ساد فى كوريا الجنوبية نمط الحكم السلطوي لعقود فى فترة الحرب الباردة، وفي هذا العهد كان هناك حوالي 40 حزبًا سياسيًا أشبه بالنوادي الاجتماعية، واعتمدت على الروابط الشخصية أو الإقليمية، ولم يكن هناك أي مشروعات سياسية عامة بشكل حقيقي ما جعل دورها السياسي غير مرئي.

وكان سينجمان ري، أول رئيس بعد الاستقلال من اليابان، على خلاف دائم مع معارضيه، وشهد عهده احتجاجات طلابية وعمالية مطالبة بالديمقراطية، وتحت غطاء مناهضة الشيوعية تم تبرير النزعة الاستبدادية وترهيب المعارضة، وفي عام 1948 تم قمع انتفاضة جيجو الشعبية وفرض قانون الأمن القومي المتضمن صلاحيات كبيرة لقمع المنافسين وحظر الأنشطة التي تعتبرها السلطة تمس أمن الدولة.

تم تأمين طول العمر السياسي لري أيضًا من خلال مراجعات دستورية انتقائية تهدف إلى تجاوز حدود فترة الرئاسة، لكن في نهاية المطاف أدى تفشي الفساد والمحسوبية إلى احتجاجات طلابية جماهيرية بعد اتهام الحكومة بتزوير الانتخابات الرئاسية عام 1960 وتم قمع المظاهرات، لكن مع عدم ميل واشنطن إلى دعمه، ووسط ضعف النمو الاقتصادي والمعارضة الشعبية القوية، تنحى ري وذهب إلى المنفى السياسي في الولايات المتحدة.

أدى هذا إلى بدء فترة وجيزة من التحول الديمقراطي، ومراجعة دستورية محدودة، بما في ذلك انتقال السلطة إلى رئيس وزراء بدلاً من نظام الحكم الرئاسي، قبل وقوع انقلاب عسكري عام 1961 بزعامة بارك تشونغ هي.

أرسى بارك نمط حكم استبدادي، لكنه ركز على الإصلاح الاقتصادي متبعًا بشكل كبير النموذج الياباني، إذ أدى تطبيع العلاقات مع طوكيو في عام 1965 إلى تزويد سيول بالموارد الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها مما دعم صعود الطبقة المتوسطة الناشئة، وأسهم هذا النمو في تعزيز الاستقرار واستمد بارك شرعيته من إنجازاته الاقتصادية.

بعد ظهور شخصيات معارضة قوية وفعالة مثل كيم داي جونغ وكيم يونغ سام، قرر بارك في عام 1972 تشديد سيطرة الدولة، وأدخل قيودًا سياسية عديدة.

بعد اغتيال بارك في عام 1979، شهدت الدولة فترة قصيرة استمرت لبضعة أسابيع بدا فيها أن البلاد على وشك العودة إلى الحكم الديمقراطي، إلى أن استولى الجنرال تشون دو هوان على السلطة في انقلاب عسكري في ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، وأسس نمطًا من الحكم الاستبدادي الواضح الذي كان في بعض النواحي أكثر وحشية من عصر بارك، ومارس القمع والتنكيل بالمعارضين وحد من حرية النشاط الحزبي، واتُهم بقتل مئات المحتجين في انتفاضة 1980 الديمقراطية.

التحول الديمقراطي

انطلقت مسيرة التحول الديمقراطي عام 1987، إذ اندلعت احتجاجات شعبية متأثرة بالثورة الفلبينية عام 1986 ونجحت في إنهاء الحكم الديكتاتوري لفرديناند ماركوس، مما نشر روح الثورة في منطقة شرق آسيا.

نتيجة استياء الطبقة الوسطى المتزايد من الحكومة والخوف من أن الاحتجاجات الطلابية ستعرض البلاد دورة الألعاب الأولمبية في سيول المقرر عقدها في العام التالي، وهي لحظة مهمة كانت تنتظرها البلاد لاستعراض مكانتها العالمية، قرر الجنرال تشون تخليه عن الحكم.

لكنه لم يسلم السلطة للمعارضة بل أعرب عن نيته عدم الترشح وفتح الباب لانتخابات حرة، وهو ما طلبه المحتجون تمامًا، لكن بعد الاستجابة لمطالبهم انقسم المحتجون ولم يتفقوا على مرشح رئاسي يمثلهم جميعًا، بينما كان معسكر النظام أكثر تماسكًا ونظامًا، فكسب النظام الجولة عبر الدفع بمرشح له قبول شعبي من الجانبين، وهو روه تاي وو.

كان روه ضابطًا عسكريًا خدم في عهد الجنرال تشون ولكنه نجح في إبعاد نفسه صوريًا عن الديكتاتورية العسكرية من خلال تقديم نفسه كمصلح سياسي قادر على إقناع المعارضة، ورشحه الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية في أكتوبر/تشرين الأول 1987 وفاز بنسبة 36.6%، مستغلًا فشل أحزاب المعارضة في الاتفاق على مرشح واحد وقد كان المرشحون الآخرون هم كيم يونج سام، زعيم الحزب الديمقراطي المتحد، وكيم داي جونج، زعيم الحزب الديمقراطي، وكيم جونج بل، زعيم الحزب الجمهوري الديمقراطي الجديد، فتحولت البلاد إلى نظام تعددية حزبية رباعية.

وبعد انتخابه أوفى روه بتعهداته الخاصة بالعمل على إصلاح الحياة السياسية من خلال العمل مع قادة المعارضة في صياغة دستور جديد في عام 1988، وأدى ذلك إلى عدد من الإصلاحات الجزئية كإعادة الانتخابات المباشرة لرئيس الجمهورية.

وفي انتخابات الجمعية الوطنية عام 1988 أسفرت الانتخابات عن فوز حزب معارض وبهذا يفشل حزب حاكم لأول مرة في أغلبية الحصول على مقاعد المجلس التشريعي، ويمكن اعتبار عهد روه مرحلة انتقالية ووسطية بين الحكم العسكري لبارك والحكم المدني.

الحياة الديمقراطية

يعد عام 1993 نقطة تحول في تاريخ كوريا الجنوبية وبداية حقيقية للحياة الديمقراطية، بوصول أول رئيس مدني منتخب وهو كيم يونج سام، عبر التداول السلمي للسلطة.

وفي عهده تمت محاكمة الرئيسين السابقين وهي السابقة الأولى من نوعها في التاريخ السياسى للبلاد، وتم إطلاق سراحهما من السجن في نهاية عام 1997، بعد أن عفا عنهما كيم يونج سام بناءً على نصيحة كيم داي جونغ، الذي انتُخب خلفًا له، وحضر روه وتشون حفل تنصيبه في 25 فبراير/شباط 1998 بعد الإفراج عنهما.

وبعد أن أكمل جونغ مدته البالغة خمس سنوات، انتخب روه مو هيون عام 2003 رئيسًا، لكن تمت تنحيته بعد عام واحد، ففي مارس/آذار 2004 أقاله البرلمان قبل أسابيع من الانتخابات التشريعية بعد أن دعا إلى دعم حزب «أورى» الصغير الموالي للحكومة في الانتخابات التشريعية المقبلة منتهكًا بذلك الدستور الذي يلزمه بالحياد، كما تم اتهامه في قضية تمويل غير مشروع للأحزاب، وعلى إثر هذا انتحر في 23 مايو/أيار 2004، عبر القفز في واد عميق تاركًا رسالة وداع لعائلته، قال فيها إنه يشعر بالحزن لأنه سبب الآلام للكثير من الناس.

مضت مسيرة التداول السلمي للسلطة، واشتهرت البلاد بمحاسبة ومحاكمة زعمائها بلا هوادة، ففي عام 2017 تم عزل الرئيسة بارك غونغ هيي، بعد إدانتها بالفساد واستغلال السلطة وعزلها.

وأصبح المدعي العام، يون سوك يول، بطلًا شعبيًا بعد قيادته لعملية التحقيقات التي أفضت إلى سقوط الرئيسة بارك، وتحول إلى سياسي معارض لاحقًا ومنافس للرئيس مون جاي إن، الذي خلفها في المنصب، واستطاع المدعي العام السابق الوصول للحكم في مارس/آذار 2022، بعد أن انتُخب كمرشح المعارضة وهو رئيس البلاد اليوم، فيما احتفظ الحزب الديمقراطي الليبرالي بالأغلبية في البرلمان.

انهيار وهم الاستثناء الثقافي

دعمت الولايات المتحدة القادة الاستبداديين في كوريا الجنوبية لمصلحة إعطاء الأولوية للأمن على الديمقراطية، أي إنها فضلت دعم حلفائها المستبدين خلال توترات الحرب الباردة بغض النظر عن طبيعة حكمهم، وحرصت على مساعدة الاقتصاد الكوري الجنوبي ليكون نموذجًا للنظام الرأسمالي الناجح في مواجهة النظام الاشتراكي في كوريا الشمالية.

 لكن يمكن رد جذور التحول الديمقراطي إلى عهد بارك، فرغم أنه أتى للسلطة عن طريق انقلاب عسكرى في 1961، لكن التطور الاقتصادي وانتشار التعليم ووسائل الاتصال وتقدم البنية التحتية دعم صعود الطبقة الوسطى وقوى المجتمع المدني وأدى إلى تزايد المعارضة للحكم العسكري، وانتشار الوعي السياسي.

سعى بارك أيضًا بعد انقلابه إلى إضفاء الشرعية على حكمه الأوتوقراطي تحت دعوى «الاستثناء الثقافي» ليس فقط عبر نجاح نموذج رأسمالية الدولة، ولكن أيضًا من خلال التنمية الريفية بطرق تتفق مع أسلوب السلطة الأبوية، فكانت حركة «القرية الجديدة» (saemaul) في عقد السبعينيات محاولة للترويج لشكل فريد من الديمقراطية «الوطنية» التي تتعارض مع المعايير العالمية للديمقراطية الليبرالية.

وحتى طوال الفترة الانتقالية، ظلت الثقافة السياسية لكوريا الجنوبية نخبوية وهرمية، فكان القادة السياسيون سواء من المعسكرات التقدمية أو المحافظة يميلون إلى إضفاء الشرعية على قيادتهم عبر دعم نفوذهم الشخصي، إلا أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرات التكنولوجيا الحديثة والمظاهرات العامة المنظمة كانت من ضمن عدة أسباب أدت إلى إضعاف جزئي لسلطة النخب السياسية التقليدية بمرور الوقت حتى تجذرت الثقافة الجديدة مع طول فترة الممارسة الديمقراطية الفعلية.