أحد اقترابات فهم النظم السياسية هي العلاقة بين الدولة ومجتمعها؛ أي هل الدولة تعبر عن مجتمعها بتنوعه وتعدده واتجاهاته السياسية وحركاته الاجتماعية، أم أنها لا تعبر عنه ومن ثم فإن المجتمع يشعر بالقلق ويحاول أن يسترد ما حاولت الدولة السطو عليه مما كان يعتبره مجالًا له؟ وقد ناقش أزمة الدولة المصرية في وقت مبكر نزيه نصيف الأيوبي في كتابه «الدولة المركزية في مصر»، الصادر عام 1989، وقد توقع احتمالات قيام المجتمع بثورة في مواجهة الدولة في آخر أسطر كتابه، حيث قال:

إذا كان استمرار الأمور على ما هي عليه أمرًا محتملًا، فإن إمكانية تغير الأمور بصورة سريعة وعميقة لا يصح أن تقع منا موقع المفاجأة.

واجهت الدولة في مصر في مراحلها المختلفة اهتزاز علاقتها العقدية بقوة بينها وبين مواطنيها، حيث كانت الدولة تؤمم السياسة والمجتمع من خلال سطوتها على قوى المجتمع ومؤسساته مقابل تلبية الطلبات الحياتية والاقتصادية للناس فيما يتعلق بمسئولية الدولة الاقتصادية والاجتماعية تجاه مواطنيها. فمشكلة البطالة لم تكن قائمة ومشكلة ضبط الأسعار والتضخم جارية، ومشكلة الصحة والتعليم تحت الضبط والسيطرة حيث تُقدم خدمات معقولة للمواطنين وبلا مقابل، بيد أن تلك العلاقة العقدية القائمة على ترك السياسة للمتغلبين من الجيش في مقابل حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين تزعزعت مع السادات ومبارك بشكل كبير خاصة فيما يتصل بسياساتها النيوليبرالية القائمة على الانحياز للأغنياء على حساب الفقراء، وتكونت رأسمالية للمحاسيب على حساب تهميش قطاعات واسعة من المجتمع وإفقارها وفقدان الشباب لأمل التمكين في مجتمعاتهم مع سطوة أوليجاركية حديدية على الدولة، بل وحتى تحويل الدولة ذاتها إلى مجرد أداة لبناء شرعية لصالح جماعات مرتبطة بالسلطة على حساب شرعية الدولة ذاتها.

ورغم ذهاب نزيه نصيف الأيوبي إلى أن الدولة في مصر قد جرى اختراقها على مستوى التبعية للقوى الخارجية، وعلى مستوى تراجع دورها القومي وجمعها بين أسوأ ما في الاشتراكية والرأسمالية معًا، بيد أن الأشواق إلى دولة تعبر عن الاستقلال الوطني قوية لدى المصريين.

وهو يرى أن في مصر اتجاهين في الموقف من الدولة: الأول يرى تراجعها لحساب المجتمع من خلال التحول الديموقراطي، والثاني يرى تقويتها عبر إصلاحها من الداخل، بيد أن الاتجاهين معًا مع طول عهد مبارك حتى بلغ ثلاثين عامًا في الحكم أرهق الدولة وهز صورتها لأنها أصبحت أداة قمع للمجتمع ولكل الأصوات المعارضة وضاق تعبيرها لتصبح «دولة مشخصنة» – كما عبر طارق البشري؛ أي أنها والحاكم الذي يحكمها على مقاس واحد، فهي تعبير عن مفهوم «الدولة أنا وأنا الدولة»، كما عبر لويس الرابع عشر.

ظهرت حركات احتجاج جديدة ضد النظم المستبدة في مصر منذ عام 2004، اتخذت أولًا: شكلًا سياسيًا رفع مطلب «لا للتمديد لا للتوريث»، ثم ثانيًا: شكلًا اقتصاديًا مطلبيًا متصلًا بالأجور وتحسين ظروف العمل، وعبر عنها عمال الغزل والنسيج كما عبر عنها احتجاجات الطبقة الوسطى من أساتذة الجامعات والمحامين والصحفيين، وفي المرحلة الثالثة تجادلت المطالب السياسية مع الاقتصادية وظهر جيل جديد من الشباب يستخدم الإنترنت والفضاء الاجتماعي للتعبير عن مطالبه الاقتصادية والسياسية في 6 إبريل/ نيسان عام 2008.

إن تجربة الجيل الثوري الأول للشباب العربي وللشعوب العربية كانت هي الفاتحة التي وضعت الأسس للتعبير عن الأشواق لدولة تحترم مواطنيها وتمنحهم الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي.

ثورة 25 يناير في مصر سبقتها ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول في تونس بعد الاحتجاجات التي انتقلت من الأطراف الفقيرة إلى المركز في العاصمة التونسية بسبب حرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه احتجاجًا على إهانته وبطالته، وقبل أن ينصرم شهر على الاحتجاجات هرب بن علي إلى السعودية لتنتقل البلاد إلى تحول ديموقراطي يسير بخطى وئيدة لكنه ماضٍ نحو استعادة مفهوم الدولة لتكون تعبيرًا عن مجتمعها.

استطاعت ثورة يناير أن تسقط نظام مبارك وأن تواجه جهاز القمع الداخلي وأن تفتح الباب لتحول ديموقراطي ممكن، بيد أن القوى الإقليمية الخائفة من الثورة وقوى الدولة العميقة المستفيدة من العودة للوراء حالت دون استمرار التحول الديموقراطي، لا ريب أن تعجل الإسلاميين واستدراجهم إلى مناطق كانت محرمة عليهم من قبل كقلب الدولة الصلب وهو رئاسة الجمهورية أخاف القوى غير الإسلامية بالمعنى الواسع بما في ذلك غير المسلمين، وجرى استخدام الإسلاميين كفزاعة وكبش فداء لتبرير استعادة الدولة ممن لا يحسن إدارتها ويحافظ على بقائها.

هناك تراكم لخبرات الأجيال العربية في محاولتها لبناء دولة تعبر عن مجتمعها، تحتكر العنف المشروع وفق القانون، وعلى أسس التوازن في السلطات واحترام القانون والدستور. حتى الآن لا بد من القول إن تجربة الجيل الثوري الأول للشباب العربي وللشعوب العربية كانت هي الفاتحة التي وضعت الأسس للتعبير عن الأشواق لدولة تحترم مواطنيها وتمنحهم الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي.

الجيل الجديد أو الموجة الجديدة من ثورات الشباب العربي والتي عبر عنها تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير في السودان منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، استلهمت هتافات الموجة الأولى من ثورة الشعب العربي في مصر وتونس وهتفوا: «الشعب يريد إسقاط النظام». وظل الشعب السوداني يناضل حتى أسقط البشير يوم 6 إبريل/ نيسان، ثم أسقط من بعده رئيس المجلس العسكري الانتقالي عوض بن عوف يوم 8 إبريل/ نيسان.

وكانت انتفاضة الشعب السوداني الأخيرة التي بدأت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي سبقتها انتفاضة عام 2013 لأسباب اقتصادية متصلة برفع الدعم عن السلع الاستهلاكية والوقود. وإضراب الأطباء عام 2016 والذي تم تطبيقه بشكل تام، وكان بعنوان «عشانك يا مواطن».

لم يعلن تجمع المهنيين عن نفسه كقوة تقود الاحتجاجات في السودان إلا بعد نجاح الانتفاضة، فالمتظاهرون يقولون لقد حررونا ولم نكن نعرفهم. وكان التجمع تعبيرًا عن الطبقة الوسطى المحبطة، بسبب الوضع الاقتصادي، وبقاء سلطة حزب المؤتمر التي أحكمت قبضتها على البلاد لمدة ثلاثين عامًا متحالفة مع الحركة الإسلامية في السودان ورافعة شعار المشروع الإسلامي. وتحالَف التجمع مع القوى المهمشة في دارفور وكردفان وجنوب السودان وأسس لإعلان الحرية والتغيير، وأعلن بشكل واضح عن أن هدف الانتفاضة هو تحرير الدولة من هيمنة العسكر وتسليمها لسلطة مدنية انتقالية تدير البلاد حتى التأسيس لبدايات تحول ديموقراطي حقيقي يحرر السودان من هيمنة الدولة العميقة، ويجعل من الدولة تعبيرًا عن مجتمعها وليست أداة لقمعه وفرض التخلف عليه، وجعلها أداة للنهب وتحقيق التراكم الرأسمالي لنخب تتحول مع طول بقائها في السلطة إلى جماعات منتفعة لا تريد مغادرة المنافع التي يحققها لهم بقاؤهم في السلطة.

التحق بانتفاضة السودان وحراكها الثوري في فبراير/ شباط حراك الجيل الجديد في الجزائر، رافضًا العهدة الخامسة لرئيس البلاد الذي كان قد أصيب بجلطة دماغية منذ عام 2013.

واستمر حراك الجيل الجزائري الجديد كل يوم جمعة، لتنتقل مطالبه من رفض الولاية الخامسة لبو تفليقة إلى رفض تمديده للولاية الرابعة في الأسبوع الرابع للحراك والتي عرفت بجمعة الفصل، وشارك فيها كافة أطياف الشعب الجزائري، وبعد الجمعة السادسة من الاحتجاجات وبدعم من الجيش الجزائري اضطر بو تفليقة أكثر رؤساء الجزائر بقاءً في السلطة للخضوع لإرادة الشعب ونقل السلطة لرئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، الذي كان أول الباءات الذي أطيح به تحت الضغط الشعبي للمحتجين. ويرفع المحتجون شعار «لا للباءات الثلاث»، ويقصدون بها الطيب بلعيز وقد أطيح به، وهم ينتظرون الإطاحة برئيس الحكومة الحالي نور الدين بدوي، ورئيس الجمهورية المؤقت عبد القادر بن صالح، والذي كان يشغل من قبل رئيس مجلس الأمة.

إن الأيديولوجيا الدولتية بعواجيزها قد أرهقت الواقع العربي ولم يعد هناك مفر أمام الجيل الجديد الثائر والباحث عن غد أفضل إلا الذهاب لليوتوبيا التي تمنحه دولته التي تعبر عن مجتمعه.

سبق الاحتجاج المنظم لحراك الجيل الجزائري الجديد إضرابات متقطعة من جانب الطبقة الوسطى الجزائرية أيضًا، والمحبطة كشأن مثيلتها في السودان. كما يبدو الحراك الجزائري مشابهًا لحراك السودانيين في سعيه الحثيث للتخلص من الدولة العميقة، وما أطلق عليه «العصابة»، للتحول إلى دولة ديموقراطية تعبر عن مجتمعها وتحترم كرامته وتحقق المساواة والمواطنة للجميع بقدر متكافئ.

ولو استعرت من كارل ما نهايم ما أطلق عليه «التعارض بين الأيديولوجيا واليوتوبيا»، حيث تنزع الأيديولوجيا لتبرير الوضع القائم والحفاظ عليه، بينما تنزع اليوتوبيا لتجاوز ما هو قائم والتأسيس لعالم جديد وفتح أفق إنساني مفتوح للمستقبل؛ فإن الأيديولوجيا الدولتية بعواجيزها قد أرهقت الواقع العربي ولم يعد هناك مفر أمام الجيل الجديد الثائر والباحث عن غد أفضل إلا الذهاب لليوتوبيا التي تمنحه دولته التي تعبر عن مجتمعه، وتفتح الأبواب مشرعة لأسس تحول حقيقي ديموقراطي، يكون الأساس لتحقيق الاستقلال والحرية، تحميه دولة جديدة أكثر عدلًا وإنسانية ومدنية.

الصراع القادم في المنطقة العربية هو حول الأيديولوجيا واليوتوبيا، حيث يعبر عن الأيديولوجيا الحكام المتمسكون بالماضي وهم الأكبر سنًا والأكثر تشبثًا بكراسي الحكم. بينما تعبر اليوتوبيا عن أشواق الأجيال الجديدة لدولة مختلفة تمنح الشباب فرصة للتمكين والحكم، يكون عمادها تداول السلطة، وتحريرها من نزعة العسكر المتفاقمة للتوغل والاختراق والهيمنة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.