جنوب السودان، إنها مأساة أفريقيا و جرحها النازف اليوم، ففيها آلاف القتلى والمشردين بسبب الحرب بين المليشيات القبلية التي تمارس أبشع وأسوء الانتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي في ظل تحركات خجولة من المجتمع الدولي.

بعد توقيع اتفاق سلام مهزلة في أغسطس/آب عام 2015م بين رئيس جنوب السودان «سلفاكير» ونائبه السابق «رياك مشار»، هدأت الأوضاع وظن الجميع أن الهدوء سيعم أرض جنوب السودان بعد حرب قبلية لمدة عامين بين الدينكا (قبيلة سلفاكير) والنوير (قبيلة مشار)، ولكنه ما كان سوى هدوءًا يسبق العاصفة، فالاتفاقية نزعت السلاح العسكري الثقيل والمتوسط من مدينة جوبا عاصمة الجنوب ونشرت فيها قوات شرطة مكونة من الطرفين 1500 شرطي لسلفاكير و1000 شرطي لمشار، وبالتالي منعت وجود يد عليا مسؤولة عن تأمين عاصمة الجنوب وهذا مما سهل الانفجار.

بدا للمراقبين لأول مرة وبشكل جلي أن سلفاكير أصبح رهينًا للقيادات القبلية تمامًا ومجرد تابع لهم.

ففي ليلة احتفال الجنوبيين بعيد استقلالهم من الشمال في 9 يوليو/تموز 2016، اندلع اشتباك في نقطة تفتيش بين عربة عسكرية لقوات مشار ونقطة عسكرية لقوات سلفاكير نتج عنها مقتل جنديين من قوات مشار و 5 من قوات سلفاكير، وعند هذه الليلة اشتعلت الحرب. فرغم خروج مشار وسلفاكير في مؤتمر صحفي مشترك مطالبين الميلشيات بإيقاف القتال وتشكيل لجنة تحقيق في الواقعة، فإن المقاتلين على الأرض رفضوا المؤتمر الصحفي بل وأرسلوا عددًا من القذائف لمقر القصر الجمهوري معلنين أنهم لا يتبعون السياسيين ولا يطيعون أوامرهم، و أنه لا حاكم لهم سوى قناعتهم.

بعد عدة أيام وكما هو متوقع انحسمت الأمور في جوبا لصالح الكثافة النيرانية والعدد الأكبر، واندحرت قوات مشار خارج جوبا ولكن اشتعلت الحرب في كل مدن الجنوب، فسمعت أصوات القذائف في الناصر وراجا ورومبيك وأعالي النيل، واحتلت المعارضة بعض المدن وأخرجت منها الجيش النظامي، وقام الرئيس سلفاكير بتصرف غريب وعجيب هو أنه غيّر نائبه رياك مشار بآخر من نفس قبيلته هو السيد تعبان دينق، وهذا القرار ينطوي على مخالفة صريحة لقرارات الإيقاد والشرعية الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة، وبرر سلفاكير تصرفه الغريب بتعذر قيام رياك مشار بمهام نائب رئيس الجمهورية، وكانت خطوة سلفاكير خطأً فادحًا، فغير أنها خطأ فادح ومخالفة لاتفاقية السلام فقد اتخذها بعد اجتماع لمجلس قبائل الدينكا (قبيلة سلفاكير) طالبوه فيه بأن يعزل مشار؛ بسبب استقوائه بالخارج وعمله ضد مصالح دولة الجنوب، وبدا للمراقبين لأول مرة وبشكل جلي أن سلفاكير أصبح رهينًا للقيادات القبلية تمامًا ومجرد تابع لهم.

استطاع نائب رئيس دولة الجنوب رياك مشار الهروب من جنوب السودان إلى دولة الكونغو، حيث أقام أيامًا ثم طار إلى الخرطوم عاصمة السودان بحجة تلقي العلاج بعد زيارة نائب الرئيس الجنوبي المعيّن تعبان دينق بيوم واحد. وفيما اعتبر المراقبون هذه الخطوة محاولة من مشار لمحاورة الخرطوم (المحايدة) في الصراع الجنوبي وإقناعها أن تدخلها لصالحه فيه ضمانة لأمنها أكثر من السماح بهذا التواجد المكثف للقوات اليوغندية والنفوذ اليوغندي في جنوب السودان والذي يعلن صراحة أنه داعم لسلفاكير ضد مشار.


مآلات الصراع في جنوب السودان

عودة دولة جنوب السودان للحظة الفرحة الهستيرية بالاستقلال من السودان هو من المستحيلات في عالم السياسة؛ فقد تسببت هذه الحرب في تدمير النسيج الاجتماعي لهذه الدولة ودفعت المكونات الاجتماعية لانخراط في تشكيلات عصبوية ما قبل الدولة، والحرب الأهلية اليوم في الجنوب هي حرب مدمرة فيها كثير من التطهير العرقي من الطرفين ومن العسير انتصار فريق رياك مشار بالقوة المسلحة على سلفاكير؛ كون رياك مشار في النهاية ينتمي للقبيلة الأقل عددًا في دولة الجنوب، و كذلك أيضا على سلفاكير أن ينتصر على سلفاكير فليس هناك رئيس يستطيع أن يحتمل أن تعارضه قطاعات واسعة من شعبه ويحملون السلاح.

هناك قرار غير معلن من المجتمع الدولي هو إضعاف الطرفين مشار وسلفاكير، واستبدالهم بشخصية أكثر توافقية في محاولة لتكرار تجربة فايز السراج في جنوب السودان على أمل أن تأتي شخصية توافقية وينضوي تحت لوائها المعتدلون من أتباع سلفاكير ومشار، وقد طرحت عدة أسماء لتكون تلك الشخصية التوافقية التي تنقذ دولة الجنوب من هذه الحرب المدمرة.


ما الحل لو رفض سلفاكير و مشار الشخصية التوافقية؟

سلفاكير استبق خطوة المجتمع الدولي المتوقعة بتحريض إعلامي كبير ضد التدخل الخارجي وضد دول الإيقاد، و نثر كثيرًا من القول عن السيادة المنتهكة لدولة الجنوب، بينما آثر رياك مشار الصمت الذي هو أشبه بالقبول بهذه الفكرة.

على العموم الحرب الأخيرة في جوبا و نزوح الآلاف من جوبا دمر مستقبل سلفاكير ومشار وأصبحت هناك دعوات شعبية متصاعدة تطالب بتغيرهما؛ لأنها جاءا بالويلات لشعبهم ودفعاه للحرب في سبيل مصالحهما السياسية.

أخيرًا الصراع في دولة جنوب السودان ينطوي على تعقيد كبير يعجز عن تفهمه أخطر المنجمين السياسيين، فهذه الدولة الأحدث في العالم تعيش على رمال متحركة سياسية وانقلاب في التحالفات، ومن يدري؟، فكما تحالف رياك مشار وسلفاكير ضد إحالة جرائم قواتهما لمحكمة الجنايات الدولية أو إحالتها لمحكمة خاصة فربما يتحالفان سريعًا ضد الرغبة الدولية باستبدالهما ولسان حال كل منهما يقول للآخر إنه عدو ما من صداقته بُد.