عصر «ملوك الطوائف» أو «الكلاسيكو برشلونة ضد ريال مدريد»، لا بد أنك سمعت عن أحد الأمرين، عن عصر الضعف الذي لحق دولة الأندلس بعد قوتها في عهد المنصور «مُحمد بن أبي عامر» بتشرذمها إلى طوائف مُتناحرة فيما بينها، غافلةً عن عدوها، مشغولةً عن توطيد مجدها، مُستنزفةً في قتال جيرانها؛ مما أسفر عن سقوط دولة الأندلس وتحولها إلى إسبانيا التي نعرفها اليوم.

ولأن للتاريخ دورات فلكية كما زعم نيتشه، فلا تشرق شمسُ حضارةٍ إلا ومع الإشراق وعدٌ بالانهيار، ويبدو أن إسبانيا على بُعد أيام قلائل من انطلاق الشرارة الأولى المُنذرة بدورة انتكاسِ المملكة الإسبانية، وبداية عصر ملوك الطوائف، ولكن بصبغةٍ غربية وحضاريةٍ هذه المرة.

أو عن «الكلاسيكو» الناري أو المصيري بين برشلونة وريال مدريد، وهذه المرة المواجهة نارية بالفعل، وستكون المباراة التي تقام يوم 1 أكتوبر/تشرين الأول مصيريةً ليس للبطولة الأوروبية، بل ستحدد نتيجتها هل سيظل برشلونة ناديًا مُعترفًا به في المسابقات الأوروبية، أم يخرج ويبقى ريال مدريد وحده؟

تلك الشرارة قادمةٌ من الملعب الذي ستقام عليه المُباراة، من إقليم «كتالونيا»، أهم المناطق الاقتصادية بالنسبة للمملكة الإسبانية، وثاني أكبر المناطق الإسبانية من حيث عدد السكان بـ 7.5 مليون نسمة، وسادس أكبر منطقةٍ إسبانية من حيث المساحة بـ 32 ألف كيلو متر، والمُكون من 947 بلدية مُوزعة على 4 مقاطعات أشهرها -بالطبع- «برشلونة».


الكتالان: الإسبان محتلون والإسبانية لغة الاحتلال

كتالونيا، إسبانيا
أعلام إقليم كتالونيا في إحدى المظاهرات المطالبة بالاستقلال عن إسبانيا

جولة صغيرة في شوارع برشلونة تُخبرك عن مدى الفجوة الموجودة بين سكان كتالونيا وباقي إسبانيا،وتُظهر لك عُمق الكره الذي تكنه صدور الكتالان لإسبانيا، فالمنازل والأزقة مملوءة بلافتات تقول: «هذه كتالونيا وليست إسبانيا». كما يصر السكان على عدم التحدث باللغة الإسبانية فيما بينهم، والتحدث بلغتهم الخاصة «الكتالانية». ويؤمن أهل كتالونيا أن الإسبان ليسوا سوى مُحتلين لهم عبر صلح «البرانس» المعقود بين فرنسا وإسبانيا بعد حربٍ امتدت من عام 1635 حتى عام 1659.

وللإقيلم الكتالوني مع الحكومات الإسبانية المتعاقبة عداوات ضاربةٌ في القدم؛ فلم يكد الإقليم الوليد ينتشي بحصوله على حكمه الذاتي لأول مرة في عام 1931، حتى قام «فرانثيسكو فرانكو» بانقلاب عام 1936. أدى ذلك إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، والتي حصدت ما يقارب نصف مليون قتيل على مدار 3 سنوات، وانتهت رغم ذلك بانتصار «فرانكو» المدعوم من هتلر وموسوليني، وتبع انتصاره إلغاءُ الحكم الذاتي للإقليم الكتالونيّ حتى مات عام 1975.

تعرّض الكتالان في تلك الحقبة إلى قمع شامل، فمُنع نشر الكتب التي تتحدث عن «القومية الكتالانية»، وجُرّمت مناقشة تلك القضية علنًا، وحظر النشيد الوطني الكتالوني، ومنع رفع العَلم الخاص بهم. ولكن في عام 1979 مُنح الإقليم حكمه الذاتي مرةً أخرى، وبعد الانقلاب الفاشل عام 1981 مُنح الإقليم حكمه الذاتي للأبد بموافقة «خوان كارلوس» ملك إسبانيا آنذاك على الاعتراف بإسبانيا مكونةً من 17 إقليمًا حصلت جميعها على الحكم الذاتي.


لا مزيد من التضحيات

إذا كان الإقليم حاصلًا على حكم ذاتي بالفعل، فلماذا الرغبة في أن يصير دولةً مستقلة! وإن كانت الرغبة موجودة منذ عشرات السنوات فما النقطة التي طفح بها كيل الكتالان ودعاهم إلى الدعوة لاستفتاء على الاستقلال مطلع أكتوبر/تشرين الأول القادم!

إقليم كتالونيا يُمثل 15% من عدد سكان إسبانيا، و6% من مساحة إسبانيا، ولكن مع ذلك الإقليم يُوفر 20% من إجمالي الناتج المحلي الإسباني. ولهذا حين عصفت رياح الأزمة الاقتصادية بالعالم لم ينجُ منها أحد صحيح، لكن تأثر بها الكتالان بصورة أشد من باقي أقاليم إسبانيا، فعلى الرغم من أن الإقليم يُقدم إلى الحكومة المركزية ما يُقارب 20 مليار يورو سنويًا كضرائب، إلا أن السكان لا يجدون انعكاسًا ملموسًا لهذه المليارات على مستوى معيشتهم، أو المرافق الخدمية كالتعليم والصحة، كما يعاني السكان من تهميش الحكومة المركزية لهم لصالح الإقليم المُحبب للحكومة «مدريد».

هذه الأسباب إلى جانب إحساس السكان الأصيل بأنّهم أمة مستقلة عن باقي إسبانيا دفعت الحكومة الإقليمية الفائزة في انتخابات نوفمبر/تشرين ثاني 2012 والمدعومة بقوة من الحزبين الانفصاليين الرئيسيين، إلى إجراء استفتاء «غير مُلزم» على الاستقلال عام 2014، وصوّت فيه 80 بالمائة بنعم؛ لتصير المواجهات والسجالات بين الحكومتين الإقليمية والمركزية صريحةً وخاليةً من الكلمات الدبلوماسية التي تحمل أكثر من معنى.


«انفصالكم غير دستوري» — شكرًا، سنفعله على أيّ حال!

بدأت الحكومة المركزية بالرد على استفتاء 2014 بأن الدعوة إلى الانفصال أمر غير دستوري، وليس من حق «كتالونيا» المطالبة به. ولكن حين وصلت الأمور إلى حد إعلان الحكومة الكتالونية خطتها المُفصلة لما بعد الاستقلال تغيّرت اللهجة. فمنذ شهر قدمت الحكومة الكتالونية الهيكلة المالية المُتعلقة بجباية الضرائب حال استقلال الإقليم بما يضمن ثباتًا اقتصاديًا للإقليم في مرحلة بعد الانفصال.

وأيضًا وضحت الحكومة مسار العملية، حيث سيقوم البرلمان الكتالوني اليوم أو غدًا بتمرير قانون يسمح لها بالقيام بإجراءات إدارية وسياسية ودولية من أجل الانفصال عن المملكة، وتم وضع قانون خاص للمرحلة الانتقالية، وتجهيز أجهزة للأمن الاجتماعي، وتشكيل هيئات دبلوماسية خاصة. وتبدو الأحزاب الكتالونية راغبةً في الانفصال السريع إلى درجة أنّها لم تضع حدًا أدنى لعدد المُصوتين الذي يمكن من بعده اعتبار التصويت صحيحًا.

عند صدور تلك البيانات انتفض «ماريانو راخوي» -رئيس الحكومة الإسبانية- مُحذرًا أنّه لن يستطيع أي أحد أن يُقوض الوحدة الإسبانية، وأن الانفصال غير الشرعي سيُواجه من قبل الحكومة بتنفيذ القانون بثباتٍ وإصرار. إلا أنّ ذلك لم يغير من الوضع شيئًا، فمع قرارات المحكمة الدستورية المُتتابعة بعدم دستورية وشرعية الاستفتاء أعلن «كارلوس بوتشديمون» –رئيس إقليم كتالونيا- أنّه لا مانع لدى حكومته إذن أن يكون الاستقلال من طرف واحد، وأن الاستفتاء سيتم في موعده بكل الأحوال.


خروج الكتالان: شهادة وفاة المملكة

إذا تم للكتالان ما أرادوا فإن استفتاءهم سيكون الأول ولكنّه لن يكون الأخير؛سيجرّ استفتاءات عديدة مشابهة، بل وأشد عنفًا على الحكومة الإسبانية مثل إقليم «الباسك» الذي أعلن رغبته في الاستقلال عبر خوضه صراعا داميا مع الحكومة المركزية لمدة 3 سنوات خلف ستار حركة «إيتا» الباسكية، التي اغتالت عددًا من الوزراء الإسبان، وقامت بتفجيرات عديدة في صفوف رجال الشرطة، ولم تُعلن الحركة نبذها للعنف إلا في أبريل/نيسان الماضى، إلا أنّها وضحت بما لا يحتمل اللَبس أنها ترغب في الانفصال العام المقبل. ومثلها كذلك جزر الكناري وغيرها. مما يعني أن الحكومة الإسبانية يمكن أن تفقد بين عشية وضحاها ما يوازي 15% من مساحة أراضيها، وهو رقم مرجحٌ بقوة للزيادة إذا صمتت المملكة.

هذا بجانب خسارة المملكة للقوة الاقتصادية الهائلة التي يُمثلها الإقليم الكتالوني؛ ستفقد 20% من ناتجها القومي، بالإضافة إلى خسران 30% من صادراتها التي تعتمد في تصنيعها على مواد خام قادمة من كتالونيا، وفوق كل ذلك يصبح 70% من حركة النقل التجاري الإسباني خاضعًا للسيادة الكتالونية. وكذلك يصير دخل مدينة برشلونة مقصد العديد من السياح للحكومة الإقليمية خالصًا دون مشاركة الحكومة المركزية.


استقلال الكتالان خطرٌ عليهم أيضًا

سيُعاني الإقليم من خسائر شديدة الوقع، خاصةً إذا اتحدت الحكومات الأوروبية مع الحكومة المركزية وهو المُرجح بقوة، ومن تلك الخسائر خروج كتالونيا من منطقة اليورو، مما يعني عدم شمول الإقليم تحت مظلة النظام الائتماني للبنك الأوروبي. وسوف تصير بذلك كتالونيا دولة مطرودةً من رحمة الاتحاد الأوروبي، مُطاردةً بلعنة عقوباته.

كما يُخشى على كتالونيا إذا نالت استقلالها من بعض الأصوات الموجودة بداخلها والتي تُؤمن بضرورة إعادة «كتالونيا العظمى» عبر ضم البليار وفالينسيا، مما يجعل كتالونيا بمثابة الخطر على جيرانها، ومما يعني مزيدًا من الصعوبات في الثقة المُتبادلة بين كتالونيا وجيرانها وما يعقب ذلك من نتائج اقتصادية وسياسية.


القيصر الروسي يمارس هوايته

في الوقت الذي تبدو فيه مقدمات حرب أهلية طاحنة بين الحكومة المركزية والحكومة الكتالونية عبر الصراع على الشارع قُبيل الانتخابات؛ فوزارة الداخلية أرسلت تعزيزاتٍ إلى الإقليم رغم وجود قوات شرطة تابعة لها من أبناء الإقليم؛ حيث تشك في نوايا شرطة أبناء الإقليم في إيقاف الاستفتاء إذا تم،مما يُنذر ببحور من الدم. لكن كل هذا لا يمنع القيصر بوتين من التدخل لترجيح كفة الأحداث إلى الجهة التي يريدها بالوسيلة التي يفضلها، وهو هنا يريد الانفصال ووسيلته المُفضلة الإعلام والوسائل الإلكترونية.

أدعو الجميع إلى دعم حق كتالونيا في تقرير مصيره، إسبانيا لا يمكن السماح لها بتقنين إجراءات قمعية لمنع التصويت
«جوليان أسانج»

إذ وظفت روسيا عديدًا من أبواقها الإلكترونية كـ «روسيا اليوم» الناطقة بالإسبانية، والجيش الإلكتروني من المُتابعين والحسابات المُزيفة والتي تُعيد نشر كل ما تنشره «روسيا اليوم»، مما يعطي تلك الأخبار الكاذبة والمغلوطة مصداقيةً، فما تكرر تقرر.

ومن هذا الجيش مبرمج الكمبيوتر الشهير «جوليان أسانج» الذي يقود هذه الأيام هجمة محمومةً حول انفصال كتالونيا، وذكر موقع «أودينس» وهو منصة متخصصة في تحليل بيانات مواقع التواصل الاجتماعي فإن «أسانج» في سبتمبر/أيلول فقط تمت الإشارة إليه 940 ألف مرة على تويتر، الغالبية العظمى منها كانت وسوم «هاشتاجات» متعلقة باستقلال كتالونيا.


فريق برشلونة: خارج المسابقات الأوروبية للأبد!

ليونيل ميسي، برشلونة، يوفينتوس، دوري أبطال أوروبا، بوفون، أليجري، فالفيردي
النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي.

رغبة جمهور «برشلونة» في استقلال كتالونيا ليست أقل من رغبة السياسيين، فقد رفعت الجماهير ما يُقارب العشرين ألف علم لإقليم كتالونيا في المباراة الأخيرة أمام «باتي بويسوف» البيلاروسي في دوري أبطال أوروبا، وليست هذه المرة الأولى فقد تم تغريم برشلونة 30 ألفا ثم 40 ألف يورو بسبب نفس الفعل في نفس البطولة العام الماضي، مما جعل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (ويفا) يفكر في خصم نقاط في رصيد برشلونة هذه المرة، لكن حين اقتربت الأمور من الحسم، كان لابد من التوصل إلى إجابة للتساؤل حول مصير برشلونة، وقد كان.

«خافيير تيباس» -رئيس الرابطة الإسبانية لكرة القدم-أجاب أن القوانين تمنع مشاركة أي فرق من (دول) أخرى في البطولات المحلية، مما يعني أن فريقيّ برشلونة وإسبانيول لن يُشاركا في «الليجا» أبدًا. أما «ميغيل كاردينال» -وزير الرياضة- كان أشد قسوةً فصرّح أن الانفصال يعني الاستبعاد من الدوري، والذي يعني بدوره أن برشلونة سوف يتأثر بشكل كبيرٍ نظرًا لتعرضه للعديد من المشاكل المادية.

البرسا سيتحول إلى فريق يُخرج لاعبين مميزين لكبار أوروبا، ويصل لدور الـ 16 في دوري الأبطال إذا واصل مسيرته فيها، على غرار أياكس الهولندي وسلتيك الأسكتلندي
ميغيل كاردينال، وزير الرياضة

ويترواح مصير النادي الفعلي بين الخروج من الدوري الإسباني وإنشاء دوري محلي، أو اللعب في دوري آخر أسوةً بـ «موناكو» الذي يلعب في الدوري الفرنسي. وتباينت كذلك ردود الفعل من اللاعبين فـ (بيكيه، سيرجي، وإنيستا) يُرحبون بالاستقلال، بينما ميسي لم يعلن موقفه من الانفصال لكن أعلن أنّه سيفضل حينها الرحيل إلى دوري كبير.

وستحمل الأيام القليلة القادمة الحسم في كل هذه القضايا المُثارة، وستوضح لنا هل تنجو إسبانيا من التفكك ويتوصل طرفا الأزمة إلى حل يرضي الجميع، أم يصيبهم ما أصاب الأكراد؟ وما الأكراد منهم ببعيد، ويكون بوتين قد نجح بانفصال «كتالونيا» في زرع قنبلة موقوتة وسط المملكة الإسبانية، تخدم رغبته في مزيدٍ من التشرذم في العالم ومزيد من الهيمنة الروسية.