع.

وفيما ردم الصينيون أجزاءً من البحر وأنشأوا سبع جزر اصطناعية على الشعاب المرجانية وبنوا بها قواعد عسكرية، أعلنت القوات المسلحة الفلبينية اكتشاف بناء هيكل جديد في الثالث من أبريل/نيسان الماضي اتضح أنها الجزيرة الصناعية الثامنة التي تشيدها بكين في تحدٍّ صارخ لحكم محكمة التحكيم الدولية، ولم تجرؤ مانيلا على التصدي لـ 220 سفينة اقتحمت منطقتها الاقتصادية الخالصة على مرأى منها.

عسكرة بحر الصين

أطلقت هذه التحديات سباق تسلح في المنطقة كانت واشنطن حاضرة فيه. فبعد واقعة الجزيرة الثامنة، أعلن الأمريكيون عن الموافقة على صفقة ضخمة بقيمة 2.43 مليار دولار لمانيلا شملت طائرات F-16  وصواريخ جو-جو وصواريخ مضادة للسفن في تأكيد على دعم واشنطن لحليفها ضد العدوان الصيني. في الثاني من يونيو/حزيران الفائت، اتهمت ماليزيا الصين بتهديد سيادتها بـ 16 طائرة عسكرية، مما دفع الماليزيين للتعجيل بالإعلان في 22 من الشهر نفسه عن مناقصة لتحديث القوات الجوية الملكية وشراء 36 طائرة جديدة. كما أطلقت جاكرتا حملة لتحديث قواتها البحرية ردًّا على التوغلات الصينية المتكررة في مياهها، وفي يونيو/ حزيران وضعت إندونيسيا حجر الأساس لمركز بحري استراتيجي بالتعاون مع خفر السواحل الأمريكي في جزر رياو التي تتنازع إندونيسيا مع الصين على مياهها.

وبينما تكثف بكين ضغوطها لمنع دول بحر الصين الجنوبي من التعاون مع دول خارج المنطقة والاكتفاء بالمسار التفاوضي مع بكين الذي لم يؤدِّ إلى أي نتيجة ملموسة، أنشأت واشنطن «الحوار الأمني الرباعي» (QUAD)، وهو شراكة استراتيجية بين اليابان والولايات المتحدة وأستراليا والهند للتصدي للتوسع الصيني في المنطقة، فيما بات يُطلق عليه مجازًا «الناتو الآسيوي» .

كل من الهند واليابان لهما نزاعات حدودية مع الصين وتمر تجارتهما عبر المياه المتنازع عليها. كما أن أستراليا لها مصالح في بحر الصين وتمتلك ثالث أكبر منطقة بحرية اقتصادية في العالم، وتسعى للحفاظ على نظام القوانين هذا شرعيًّا ومستقرًّا، لذا كان لها موقف حاد من بكين وتحملت عقوباتها على مدى السنوات الماضية في سبيل هذا الموقف، وقد شاركت خمس مرات في الأشهر الستة الماضية فقط في عمليات حرية الملاحة التي تنظمها واشنطن بشكل دوري وتخطط لإجراء العديد من هذه المهام في الأسابيع المقبلة حيث تعبر القطع البحرية المنطقة المتنازع عليها وسط تنديدات وتهديدات بكين.

 لكن من غير المرجح أن تتوقف الأمور عند هذا الحد، فوزير الدفاع الصيني، الجنرال تشانغ وان تشيوان، وجَّه العام الماضي دعوة للاستعداد إلى ما أسماه بـ«حرب الشعب في البحر». كما أن ستيف بانون، مستشار الرئيس السابق دونالد ترامب، قال في ٢٠١٧ إن الحرب مع الصين ستكون حتمية خلال العشر السنوات التالية.

تركِّز الولايات المتحدة منذ عام ٢٠٠٩ على تحدي الصين في شرق آسيا، وتصر على اختراق سفنها الحربية لما تعتبره بكين حدودها البحرية بانتظام؛ فالنزاع حول بحر الصين الجنوبي لم يعد مجرد قضية إقليمية بل تنافسًا على قيادة العالم، فواشنطن لم تصل إلى مكانتها الدولية إلا بعد أن هيمنت على نصف الكرة الغربي فيما عرف بمبدأ مونرو الذي أُعلن عام ١٨٢٣، ومنعت القوى الأوروبية من التدخل في فنائها الخلفي، وهو عين ما يحاول العملاق الآسيوي فرضه.

تُولي الولايات المتحدة هذا التحدي أهمية فائقة بالرغم من أن ليست طرفًا في تلك النزاعات الحدودية، حيث تدعم الدول المناوئة لبكين بقوة. ويفسر أستاذ العلوم السياسية الأمريكي المرموق، جون ميرشايمر، هذه المسألة بأن القوى العظمى لا تكتفي بمنع الدول المنافسة من منازعتها في مناطق نفوذها، بل تحاول احتواء قوتها حتى في المناطق البعيدة عنها لوأد مشروع صعود قوى عالمية منافسة لها.