في عام 2014، أخرج الدكتور وائل حلاق كتابه «الدولة المستحيلة – الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي» مناقشاً عناصر البناء التي رست فوقه الدولة الحديثة، ويناقش مدى تناقضها البنيوي مع روح الشريعة. وكما صرح بالكتاب، خرج حلاق برأي مفاده أن مقاربة الشريعة الإسلامية لا بد أن تبدأ من قبل الحقبة الاستعمارية،أي ما قبل القرن التاسع عشر ، وأن الشريعة في السياق الاستعماري قد تم تجريدها من كل فاعلية أو إمكان قد تتيحه للمسلمين غير أن دورها قد أصبح مشوهاً وثانوياً بعد أن هيمنت المؤسسات التكنوقراطية على المهام التي نحتاج الشريعة من أجلها.  ونحن نحاول هنا أن نلتقط طرف الخيط لإسقاط هذه الأطروحة على مبادئ العمارة الإسلامية أيضاً لمناقشة إمكانية تطبيق هذه الاستحالات على إسلامية العمارة في العصر الحالي.

إن انفصال مركزية الشريعة عن الواقع الإسلامي يفضي إلى بقية الانفصالات في المجالات الأخرى الواحدة تلو الأخرى، ويصبح كل مجال موضعاً مستغلاً في ذاته منفصلأً عن أي نشاط إنساني ومغتربًا عنه. تتبدى عملية الانفصال في مجال العمران في تجاهل الدين والقيم والغايات والمطلقات بحيث يتم الحكم على العمارة بمقاييس الاقتصاد والرفاه أكثر من كونها تحقق أهدافها الإنسانية.

إن أسئلة وتحديات الفكر العمراني الإسلامي لا تنفك عن أزمة الفكر السياسي والأخلاقي وما يلحقه من تحديات التطبيق في الواقع؛ لذلك اهتم كثير من المفكرين الإسلاميين بنظريات العمارة  كالدكتور عبدالوهاب المسيري والرئيس علي عزت بيجوفيتش والمؤرخ هشام جعيط و المؤرخ محمد صالح العلي وغيرهم. لذا فنظريات العمران الإسلامية عانت أيضًا مما لحق بالفكر الإسلامي من رواسب الحداثة والتطورات المعقدة بين نظريات الاقتصاد والاجتماع والفلسفات ،وتم تسليم قيادة المرحلة للفكر المنتصر مؤسساتيًا وعمليًا، أي الفكر الغربي.

إن العمارة إحدى أهم الوثائق التي يمكننا من خلالها استنباط التاريخ الاجتماعي والسياسي للحضارات. إنها مرآة للمشكلات والقيم التي تعاملت معها الأفكار في هذة الحقبة التاريخية، لذا فالفكر العمراني يعد من أعقد الجدليات بين المقولات النظرية التي يمكن التعبير من خلالها عن حاجات المجتمع التي تقع بين إرضاء حاجته التكنولوجية والرفاهية والجمالية من جانب، وإخضاغ المجتمع إلى معايير القيمة والعدالة الاجتماعية والمسؤولية الأخلاقية من جانب آخر.

محاولتنا لعرض هذة النماذج  التفسيرية ستكون مبتورة  إذا عرضناها منفصلة عن السياق والتحديات التي تواجهها هذة النماذج. لذا، فضلنا أن يكون البحث موازيًا لسردية تاريخية من مرحلة تحول المدينة الإسلامية التقليدية إلى مرحلة المدينة الليبرالية الحديثة التي نعيش فيها الآن. وهو المحتوى الأساسي في هذا النص.

من ثمّ، سنعرض في أجزاء أخرى أكثر من نموذج تحليلي لبنية العمارة الإسلامية مع استخدام منهجية د. وائل حلاق في نقدهم. وفي الختام، نلحق الدراسة  في أجزاء لاحقة – إن شاء الله- بنموذجين من المشاريع المعمارية التي تؤسس لمنحى جديد من مناحي العمارة الإسلامية في ظل الحداثة، وهما المشروع التأسيسي لحسن فتحي بالجرنة، ومشروع «الحوض المرصود» لـ د.عبد الحليم إبراهيم.

المدينة الإسلامية – أهي سحابة بلا شكل؟

كتب كثير من الكتاب الأوروبيين الذين سافروا للشرق الأوسط، في منتصف وأواخر القرن التاسع عشر، عن تجربتهم الأولى في الشرق. تظهر في تلك الكتابات حالة من الاستغراب من تعقد الألوان والتفاصيل المجتمعية التي تجعل المشهد عصيًا على الوصف والتشكل في صورة متماسكة غير كونها (فوضي).

كتب جوستاف فلوبير في رسالة أرسلها من القاهرة سنة 1850م:

ها نحن الآن في مصر، فما الذي يمكنني أن أقوله عنها؟ وما الذي يمكنني أن أكتبه لك؟ فحتى الآن، لم أكد أتجاوز الانبهارة الأولى. وكل تفصيل يبرز لك لكي يمسك بك ويبرحك، وكلما زاد تركيزك عليه قل استيعابك للكل، ثم شيئًا فشيئًا يصبح كل ذلك متناغمًا وتتكامل الأجزاء من تلقاء نفسها. أما في الأيام الأولى، فيشهد  الرب على أنها فوضى من الألوان المحيرة…

إن هذا المثال البسيط ليس البداية؛ فمحاولات الأوروبيين لفهم طبيعة العمران في الشرق الأوسط بدأت مع الحملة الفرنسية لاستعمار مصر بقيادة نابليون. أخرجت الحكومة الفرنسية فيما بعد كتاب «وصف مصر» في اثنين وعشرين مجلدًا بين عامي 1809-1822.

لم تقتصر عمليات تمثيل الشرق من قبل الأوروبيين على مصر وحدها، بل امتدت لكل الدول التي استهدفوا استعمارها ووضعها في شكل متحفي، كما حدث في «المعرض» في فرنسا عام 1931 الذي حوى صورًا ورسومات وروايات كثيرة عن أحياء الشرق القديمة في الجزائر والمغرب ومصر وعديد من المستعمرات الأفريقية الأخرى.

«المعرض» بفرنسا كان وجهة كثير من الفنانين والمعماريين من كل أنحاء العالم، يروي فضل الأمة الفرنسية على هذا العالم البدائي الذي وجدوه في أدغال الشرق. كانت هذه الادعاءات التحديثية هي بالضبط ما تبناه دعاة التحديث في العالم الإسلامي. إن هذه السلطات الشمولية كانت تعتمد على محاكاة النظام الغربي بشكل أساسي. كانت عملية المحاكاة تسعى بالأساس إلى اللحاق بالتطور والنظام الذي وصل إليه الغرب عن طريق إعادة ابتكار ماكينة الحداثة التي تسنسخ كل شيء.

من سليم الثالث [1789 – 1807] إلى محمد علي [1804 – 1849] والخديو إسماعيل [1864 – 1879]، تناوبت هذه المبادرة على المجتمع الإسلامي حتى وصل إلى ختام المشروع التحديثي في مرحلتين نهائيتين: الأولى، هي بناء مركز إداري وعسكري في مواجهة النظام الاجتماعي القائم، والثانية، هي إنشاء مراكز قوى سياسية جديدة كالهيئات الإدارية والجامعات وأنظمة قانونية وتشريعية تدعم وتؤسس لهذه المركزية الإدارية سواء كان لهذه الأنظمة التشريعية أصل أو لم يكن.

القرن التاسع عشر بأكمه كان يعتمد على تناول الدواء من الخارج. كان بنيان التحديث السياسي للمؤسسات الحكومية في الإمبراطورية العثمانية يتم تلبية لرغبة السلطان أو الحاكم لتمديد وتنشيط قوته العسكرية لمواجهة التحديات الداخلية أولاً تم التحديات الخارجية. كل هذا كان على حساب الجماعات الطرفية الوسيطة التي كانت تقوم بمهام اجتماعية ووظيفية. إن هذه التحولات السياسية أثرت على هيكلة الإدارة التقليدية التي سادت في تاريخ المجتمعات الإسلامية كافة، وتحولت إلى إدارة مركزية تستأثر بالوظائف والمهام على حساب هذه الجماعات الوسيطة الطرفية الفاعلة والنشطة على أرض الواقع كالحرفيين والمشايخ.

شهدت الدولة الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر المرحلة الأخيرة من مراحل اعتماد  السياسة  الحديثة ففي العالم الإسلامي لم يكن الأثر يتعلق بالانفصال عن نظام سياسي مضى وابتكار نظام جديد فقط،بل بتحديد الذات بالنسبة لقدرة سياسية غربية اعتبرت متفوقة، لم تكن معادلة موضوعة للتجديد بل كانت معادلة التكيف مع الأمر الواقع الذي فرضة الاستعمار الأوروبي من جهة أو عمليات التحديث الداخلية من جهة أخرى.[1]

حلم المدينة الفاضلة ومبررات التغريب

في مصر، تحديدًا في شتاء 1867، أتيحت لعلي مبارك الفرصة للسفر إلى باريس كي يزور «المعرض العالمي». وقد قضى بضعة أسابيع يدرس النظم الباريسية الجديدة في مجال التعليم والصرف الصحي وتفحص المباني والأنفاق الضخمة التي أقيمت تحت باريس، مدينة جورج هوسمان الجديدة.

عُيّن مبارك بعد عودته ناظرًا للمعارف والأشغال العمومية. وعلى مدار العقد التالي، كان هو الذي يخطط القاهرة الحديثة بيد، ويؤسس نظام التعليم الحديث بيد أخرى. إن تخطيط الشوارع في القاهرة وإنشاء نظام التعليم لم يلتقيا عن طريق الصدفة بالمناسبة؛ فالعلاقة بين تنظيم حركة المرور وتنسيقها وبين إنشاء مسارات للتعليم كلها تقع كتكليف على عاتق المصمم الذي يكوّن نموذجًا عقلانيًا مثاليًا للمنتج النهائي قبل أن يشتبك مع تعقيدات الواقع في الحالتين.

كانت الشوارع والمدارس تُبنى بوصفها عملًا بطوليًا وإنجازًا لنظام ثقافي وترتيب اجتماعي جديد، وكان ينظر لها على أنها حاجة أساسية تحتاجها البلاد. من داخل قصر في درب الجماميز بقلب القاهرة، بدأ علي مبارك إنشاء أول مؤسسة سلطوية تتدخل في تشكيل المجال العام في مصر. افتتح  في القصر مدرسة للإدارة وللغات ومدرسة للمساحة والمحاسبات، وأنشأ ديوان الأشغال العمومية (المقاولات) وديوان الأوقاف (الذي سيكون سببًا في سيطرة الحكومة على الأوقاف فيما بعد).

تلى ذلك أعظم فترة للبناء والهدم في القاهرة بتعبير جانيت أبو لغد[2] منذ القاهرة المملوكية في القرن الرابع عشر، حيث جرى مد بنية تحتية على طول المدينة القائمة والتعاقد مع الفرنسيين لإنشاء السكة الحديدية مع إتاحة قطع للأرض لكل من يريد إنشاء مبنى ذي واجهة أوروبية. كان هذا العمل يتطلب تسوية للأرض حول المدينة و فتح طرق رئيسية وشرايين مواصلات جديدة، وإنشاء ميادين ومناطق مفتوحة وزرع للأشجار وتمهيد الطرق وبناء المصارف.

هذا التنظيم المكاني تطلب إزالة التجمعات العشوائية البشرية حول هذة المشروعات العملاقة لأن الشوارع الجديدة يجب أن تطل عليها مبانٍ نظيفة! احتاج هذا العمل في شارع محمد علي مثلًا بطول كيلومترين هدم كل ما يعترضه، نحو أربعمائة بيت كبير وثلاثمائة بيت صغير وعدد كبير من المساجد والمطاحن والحمامات، وقد هدمت كلها وأزيلت أنصافها وتركت كبيوت دون حائط خارجي أحيانًا. كان المنظر كما يصفه وليم مانويل، «كمدينة تعرضت للقصف، مؤخراً، حيث بيوت في كل مراحل الهدم وإن كانت لا تزال مأهولة بالسكان، تكشف عن أغرب مشاعد الغرف الداخلية المنزلية وتتجهم في وجهك»[3].

لقد ورثت النخبة القومية الحاكمة للدول المسلمة هياكل القوى التي خلفها الاستعمار بل ورسخوها وحافظوا عليها. كقاعدة عامة، فإن معظم القوى الحاكمة للدول بعد استقلالها مارست نفس ممارسات المستعمر كي تعزز كيانها الافتراضي الجديد وهياكل القوى المركزية التي لم تكن التكوينات الاجتماعية القائمة مهيأة لها على النحو المناسب. وحيث إن النظام الذي أتى به المستعمر نظام مبني على أصل جغرافي وقانوني ومعرفي مختلف عن الطبيعة الإسلامية من حيث البنى وفلسفة المنهج، فإن تجربة التحديث الذي قام به الحكام أبعدت الشريعة عن مركز الحكم بشكل نهائي، وعن قيادة الحياة الاجتماعية والعمرانية إلى أبعد مدى[4].

الفهم، الاستيلاء، التحديث

إن هذا الاضطراب الذي استمر وتضخم في العهود اللاحقة يحول المجال الحضري الذي يتعامل معه المجتمع إلى مسألة سياسية. فقد أصبح المجال العام مساحة للصراع وأصبح مادة يتعين فهمها وتنظيمها وضبطها، وتبعه أيضًا أن المجتمع نفسه أصبح بهذه الحال؛ مجرد مكونات مادية تملأ هذا المجال، وهي بكل تأكيد بحاجة إلى ضبط وتدريب أيضًا. وهكذا، فإن المكان والعقول والأجسام اكتسبت في لحظة واحدة طبيعة مادية في اقتصاد مشترك للنظام والانضباط.

شمل هذا الاضطراب بشكل أساسي تغيير نظام الملكية الخاصة للأرض والإنتاج، حيت تحولت الأراضي إلى أداة استثمارية ترعاها الدولة المركزية. وقد تمثلت إحدى الخطوات الأولى في عقد مجلس الشورى سنة 1866 في عهد الخديوي إسماعيل، والذي اختير أعضاؤه من كبار ملاك الأراضي وموظفي المديريات في البلاد، وكان المراد من المجلس المساعدة على مد السلطة السياسية على السكان الريفيين بالموافقة على فرض مستويات ضريبية  باهظة، وزيادة فعالية جباية الضرائب والتجنيد العسكري الإجباري وإجراء تعداد سكاني (يشمل كل كفر ونجع وقرية في مصر). هذه الإجراءات تبعها بالتوازي سيطرة تدريجية على أراضي الأوقاف في مجمل أنحاء مصر لعمل مشروعات التمدين والحضرنة الواسعة التي ستخرج مصر من مستنقع التخلف و تلحق بالعالم المتحضر الذي سبقنا[5].

كان على المدينة الحديثة أن تكون معبرة عن صورة النظام الذي تحتويه. كل مكون في المدينة يمثل شيئاً أبعد من مجرد البناء. إنه تأسيس لهيكل التحكم والتشغيل؛ فهنا إدارة الأشغال العامة، وهناك إدارة الطرق وغيرها، بحيث يكون كل النظام معدًا مسبقًا بشكل عقلاني وميكانيكي.

هذا النموذج الذي عبّر عنه «المعرض»، بُني ليعبّر عن التطور والنمو ويكوّن هوية ذاتية حديثة ويدفن على جوانبها المدينة القديمة التي تقبع خلف هذه الأسوار. كانت هذه الأفعال الاستعمارية تجري في نفس فترة إنشاء عواصم استعمارية فرنسية أخرى في شمال أفريقيا، مما رسخ بشكل أسهل الانقطاع الثقافي والتاريخي عن الموروث الحضاري الإسلامي ومركزة الغرب كمركز للنظام والعقل والسلطة. الهوية الجديدة كان وقودها هو الإبقاء على الهويات المختلفة لمن هم خارجها، والتترس بأهمية النظام والهيكل الصارم للإدارة كي يستطيعوا مقاومة التهديد الخارجي الذي رسمته السلطة كتهديد أبدي في مخيلة المجتمع.

المدينة والمقاومة

من أهم أسباب هوس السلطة الاستعمارية بإعادة تخطيط المدن، الرغبة في السيطرة على حركات المقاومة والمظاهرات الشعبية وفرض السيطرة على المجال العام. في الجزائر 1920م، استعان المستعمر بالمخطط العمراني الشهير هوسمان لإعادة تخطيط الجزائر كي يسهل عليه السيطرة عليها ،هاوسمان كان أحد أبناء قيادات الجيش الفرنسي وكان يعمل لخدمة الجيش هو أيضاً وكان يشارك بنفسه في الحملات الاستعمارية الفرنسية ،كان هوسمان قام بهذه الخدمة من ذي قبل في فرنسا نفسها عام 1865م بعد الثورة الفرنسية على الملك فيليب. بعد تولي نابليون للحكم استدعى هاوسمان لإعادة تخطيط باريس،كثيراً من النظريات العمرانية الحديثة تدعي أن هذا التخطيط كان سبباً لسهولة السيطرة على المجال العمراني العام في باريس قام العمراني الفرنسي لو كوربوزييه بعمل مشابه مع حي القصبة بالجزائر. ذكرت البروفيسور زينب سيليك[6]، أستاذة العمارة بجامع نيوجيرسي، أن المارشال ليوتي قد استعان بالمعماري لوكوربوزييه كي يعيد تخطيط منطقة القصبة القديمة بالجزائر حيث وجد أن السيطرة عليها كانت من الصعوبة بمكان نظراً لكثرة الجيوب الاجتماعية التي يحتضنها نسيج المدينة. كانت الحركات الصوفية المقاومة تتخذ من الزوايا والخلوات الخاصة بها مركزًا لقيادة المقاومة، وفي نفس الوقت حاضنة تربوية إيمانية نشأ فيها كثير من العلماء كعبد القادر الجيلاني والإمام المجدد عبد الكريم الخطابي. تذكر زينب أن الاستراتيجية كانت هي إعادة تصور المدينة بشكل أكثر عقلانية يسهّل تصورها وإعادة تمثيلها والسيطرة عليها فيما بعد.

إن التغير الاستراتيجي في شكل السلطة انسحب على الإدارات المحلية التي تتعامل مع المدن في العالم العربي كله. في حالة ميدان التحرير في القاهرة، قامت السلطة بإعادة تخطيط الميدان وعمل جراج وبوابات لكل مداخل الميدان يمكن إغلاقها كلما أرادت السلطة. نفس الظاهرة حدثت في البحرين بعد مظاهرات 2011، بأن فجرت السلطات ميدان اللؤلؤة  كي لا يتحول إلى «مزار في المستقبل». في فلسطين، تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي باستراتيجيات عديدة للسيطرة على أمنها الداخلي وحصار الفلسطينيين في مساحات حركة محددة.

مدينة الدولة العربية الحديثة

في إطار العولمة، تبنت كثير من الأنظمة العربية النموذج الليبرالي الجديد. أدى ذلك إلى تغير في كل السياسات العمرانية تجاه الريف في الدول الزراعية، وتبع ذلك وعود ضخمة بجني ثمار التنمية ووضع قوانين واستراتيجيات استثمار وسياسات صناعية مرتبطة بصورة عالمية متخيّلة امتدت في أطراف البينة التحتية القديمة، وانتهت إلى إنشاء مدن جديدة تابعة في الصحراء.

وكأي فعل غير مدروس، كانت عواقب ذلك أن تضاعفت فجأة نسبة الهجرات السكانية لسكان الريف إلى أماكن إنشاء هذه المستوطنات سواء في المدن داخليًا في بلادهم، أو إلى دول البترول بشكل عام. كانت هذه الهجرات سببًا رئيسيًا لتكوين المستوطنات غير الرسمية، أو ما يسمونه «العشوائيات»[7].

إن العولة التي حدثت في العالم العربي أحدثت فصلاً بين أنماط الإنتاج وأنماط الاستهلاك حيث يعتمد النظام الليبرالي على تكوين سلوك استهلاكي يحتاج أن يكون مفصولاً تماماً عن عملية التصنيع والتوصيل، لدرجة أنه يوجد أمن مخصص يمنع دخول أصحاب الهيئة الرثة أو الملابس الشعبية التقليدية إلى المجمعات السكنية الفارهة.

هنا كان على الدولة أن تؤمّن أماكن لبيع المنتجات في أسواق مغلقة مؤمنة، ومن هنا بدأت ثقافة الأسواق التجارية أو المولات التي انتشرت في العالم العربي كله بدرجات مختلفة. في مصر، كانت عملية الخصخصة الحصرية لنموذج الليبرالية الجديدة أحد عوامل إعادة تعريف المجال العام ليصبح مقترنًا فقط بفرص جلب المال[8].

هذه التعريفات يتم بموجبها إخلاء أحياء بأكملها من سكانها من أجل مستثمر جديد – كما حدث شهر يوليو 2017 في جزيرة الوراق بالجيزة أو سكان مثلث ماسبيرو بالقاهرة على مدى السنوات الخمس السابقة؛ أو تجري إعادة ترميم منطقة تاريخية بطريقة غير إنسانية كي يُضخّ فيها كم كبير من السائحين من مختلف أنحاء العالم لاختلاق نموذج جديد من «ألف ليلة وليلة» للقاهرة الإسلامية، وهو ما حدث في القاهرة الفاطمية ومنطقة ميدان القلعة وعدد كبير من المناطق المزمع هدمها خلال العامل الحالي كما صرحت محافظة القاهرة خلال الأسابيع الماضية.

إن أحياء القاهرة على سبيل المثال أصبحت بالنسبة للحكومة فرصة للاستثمار، لا فرصة للسكن. يوميًا، تُشيّد مزيد من الأسوار العازلة حول منطقة القاهرة الكبرى بالمعنى الحرفي أو المجازي كي تتحول إلى مركز إقليمي للمراكز التجارية المفتوحة. كذلك يتم تسهيل الحصول على الأراضي بالقروض المدعومة من الدولة للمطوّرين العمرانيين لبناء المجمّعات ذات الأسوار المغلقة والمنعزلة عن غوغاء المدينة القديمة. أحد  الحلول التي تبنتها الدولة لحد مشاكل المدينة هو إنشاء عاصمة إدارية جديدة.

المراجع
  1. بادي، برتران، الدولتان: الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام – القاهرة: مدارات للنشر و التوزيع، 2016.
  2. أبو لغد، جانيت، المدينة الإسلامية: الميثولوجيا التاريخية، الأصل الإسلامي والمعنى المعاصر.
  3. McNeill, William H, Plagues and people [Book]. – New York  : Doubleday, 1976. – 266-78.
  4. حلاق، وائل، الدولة المستحيلة – بيروت: المركز العربي للأبحاث و النشر، 2014.
  5. ميتشيل، تيموثي، استعمار مصر – القاهرة : مدارات للنشر و الأبحاث، 2012 (Vol. 1).
  6. Celik Zeynep Le Corbusier, Orientalism, [Book]. – the New Jersey Institute : University of California Press,, 1992.
  7. ديفيز، مايك، كوكب العشوائيات – القاهرة : المركز القومي للترجمة, 2004.
  8. دايان سينجيرمان وبول عمار: القاهرة مدينة عالمية – القاهرة  : المركز القومي للترجمة , 2017.