في أولمبياد طوكيو 2020، كانت الأنظار مصوبّة ناحية قرعة لعبة الجودو، التي أوقعت اثنين من اللاعبين العرب «فتحي نورين من الجزائر، وتهاني القحطاني من السعودية» في مواجهة اثنين من لاعبي دولة الاحتلال الإسرائيلي.

أعلن «نورين» انسحابه فور علمه بالقرعة. وجدير بالذكر أن تلك هي المرة الثالثة التي ينسحب فيها نورين من مواجهة نفس اللاعب «بوتبول طاهار». وعلى إثر هذا الانسحاب الأخير أُوقف لعشرِ سنوات، قرر معها اعتزال اللعبة.

أما «تهاني»، مدعومة باتحاد بلدها وتجنبًا لأي عقوبات قد تفرضها اللجنة الأولمبية، قررت خوض المنافسة، لتلقى هزيمة مذلة بنتيجة 11/0 وتودع المنافسة من دور الـ32.

رأى الكثيرون أن تهاني كان يجب أن تحذو حذو نورين وتنسحب. رأى آخرون أن تهاني كانت على حق، وأن المقاطعة ليست حلًا، خصوصًا إذا كان الثمن باهظًا مثل الإيقاف الطويل لسنوات، وأن مناسبات أخرى ستكون لنا فيها الغلبة ونحرج لاعبي الاحتلال بانتصارات مؤزَّرة.

يطفو هذا الجدل على السطح مع كل قرعة توقع لاعبًا عربيًا في مواجهة لاعب من دولة الكيان الصهيوني، وينخرط الجميع في إبداء الرأي حول جدوى الانسحاب أو المشاركة.

فما الرأي الصحيح؟ وكيف يمكن أن يصبح الانسحاب والمقاطعة من آثر أعمال المقاومة وأهمها في دعم القضية الفلسطينية وكيف تتحول المشاركة إلى تطبيع علني؟

الرياضة أداة تبييض وتطبيع

لم يعد ينخدع بوهم الفصل بين الرياضة والسياسة إلا السذّج، ولم يعد يروّج له إلا الأغبياء. ودولة الكيان على جرائمها وأياديها الملطخة بالدماء أبعد ما تكون عن السذاجة أو الغباء. فقد فطِنت مبكرًا للدور المهم الذي يمكن أن تلعبه الرياضة كقوة ناعمة تتولى مهمة تنظيف صورتها أمام العالم من دماء الأطفال العالقة بها وتقديم وجه آخر أكثر براءة ومسالمة للعالم.

ذلك الدور تعرض له الكاتب الرياضي الإسرائيلي «يوف دوبنسكي» بشيء من التفصيل في أطروحة بعنوان «استخدام إسرائيل للرياضة للترويج الوطني والدبلوماسية العامة» استجوب فيها عددًا من الممثلين الرسميين وصناع القرار في مجالي الرياضة والسياسات الخارجية لدولة الاحتلال.

تعمد سلطة الاحتلال في مسعاها الرياضي إلى تجنب أي ذكر للصراع القائم بينها وبين الفلسطينيين؛ لأن مجرد الإتيان على ذكر هذا الصراع محفِّز ضدهم ويستدعي للأذهان كل الصور والمشاهد التي يحاولون محوها بالأساس. وفي سبيل ذلك لا مانع من إقحام بعض اللاعبين من عرب الداخل في أنديتهم الكروية طالما أن ذلك سيخدم صورة دولة الحريات التي يحاولون ترويجها.

مسعى آخر حرصت دولة الاحتلال على تبنّيه، وهو استضافة البطولات الرياضية المهمة على أرضها، لكي يسهل الترويج لجانبها من القصة، الذي تظهر فيه إسرائيل كدولة جاذبة للسياح، نظيفة متطورة، لا يقطر من فمها أي دم ولا تقبض يدها على أي أسرى.

وقد توجت تلك المساعي بالفعل باستضافة بطولة اليورو تحت 21 عامًا في 2013 بعدما كان استضافتهم للألعاب اليهودية الأولمبية أو ما يعرف بـ«الألعاب المكابية» هي أقصى استضافة رياضية حصلوا عليها.

لقد تحقق إدراك الكيان الصهيوني لقيمة المحافل الرياضية العالمية، التي تسعى كل دولة فيها لتمثيل نفسها خير تمثيل، أو أي تمثيل –في حالة الكيان المحتل. فغرض المشاركة هنا ليس تحقيق المكسب، ولا مانع إن تحقق كفائدة إضافية، المهم هو الاعتراف والتطبيع.

المهم أن يراهم المشاركون والجمهور كدولة عاديّة من بين عشرات الدول المشاركة، دون وصمها بخرق القوانين الدولية أو انتهاك حقوق الفلسطينيين وأرضهم.

ومن هنا جاءت الدعوات للمقاطعة الرياضية، كخطوة مضادة في ذلك الجانب الناعم من الحرب.

حل ناجع، واسألوا نيلسون مانديلا!

لكن الأذرع الدعائية لدولة الاحتلال لم تأت بما لم تستطعه الأوائل. ففي خمسينيات القرن الماضي كان نظام الفصل العنصري سائدًا في جنوب إفريقيا، وكان متفطّنًا أيضًا للحماية الدولية والتعاطف العام الذي توفره المشاركات الدولية وعضوية الاتحادات الرياضية العالمية لألعابٍ تميزت فيها جنوب أفريقيا مثل الكريكت والرغبي.

وفي عام 1959 اجتمع عدد من مناضلي المنفى، من بينهم المناضل المعروف «نيلسون مانديلا» رئيس الجمهورية لاحقًا، لوضع أسس حركة مناهضة الفصل العنصري. وكان من أول ما فكّرت به استهداف الدجاجة الذهبية ذاتها التي تغطي قبح النظام الاستعماري، في كشف سوأته دوليًا.

دعت الحملة إلى مقاطعة جنوب أفريقيا على المستوى الرياضي الفردي والجماعي، سواء برفض القدوم إلى جنوب أفريقيا واللعب فيها أو برفض استقبالهم ومواجهتهم خارجها. بالطبع لم تنجح تلك الدعاوى بشكل كامل، لكنها ألقت حجرًا ضخمًا في الماء الراكد.

ويرى «روب نيكسون» البروفيسور في جامعة برينستون، أن جدوى حملات المقاطعة تلك وأثرها الحقيقي -الذي انتهى بتحرير جنوب أفريقيا كاملة في نهاية المطاف- مردّه الحالة التي خلقتها حركات المقاطعة عبر وسائل الإعلام وإشراكها لكثير من قطاعات المجتمع الدولي غير المبالية بتلك القضايا أو تلك التي لا تمتلك أي معلومات واضحة عندها.

وليس سرًا أن حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها «BDS» قد تأثرت -رغم الاختلافات الجيوسياسية بين البلدين- بحركة مناهضة الفصل العنصري. فكيف أدارت تلك المعركة؟ وكيف استطاعت حركات المقاطعة الفردية والجماعية أن تبقى شوكة في حلق دولة الاحتلال؟

قاطع، وقاوم، وانتصر

رغم أن حركة المقاطعة «BDS» دُشنت في عام 2005، فإن مظاهر المقاطعة كانت أقدم من ذلك بكثير. ويمكن القول تجاوزًا إن الحركة قد عملت على صهر الجهود الفردية والمواقف الأحادية في إطار واحد يضمن تحقيق أكبر الجهد وتحصيل أوسع التضامن.

كانت مقاطعة وجود الكيان الصهيوني في الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، أول تلك المظاهر وبناء عليه تقرر طرد إسرائيل من عضوية الاتحاد في مؤتمر كوالالمبور عام 1976، أعقب ذلك تكوين عدة حملات وظهور بعض المنظمات المنبثّة في أنحاء العالم مع بداية الألفية الجديدة، وبخاصة في أوروبا، تهّب للتظاهر والدعوة للمقاطعة كلما فكّر الكيان في القدوم واللعب على تلك الأراضي.

لكن الحركة أعلنت عن وجودها الرياضي بقوة في عام 2011، بحملة واسعة أعقبت الإعلان عن منح الكيان الصهيوني تنظيم بطولة اليورو تحت سن 21 عامًا، وانضم لها عدد كبير من لاعبي العالم، وعلى رأسهم المالي فريدريك كانوتيه.

بالطبع لم تنقل البطولة خارج إسرائيل، لكن «مالكوم ماكلين» المؤرخ المختص في شئون الرياضة والمقاطعة، يرى أن تلك الحملة تحديدًا هي من فتحت العيون على جدوى المقاطعة كوسيلة للضغط وإظهار الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني ككيان محتل غاصب.

ثم انفتحت الطريق بعد ذلك في كافة الرياضات الأخرى، وفي أضخم المحافل الأولمبية، لنجد أن لاعبًا مثل «نورين» قد انسحب أمام نفس المنافس في ثلاث مناسبات مختلفة، فهل يستحق الأمر هذا العناء؟

الوسيلة الوحيدة لمعرفة ذلك بإلقاء نظرة على رد الفعل تجاه حملات المقاطعة.

الفَزَع، علامة الجودة

جهلًا بأصول الصراع، يظن البعض أن الانتصار إما أن يكون بالضربة القاضية وإلا فلا. غير مدركين الحقيقة التي توصلت لها الشهيدة شيرين أبو عاقلة من أن المعركة «بدها طول نفس».

ففزع إسرائيل من حملات المقاطعة انتصار، وغضبهم عليها دليل نجاعة، ومحاولات الترهيب والتهديد علامة فاعلية وإثمار.

عام 2015 أعلنت وزيرة العدل الإسرائيلية «آيليت شكد» أن إسرائيل ستقاضي كل النشطاء وراء حملات المقاطعة في الداخل والخارج.

يرى الصحفي الإسرائيلي «ديمي ريدر» أن سعي القيادة الإسرائيلية إلى ملاحقة نشطاء المقاطعة ليس إلا دلالة على نجاعتها. كما أن الفزع والغضب مهما كان قليلًا، فهو خير دليل على أن المقاطعة تؤدي عملها المطلوب.

في مارس من العام الحالي، ترفض إندونيسيا المستضيفة لبطولة العالم تحت 20 عامًا، استضافة الفريق الصهيوني، لتتحول البطولة إلى الأرجنتين ويحقق فيها منتخب الكيان مركزًا متقدمًا.

لكن ذلك النجاح لم يلق أي صدى في الأوساط الرياضية، لدرجة دفعت المحلل السياسي «جاستن أملير» الخبير في الشئون الإسرائيلية، إلى كتابة تقرير طويل في صحيفة «The Jerusalem Post» يشرح فيه الضرر الواقع على الدعاية الإسرائيلية جراء المقاطعة، التي منعت العالم من رؤية هذا الإنجاز الضخم، ناهيك عن الاحتفال به، ويدعو الجميع في النهاية إلى ضرورة التحلي بالروح الرياضية، التي تسمو فوق كل اعتبار، فوق المجازر وجثث الأطفال والتهجير القسري وقنابل الفسفور.

ليس ثمة بطولة أو شرف يمكن أن يدّعيها المرء بإلحاق الهزيمة بممثلي دولة الاحتلال في تلك المساحة بالذات. لأنهم يكسبون معاركهم الرياضية معنا فور إقرارنا بأن نخوضها ضدهم، حتى وإن ألحقنا بهم شرّ هزيمة، لأنهم ينتزعون بذلك إقرارًا منّا أمام العالم بالتطبيع معهم ورؤيتهم كخصم شريفٍ في ميدانٍ شريف، وإنما الشرف كل الشرف في المقاطعة والانسحاب ابتداءً.