شاهد المتابعون في جميع أنحاء العالم لقطات اقتحام الحشود البشرية الغاضبة للقصر الرئاسي في كولومبو، واستخدامهم مرافق القصر، في مشهد بدا صادمًا للبعض وملهمًا لآخرين، بخاصة وأن ما تشهده سريلانكا يعد صدى لمتغيرات عالمية مستجدة أثرت بدرجات متفاوتة على كل الدول تقريباً، وبدت بصماتها واضحة بشدة في جنوب آسيا.

واستولى المتظاهرون على أموال مكدسة تركها الرئيس جوتابايا راجاباكسا لدى فراره من مقر حكمه، وفق ما أعلنت الشرطة، وتم إيداع هذه الأموال لدى إحدى المحاكم، وكذلك تمت مصادرة الوثائق التي وجدها المحتجون، وتعهد المقتحمون بأن يعتصموا في القصر ولا يغادروه إلا بعد تنحي رئيس الجمهورية رسمياً.

بعد وصوله إلى مطار كولومبو، فوجئ الرئيس برفض الموظفين ختم جواز سفره لتمكينه من المغادرة، لذا هرب بما حمل إلى جزر المالديف مع زوجته واثنين من مرافقيه باستخدام طائرة عسكرية، وأكدت السلطات المالديفية وصوله إلى العاصمة «ماليه»، ونقله لمكان لم يتم الكشف عنه.

وتم تنصيب رئيس الوزراء محل الرئيس المخلوع لكن المحتجين رفضوه أيضاً باعتبار أنه مرتبط بنظام راجابكسا، وكانوا أضرموا النيران في منزله في العاصمة السبت الماضي، واقتحموا مكتبه، الأربعاء، في وجود قوات الجيش والشرطة الذين تخلوا عن حمايته بحسب تقارير إعلامية.

كما سيطر المواطنون الغاضبون على مقر التلفزيون الرسمي «روبافاهيني»، وتمت إذاعة النشيد الوطني ثم توقف الإرسال تماماً.

أسباب الثورة

تتخلص أسباب الثورة في الانهيار الاقتصادي الذي أثر على الحالة المعيشية للسكان. فمنذ انتشار جائحة كوفيد 19 في عام 2020، ترنح الاقتصاد السريلانكي تحت وطأة توقف الطيران الدولي وكساد القطاع السياحي، ونتيجة فساد الإدارة وعدم وجود مشاريع إنتاجية قلت احتياطيات النقد الأجنبي مما صعب استيراد السلع من الخارج.

وتضررت الاحتياجات الأساسية للمواطنين كالغذاء والدواء والوقود، فحتى الزراعة كانت تعتمد على الخارج في توفير الأسمدة وتخبطت الحكومة في إدارة هذا الملف بشدة، فقد قررت العام الماضي استيراد سماد عضوي من بكين ضمن خطة هدفها أن تصبح أول دولة في العالم تعتمد الزراعة العضوية بالكامل وفرضت حظراً على استيراد الأسمدة الكيماوية في أيار/مايو 2021، لكنها تراجعت عن قرارها في تشرين الأول/أكتوبر بعد احتجاجات المزارعين، مما أسهم في رفع أسعار المنتجات الغذائية، كما ثبت أن السماد العضوي المستورد من الصين غير صالح للاستخدام، فتم إلغاء الصفقة ودفعت كولومبو تعويضاً باهظاً بضغط من بكين رغم أزمتها الاقتصادية.

ووجدت الحكومة نفسها مطالبة بسداد أربعة مليارات ونصف المليار هذا العام من الديون الخارجية، بينما تكافح لتوفير الاحتياجات الأساسية بشق الأنفس، حتى إن بعض المواطنين اضطروا إلى الانتظار لمدة 12 ساعة في طوابير تبلغ عدة كيلومترات أمام محطات الوقود، كما أن انقطاع التيار الكهربائي أصبح ظاهرة يومية في حر الصيف الشديد وهو ما لم يتحمله الشعب.

وفي أبريل/نيسان 2022، اندلعت احتجاجات تطالب بتغيير النظام، وأعلنت الحكومة عجزها عن سداد المديونيات، وأجبرت المظاهرات رئيس الوزراء ماهيندا راجاباكسا، شقيق الرئيس، على الاستقالة في مايو/ أيار وعُين رانيل ويكريمسينغه بدلاً منه، وتعهد الأخير بتوفير 3 وجبات يومياً لكل مواطن، وتجنب سيناريو المجاعة المتوقع، وهو ما شكك به المعارضون، وأعلن البنك الدولي رفضه تمويل لسريلانكا مؤكداً أن البلد بحاجة إلى إجراء إصلاحات.

آل راجاباكسا

وصل الرئيس جوتابايا راجاباكسا إلى الحكم بعد نجاحه في انتخابات عام 2019 مدعوماً من تيار اليمين البوذي المتطرف والعسكريين، بينما كان منافسه يحظى بدعم الأقليات، واتسم عهد جوتابايا بالمحسوبية والفساد فقد عين أخاه ماهيندا في منصب رئيس الوزراء، وعين العام الماضي أخاه باسيل وزيراً للمالية، وتمتع عسكريون سابقون بمناصب مهمة رغم اتهامهم بارتكاب جرائم حرب خلال التصدي لتمرد التاميل الهندوس الذي انتهى عام 2009، حينما كان جوتابايا وزيراً للدفاع في حكومة أخيه ماهيندا.

كما صعد نفوذ اليمين البوذي المقرب في ظل حكم آل راجاباكسا، بزعامة الراهب المتعصب ويراثو الذي يقوم مشروعه على تعريف سريلانكا كـ«دولة بوذية سينهالية» ولا يعترف بحقوق أبناء الأديان والأعراق الأخرى، وسايرت الحكومة هذا التيار طمعاً في التغطية على فشلها وفسادها وحشد الأغلبية السنهالية خلفها، وفي سبيل ذلك ارتكبت الأجهزة الأمنية انتهاكات مروعة بحق المسلمين والهندوس، والنشطاء السياسيين والمعارضين.

فخ الديون

تعد الأزمة الحالية نتاج تراكمات من الفساد خلال سنين خلت، فقد اقترضت كولومبو مبالغ طائلة من بكين وبددتها في مشروعات ليس لها فائدة تقريباً، مثل تشييد ميناء هامبانتوتا الضخم من دون وجود حاجة حقيقة إليه، وإقامة مركز للمؤتمرات بتكلفة تزيد على خمسة عشر مليون دولار، ولم يستخدم إلا مرات نادرة، وعن طريق الديون أيضاً تم بناء مطار يحمل اسم عائلة «راجاباكسا»، ثبت عدم جدواه اقتصادياً بعد افتتاحه، والأمثلة كثيرة.

ولا تعد أزمة سريلانكا إلا مثالاً لما يمكن أن يحدث للدول جراء الأزمات الاقتصادية التي نشأت عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، وما أعقبها من أزمات في سوق الطاقة العالمي، وسلاسل توريد الغذاء، وتباطؤ اقتصادات كثير من الدول جراء المواجهة بين الشرق والغرب، لذا تُعد حالة سريلانكا جرس إنذار للعالم.

كما تعد مثالا على خطورة الاعتماد على القروض الصينية، فالإسراف في تلقي القروض جعل الاقتصاد السريلانكي في حالة متردية، وتستغل بكين هذه الحالة للاستيلاء على أصول الدول لسداد الدين المتأخر، على غرار ما حدث في ديسمبر/ كانون الأول 2017، حين أخذت بكين ميناء هامبانتوتا بعقد يتيح لها الانتفاع به لمدة 99 عاماً، بعد عجز كولومبو عن سداد القروض الصينية.

ويتهم المؤرخ الأمريكي، جوردون جي تشانج، بكين بإغراق الدول بالقروض، وزعزعة استقرار الأنظمة الديمقراطية، والهيمنة على الدول عن طريق دعم الحكام الدكتاتوريين في أوقات الأزمات، واستنزاف بلادهم، معتبراً أن سريلانكا لا تعدو أن تكون الحلقة الأولى في سلسلة أزمات عالمية وشيكة.

ومن اللافت هنا أن الغرب أحجم عن دعم سريلانكا لأنها حليفة للصين، كما أحجمت الأخيرة عن دعمها ورفضت إعادة جدولة القروض، واكتفت بعرض منحها قروضاً جديدة بشروط جديدة لتمكينها من سداد المديونيات الحالية لها.