من الأسباب الرئيسية لهزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية جاسوس يدعى ريتشارد سورج، وكان أحد الملوك العرب على كشوفات الدفع السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالإضافة إلى عمل رئيسة وزراء سابقة لحكومة إسرائيل المحتلة بالتجسس. ذكريات عديدة انتابتني من قراءاتي السابقة في عالم الجاسوسية بعد مشاهدتي لفيلم سنودن بالأمس، مما جدد شغفي وولعي بهذا العالم ودفعني لكتابة هذا المقال.

تعرف الجاسوسية بأنها علم قائم على العديد من القواعد والأصول التي تختلف من وكالة تجسسية إلى أخرى، ويتم تلقين هذا العلم للجواسيس المراد استخدامهم، كل حسب تخصصه والهدف المنشود منه.

هناك العديد من الجواسيس المصريين المشهورين في الصراع العربي الإسرائيلي: من جانب لدينا أمثلة كأحمد الهوان المشهور باسم جمعة الشوان، ورفعت الجمال المشهور برأفت الهجان الذين تجسسوا لصالح مصر في إسرائيل. على الجانب الآخر نجد علي العطيفي المدلك الشخصي للرئيس الراحل محمد أنور السادات، وعودة ترابين اللذين تجسسا لصالح إسرائيل في مصر.

يقول الفيلسوف الصيني سون تزو في كتابه فن الحرب: «ليس هناك فن أسمى من فن القضاء على مقاومة الخصم من دون اللجوء إلى العنف المسلح». ويقول أيضا: «اتّبع هذه النصائح تسيطر على العدو: ثبِّطْ الشجاعة في بلد الخصم وعطلها، وعَقِّدْ رُسُل القوى الرئيسة بتصاميم إجرامية، واحفر تحت موقع المنافس، ولطّخْ سمعته في جميع المناطق، وعرّضْ حكامه إلى السخرية أمام رعاياهم».

يجب علينا كشباب في مقتبل العمر أن نلم بالطرق المستخدمة في اختراق الأمم وتطويعها وتغيير ثقافتها وطرق تفكيرها وسلب تقدمها العلمي والمعرفي من خلال زيادة معرفتنا بعلم التجسس وتماسك الجبهة الداخلية، والتي تعد من أهم الأسباب في مكافحة التجسس.

قد تصبح نهاية الجاسوس مأساوية وتنتهي بمقتله كما حدث مع ريتشارد سورج الذي روي تاريخه بالتفصيل في كتاب «الرجل ذو الوجوه الثلاث» للألماني هانز أوتومسنر والصادر عام 1966، يروي فيه كيف تحول ريتشارد من مواطن خدم في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى إلى أستاذ في العلوم السياسية، وانتقل بعدها للعمل كصحفي في اليابان خلال فترة الحرب العالمية الثانية وتجنيده لصالح الاتحاد السوفييتي، ليكون فيما بعد سببا لانتصار الحلفاء بالحرب العالمية الثانية على ألمانيا من خلال قيامه بإخطار الاتحاد السوفييتي بعدم نية اليابان توسيع الصراع وفتح الجبهة مع الاتحاد السوفييتي، واكتفاء اليابان بالجبهة الصينية، وتوصياته بنقل مليوني جندي سوفييتي من سيبيريا إلى الحدود الشرقية الألمانية التي يقبع فيها جنود ليسوا من أصول ألمانية تململوا من الحرب وخسائرها المفجعة.

وقد يصل الجاسوس إلى أعلى المناصب رفعة في بلاده حتى بعد ممارسته لأقبح الأعمال وتبجحه بها كما فعلت تسيبي ليفني رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة التي اعترفت في مقابلة مع التايمز بعملها في الموساد الإسرائيلي، وأنها لم تتوان عن استخدام الابتزاز الجنسي مع شخصيات مهمة عربية، وقتل الكثير من النشطاء الفلسطينيين والعلماء العرب في سبيل زيادة سطوة وسلطة الموساد الإسرائيلي على الساحة العربية.


من أهم الاعتبارات في عالم التجسس هي حماية الجاسوس المجند أو المزروع في بيئته الجديدة من خلال إبقاء هويته طي الكتمان، وعدم الإفشاء بشخصيته الحقيقية إلا في أضيق الحدود، ولثقات لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة. من أبرز الشواهد على مر التاريخ أن الصحفي بوب وودورد ذكر في مقال كتبه لصحيفة الواشنطن بوست بتاريخ 18/2/1977 أن المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) دفعت ملايين الدولارات بدفعات سرية إلى أحد أرفع جواسيسها مكانة في الشرق الأوسط، وهو الملك حسين ملك الأردن السابق. وقد بقيت هوية مستر بيف (الاسم الكودي للملك حسين في سجلات الـ CIA) طي الكتمان لدرجة أن الرئيس الأمريكي حينها جيمي كارتر، والرئيس الأمريكي السابق جيرالد فورد، ووزير الخارجية هنري كيسنجر حتى رئيس جهاز الـ CIA جورج بوش الأب لم يكونوا على علم بهويته حتى بدء التحقيقات من قبل الصحفي قبل نشر المقال بأسبوع ومواجهتهم بما وجده.

كانت وسائل التجسس قديما مقتصرة على الحبر السري، سواء كان عضويا: يكشف من خلال تعريض الوسط المكتوب عليها للنار، أو كيميائيا: يكشف باستخدام عامل كيميائي لا يحتفظ به غير قارئ الرسالة، أو مشعا: يكشف باستخدام الأشعة السينية. ويتم إسقاط الرسالة المراد إيصالها -بعد اتخاذ عدة إجراءات يطول شرحها- إلى إحدى النقاط الميتة المتعارف عليها من قبل الشبكة التجسسية ليلتقطها شخص آخر دون أدنى اتصال مباشر بينهما. مرورا باستخدام الأفلام الدقيقة، إلى النقاط الميكروسكوبية والتي يمكن كتابة المعلومات بشكل متناهي الصغر لتظهر كنقطة للعين الخبيرة على طابع بريد في رسالة تقليدية أو كنقطة على عملة ورقية، وصولا إلى استخدام وسائل الراديو والأجهزة اللاسلكية الحديثة نسبيا.

مع تطور التقنيات الحديثة انتقل علم التجسس إلى مرحلة أبعد كثيرا، حيث أصبح هناك طائرات من دون طيار محملة بأحدث وسائل التصوير، ويوجد بعض الأنواع قادرة على حمل أسلحة لتنفيذ ضربات إستراتيجية خاطفة. بالإضافة إلى طائرات الإنذار المبكر الأواكس والتي تعمل بكفاءة تسمو كفاءة أبراج المراقبة الأرضية في المطارات في رصد وتتبع البصمة الحرارية للطائرات. بالتاكيد يجب عدم نسيان الأقمار الصناعية التجسسية والتي تملك العديد من الخواص التي فتحت آفاقا عظيمة في عالم التجسس، من خلال قدرتها العالية على التصوير بجودة تصل إلى 800ˣ800 بكسل من ارتفاعات نصف متر وأقل من ذلك في أقمار صناعية مثل KH-11 حسب شركة لوكهيد المصنعة له، وإمكانية البث المباشر للصور للمساعدة في توجيه العملاء أثناء عملهم.


في الوقت الراهن تعدت أساليب التجسس على كل حدود الخصوصية والسرية المكفولة كحق أساسي لأي شخص على ظهر الكوكب لتصبح جميع محادثاتك وأفعالك الشخصية حتى في وقتك الخاص على مرأى ومسمع من أجهزة المخابرات الأجنبية كالـ CIA ووكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) على سبيل المثال، وتم كشف هذا التعدي للرأي العام الدولي عن طريق إدوارد جوزيف سنودن.

سنودن عمل كمتعهد خاص للـ CIA ثم وكالة الأمن القومي، وكذلك كمستشار أنظمة إلكترونية ومؤخرا عمل ككبير استشاري الـ CIA من خلال متعهد خاص مرتبط بالوكالة قبل هروبه من أمريكا إلى هونج كونج، ومنها إلى موسكو.

قام سنودن بتسريب 1.7 مليون وثيقة سرية وإعطائها إلى الصحفية والمخرجة ومنتجة الأفلام الوثائقية لورا بويترس الألمانية، على إثرها تم الكشف عن العديد من قضايا التجسس التي كانت تدار من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية، كما نشر في صحيفة الجارديان البريطانية وواشنطن بوست الأمريكية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: التجسس على المكالمات الهاتفية لمئات الملايين من المواطنين الأمريكيين، استخدام برنامج التجسس الرقمي بريزم والذي يتيح للـ NSA التجسس بلا حدود على أي جهاز يتصل بالإنترنت دون وجود إذن قضائي مسبق، بالإضافة إلى التجسس على مراكز بحثية ومنشآت صينية، والتجسس على مبنى الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى التجسس على شخصيات سياسية بارزة كالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

أصدرت لجنة المخابرات الأمريكية تقريرا لاذعا بتاريخ 15/9/2016 يتهم إدوارد سنودن بنشر تقارير ألحقت ضررا هائلا بالأمن القومي الأمريكي. تم نشر ملخص مكون من 4 صفحات للتقرير الصادر في 36 صفحة، ادعت فيه لجنة المخابرات أن التقارير المسربة كانت تحتوى أسرارا لحماية القوات الأمريكية في الخارج وبرامج لوزارة الدفاع والمخابرات غاية في السرية وأسرارا في طرق معاملة الإرهابيين وأعداء أمريكا في الخارج.

قام سنودن بالظهور في برنامج على قناة BBC في شهر أكتوبر سنة 2015، وحين قام بيتر تايلور بسؤاله هل أنت خائن؟ كان رده: «بالتأكيد لا ولكن السؤال هو: إذا كنت خائنا فمن الذي خنته؟ أعطيت كل معلوماتي إلى صحفيين أمريكيين والرأي العام الحر».

من سمات الجواسيس، ومن أبرز ما يدرسونه أنه لا يوجد شيء ولا أحد يبدو على ما هو عليه، وإدوارد سنودن هو جاسوس تدرب على يد إحدى كبرى وكالات التجسس العالمية، إن لم يكن تلقى تدريبه في وكالتين مختلفتين! فليس من الصعب عليه خداع المخابرات المركزية الأمريكية وخداعنا.

كما أن هناك العديد من التضاربات في أقواله في لقاءات مختلفة، إذ صرح سنودن بأنه قد سافر إلى روسيا يوم 23/6/2013، وأن الخارجية الأمريكية أبطلت جواز سفره وهو على متن الطائرة ولم يستطع مغادرة روسيا بسبب ذلك، في حين أنه تم التأكيد بمساعدة نائب مؤسس موقع ويكيليكس سارة هاريسون في إجراءات سفره من هونج كونج إلى موسكو ونصيحتها بزيارة السفارة الروسية في هونج كونج قبل سفره إلى روسيا!

ذكر في تقرير لصحيفة وول ستريت أن سنودن تم تهريبه من هونج كونج إلى روسيا عبر شركة طيران مملوكة للحكومة الروسية من غير جواز سفر صالح أو تأشيرة لروسيا. في حين أن أنباء تقديم دعوى جنائية ضده من قبل الحكومة الأمريكية كانت قد تصدرت وسائل الإعلام في هونج كونج في الـ 14 من يونيو. كما أكدت محطة ABC الأمريكية على لسان مسؤول في الخارجية أن سنودن قد تم إيقاف جواز سفره بتاريخ 22/6/2016 . في حين أنه قد صرح بأن المعلومات التي لديه تم تدميرها قبل سفره إلى روسيا، وكل هذا ثبت بطلانه من خلال تصريح النائب الأول للجنة الأمن والدفاع في البرلمان الروسي أن سنودن قد قدم معلومات مهمة للروس.

وفي مقابلة لمحامٍ مقرب لبوتين يدعى أناتولي كوشيرينا، والذي عمل وسيطا بين سنودن والسلطات الروسية، أن سنودن قد كشف للصحافيين في هونغ كونغ عن بعض الوثائق فقط، وعندما سئل عما إذا كان يحتفظ بوثائق أخرى رد كوشيرينا بالقول: «بكل تأكيد».

يقول الكاتب إدوارد جاي إبشتاين، في تقرير لصحيفة وول ستريت: «إن هذا يحل جزءًا من اللغز. فهو يوضح لماذا استمر ظهور مستندات في حوزة سنودن حتى بعد وصوله إلى موسكو، فضلًا عما سربه موقع ويكيليكس من وثائق».

وقد زعم سنودن أنه لم يلتقِ أي مسئول روسي في موسكو. وهذا يجافي نتائج التحقيق الذي أجرته الاستخبارات الأمريكية. فقد أظهر تقرير استخباري أن سنودن قد عقد لقاءات باستمرار مع مسئولين استخباراتيين روس. ويقول إدوارد إن هذا يتماشى مع طرق عمل أجهزة الأمن الروسية، مثلما وصف له ضباط سابقون في استخبارات الاتحاد السوفييتي.

يجب علينا أن نلم بما سبق ونوسع ثروتنا المعرفية في هذه الجزئية الحساسة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بشتى مناحي الحياة في ظل الأوضاع المتردية في الوطن العربي وفي مصر على وجه الخصوص خلال السنوات الماضية. لتقليل أو طمس أثر الإعلام والتسريبات المريبة التي تطل علينا من كل حدب وصوب وتوجه بكل حرفية وفي أوقات مناسبة لتثبيط عزيمة الشعب تارة ولتأهيله النفسي لمصائب جديدة تارة أخرى.