«العرب وإيران»؛ هذه المقابلة اللغوية لم تعد سوى فرضية تاريخية ينبغي على الكُتاب والنقاد تجاوزها، ليس لأمرٍ في حقيقتها فهي فرضية تاريخية ثابتة، غير أن حاضر العرب قد تجاوزها، وإن كانت وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الإقليمية والدولية تعنون بها كل مناسبة إقليمية تكون إيران إحدى طرفيها.ما يدفعنا لتبني وجهة النظر هذه، والتي ربما تكون صادمةً بعض الشيء، هو حالة التشظي العربي والتجزئة، وما نتج عنهما من غياب للمشروع العربي الموحد. فليس ثمة سياسة خارجية عربية، فقط هناك دويلات لها مصالح إقليمية ضيقة تتحرك في إطارها، وإن تقاربت الأطر وتشابهت فهي في النهاية ليست واحدة، لم تنطلق من قوسٍ واحد ولم ولن تُصيب هدفا مشتركا. ولعل أبرز ما نتج عن ذلك ما نراه من غياب حقيقي لمفهوم العدو والصديق، وما ترتب على ذلك من غياب لمفهوم محدَّد الملامح والأطر لما يمكن أن نسميه الأمن القومي العربي.لكن على أية حال، لا يجوز أن يُستخدم نقد الحالة العربية لغرض تقديم مبررات ومسوغات لدولة بأن تستغل هذا الوضع العربي لإنفاذ مصالحها (عزمي بشارة: العرب وإيران، المركز العربي 2012م).عودًا على بدء، وبعد محاولة لتفكيك المقابلة اللغوية السائدة في الأوساط السياسية والإعلامية «العرب وإيران»، تُرى ما هي الدوافع الفاعلة والأسس التي تقوم عليها سياسة إيران الخارجية تجاه العرب؟.


محددات السياسة الخارجية الإيرانية: كيف ترى إيران ذاتها والآخرين؟

قبيل الخوض في أية مناوشة إقليمية تُعد إيران طرفًا فيها، وطالما أننا في هذا التقرير بصدد التعرض لمسألة الأحواز، هذا الإقليم العربي الواقع تحت سيادة الدولة الإيرانية منذ ما يزيد عن تسعين سنة، علينا أن نحدد أهم المنطلقات التي تتجه منها سياسة إيران الخارجية؛ كأن تكون قوميًا فارسيًا، وشيعيًا سياسيًا، ومعاديا للهيمنة الأمريكية.

أن تكون قوميًا فارسيًا، وشيعيًا سياسيًا، ومعاديا للهمينة الأمريكية، فأنت تمثل إذن المشروع السياسي الإيراني.

ورغم أن الجدل بشأن هذه المحددات الثلاثة لا ينفك ينتهي، فبين من يعتبرها غايات التحرك الإيراني وبين من يعتبرها أدوات بيد الساسة وصنّاع القرار، وعلى أيٍ فمن لا يملك الأدوات محكومٌ عليه حتمًا بالتخلي عن الأهداف والمآرب التي جاء لأجلها.ولأننا لسنا بصدد التغول لأكثر من هذا في السياسة الخارجية الإيرانية لأنها ليست صلب حديثنا، فيكفي أن نسرد بعض الأطروحات الإيرانية الخالصة: 1- كأن تبسط نفوذها الإقليمي على المعابر المائية في الخليج، 2- وأن تحمي الأقليات الشيعية في الوطن العربي والعالم وتستثمرها في ذات الوقت في مشروع إيراني كبير، 3- كأن تفرض نفسها على الساحة الدولية كدولة ثورية قائمة على معاداة الهيمنة حتى وإن رسخت في سبيل ذلك لهيمنتها الخاصة.


الأحواز: الثوب الفارسي بديلا عن جلد العرب المسلوخ

شهد إقليم الأحواز فترات من التجريف المتعمد من قبل السلطات الإيرانية المتعاقبة بدايةً من الدولة البهلوية انتهاءً بالجمهورية الإسلامية الحالية، كان الهدف من ورائها محو كل ما هو عربي على أرض الإقليم، لمسخ الهوية العربية وطمسها وإحلال الروح الفارسية بدلًا عنها. وقد بدأت هذه الإجراءات بتغيير اسم الإقليم من عربستان؛ أي إقليم العرب، لخوزستان. واعتُمدت هذه التسمية منذ عام 1936م إلى اليوم، وتبع هذا التحول تغيير أسماء أغلب مدن الإقليم إلى مسميات ذات أصل فارسي.

القبضة العسكرية، والتجريف الحضاري والثقافي، وعمليات التهجير، أبرز ما خلفه التواجد الإيراني على أرض الإقليم.

وتُعد مظلومية العرب الأحوازيين، أحد أهم المظلوميات المغفولة في واقعنا المعاصر، إذ ضمت الجمهورية الإيرانية إقليم عربستان لإدارتها العسكرية المباشرة واعتبرته الإقليم العاشر ضمن دولتها في عام 1925م، وقضت على كافة المطالبات الأحوازية بحق تقرير المصير وهو ما استدعى تشكل جبهات نضال عربي أحوازي عديدة، سنأتي على ذكرها إجمالًا في قادم السطور.جدير بالذكر، أن الحكومة الإدارية المركزية في طهران اقتطعت من مساحة الإقليم لصالح محافظات إيرانية مجاورة، لذلك دائمًا ما تجد اختلافات في المعلومة الواردة بشأن مساحة الإقليم. ناهيك عن عمليات التهجير المتعمدة لأبناء الإقليم بغرض إعادة رسم الخريطة الديموغرافية للإقليم وتفكيك الكتلة العربية هناك، وإذابتها داخل المجتمعات الإيرانية المتعددة الأعراق.وتبقى القبضة العسكرية الإيرانية على الإقليم هي الأبرز من بين التوجهات المركزية الإيرانية إزاء أبناء الإقليم، إذ أُقيمت الثكنات والحاميات العسكرية على مختلف مساحات الإقليم؛ لمراقبة أبناء الإقليم، والسيطرة على أعمال العنف التي يثيرونها من حين لآخر.


النضال من الداخل

الذين قالوا لا

ارتبطت بداية النضال العربي على أرض الأحواز بلحظة التواجد الإيراني الأولى والتي كانت في 1925م، حيث قاد جنود الشيخ خزعل الكعبي، آخر الحكام العرب الأحواز، ثورةً عُرفت ب«ثورة الغلمان»، والتي اشتعلت شرارتها الأولى في الثاني والعشرين من يوليو/ تموز لعام 1925م، واحتل فيها جنود الشيخ وحرسه الخاص مدينة «المحمرة» اعتراضًا على أسره في سجن طهران، واستطاعوا طرد جنود الجيش الإيراني، إلا أن المدفعية الإيرانية – مدعومة بالقصف البريطاني- تمكنت من القضاء على الثورة وأعادوا المدينة وبقية الإقليم إلى حكم الشاه.

كانت هذه إذن أولى الثورات العربية الأحوازية وكان القضاء عليها إيذانًا بفرض حالة من العسكرة على أرض الإقليم لتدعيم وجود الدولة الإيرانية والحيلولة دون اشتعال ثورات أخرى.لكن هذا بالطبع لم يكبح جماح أبناء الإقليم، واشتعلت الانتفاضة تلو الأخرى بداية من الحركة التي قادها الشيخ «عبدالمحسن الخاقاني» مع نفر من رجاله بعدما فشلت ثورة الغلمان، مرورًا ب «ثورة الحويزة» والتي قضى عليها الجيش الإيراني بمحاصرة مدينة «الحويزة» ومنع وصول المؤن إليها حتى موعد اقتحامها في 1928م. ويذكر أن الشيخ عبدالله الكعبي نجل الشيخ خزعل الكعبي كان قد اتفق مع العشائر العربية في 1944م على القيام بثورة على التواجد الإيراني، لكن لم يُكتب لها النجاح.تعددت الانتفاضات العربية الأحوازية وتتابعت، إلا أن جميعها انتهت بالفشل واستعادة الجيش الإيراني لزمام الأمور، وكانت هذه الانتفاضات في معظمها ترسل نداءات الاستغاثة لمختلف البلدان العربية، إلا أن أحدًا لم يجب.

مؤامرة .. مؤامرة!

http://gty.im/56977751

حتى كان آخر الاضطرابات الأحوازية الكبرى، في عهد الجمهورية الإسلامية وتحديدًا في عام 2005م، على إثر ظهور وثيقة منسوبة لمكتب رئيس الجمهورية الإسلامية في حينها، سيد محمد خاتمي، تفيد باعتزام الحكومة المركزية في طهران تهجير ثلثي العرب الأحواز من الإقليم واستبدالهم بآخرين من الفرس والأتراك، في خلال عشر سنوات، وكذلك تغيير ما تبقى من أسماء المدن والقرى العربية للفارسية. ورغم نفي الحكومة الإيرانية أية صلة بينها وبين الوثيقة المزعومة، إلا أن ذلك لم يمنع قيام انتفاضة أحوازية واجهتها وقضت عليها الحكومة الإيرانية بالقوة، مُدّعيةً تأليب القوات البريطانية والأمريكية المرابطة في البصرة العراقية لعرب الأحواز، لزعزعة استقرارها وإيجاد مبرر للتدخل في الشئون الإيرانية على غرار احتلالهم للعراق 2003م. (مصلح خضر الجبوري: الدور السياسي للأقليات في الشرق الأوسط، الأكاديميون للنشر والتوزيع، طبعة أولى 2014م)


النضج الأحوازي: من الثورة إلى السياسة

ثورة تلو ثورة، وانتفاضة في أعقاب انتفاضة، وقتلى بالمئات يوميًا دون جدوى. هذا ما دفع بظهور أول حزب سياسي أحوازي يتبنى قضايا عرب الأحواز مستندًا في خطابه التأسيسي إلى السلمية كخيار إستراتيجي، يلائم الوضع الإيراني الحالي والأحوازي بشكل خاص. هذا الحزب هو «حزب التضامن الديموقراطي الأحوازي»، والذي اعتبر منذ تأسيسه نضال الشعب الأحوازي جزءا لا يتجزأ من نضال الأعراق والأقليات الإيرانية الأخرى، فتحالف مع تنظيمات سياسية تمثل هذه القوميات أمثال: «الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني»، وحزب «كادحي كردستان إيران»، وحزب «الشعب البلوشي»، و«الحركة الوطني لبلوشستان»، و«المركز الثقافي الأذربيجاني»، و«منظمة الدفاع عن حقوق الشعب التركماني». هذا بالطبع لا ينفي بقاء الأحزاب والتنظيمات الأحوازية الداعية للانفصال التام عن حكومة إيران المركزية، أمثال: الجبهة العربية لتحرير الأحواز، و المنظمة العربية لتحرير الأحواز-ميعاد، وحزب النهضة العربي الأحوازي. كما نشأت بجانب هذه التنظيمات أحزاب ترفض العنف ك «الحزب الوطني العربستاني»، و«التجمع الوطني للأحواز»، وكلاهما قريب من حزب «التضامن الديموقراطي الأحوازي».إجمالًا، يمكننا اليوم تقسيم الأحزاب والحركات الأحوازية إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية، يتبنى الاتجاه الأول أساليب المقاومة العسكرية في مقاومة الدولة الإيرانية بوصفها دولة محتلة، للوصول إلى الاستقلال التام. بينما يتبنى الثاني الاعتدال في مطالبه، متجسدة في حق العرب الأحواز في تقرير مصيرهم والحصول على الحكم الذاتي، والثالث يتعامل مع الدولة الإيرانية كواقع مفروض عليه ويسعى فقط للحفاظ على القومية العربية بين أبناء شعبه العربي دون المطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي.


لماذا تناساها العرب وتشبثت بها إيران؟

التُقطت الصورة في أحد شوارع الأحواز في الثالث من فبراير/شباط الماضي (El Don - Flickr)
التُقطت الصورة في أحد شوارع الأحواز في الثالث من فبراير/شباط الماضي (El Don – Flickr)

إبان الحرب العراقية الإيرانية، تسرب إلى عقل الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين أن ثمة عرب هناك على الحدود بينه وبين إيران، يمكنهم أن يقاتلوا إلى جواره، فقط لأنهم عرب. ونسي الرئيس الراحل أن الدولة العربية في إقليم الأحواز احتفظت باستقلاليتها عن أي دولة عربية أخرى منذ قيام الدولة المشعشعية بها عام 1436م.

تناساهم العرب كونهم من العرب الشيعة، وكونهم لم يكونوا يومًا جزءًا من أي من الدول العربية الحالية.

هذه الرواية بالطبع ليست كافية في إيضاح الأسباب الحقيقية وراء اللا مبالاة العربية تجاه شعب الأحواز، فالسبب الأبرز في تلك اللامبالاة هو كون أهلها مسلمين على المذهب الشيعي الاثنى عشري (مع احتفاظ أقلية صغيرة من عرب الجنوب بالمذهب السني لصلاتهم بالإمارات وعرب الخليج).فهل ونحن نرى حالة التشظي العربي والانقسام الطائفي بين أبناء الأرض الواحدة والبلد الواحد هناك في العراق والبحرين ولبنان وسوريا وغيرها، وتغليب النبرة الطائفية على القومية العروبية، يمكن أن نتساءل مجرد التساؤل عن السبب الذي يمنع الزعماء العرب من الدفاع عن قضية الأحواز العرب الشيعة؟!.الجانب الآخر من القضية يكمن في مدى تمسك إيران بسيطرتها على الإقليم، وهو يبدو منطقيًا في إطار الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية التي فصّلناها في التقرير السابق. علاوةً على أهمية النفط والغاز الطبيعي الأحوازي بالنسبة للاقتصاد الإيراني، فقضية تفريط إيران في إقليم من أرضها دونها الرقاب وليست محلًا للنقاش في نظر الساسة في طهران ابتداء.السؤال الذي يمكن أن نتركه للقارئ في الختام، هل تحتمل المنطقة العربية مزيدًا من التقسيم إذا ما ناقشنا قضية الاستقلال الأحوازي، والتي قد تفتح المجال لقضايا ومظلوميات مماثلة في عدد من بلدان العرب والشرق الأوسط لتطفو على السطح، أم أن الحاجة هي للعمل على إنهاء مظلومية الأحواز بدعم حصولهم على حقوقهم كأقلية عرقية لها حق الاحتفاظ بهويتها وثقافتها، كما لها الحق في الحصول على التنمية المناسبة، لاسيما وأن أراضيها هي الأثرى في إيران، في إطار من المواطنة الشاملة؟.

المراجع
  1. العرب وإيران.. مراجعة في التاريخ والسياسة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، طبعة أولى، بيروت، 2012م
  2. الدور السياسي للأقليات في الشرق الأوسط، مصلح خضر الجبوري، الأكاديميون للنشر والتوزيع، طبعة أولى 2014م