لا يعتبر النفط سلعة اقتصادية فقط، ولكن موردًا إستراتيجيًا وأمنيًا هامًا، ساهم في إثارة الحروب والتدخلات في شؤون الدول، كما أدى إلى تشكيل التحالفات السياسية والعسكرية، وإعادة تقسيم مناطق النفوذ والهيمنة، كما وظف من أجل كسب شرعية داخلية للأنظمة السياسية الحاكمة.

إلا أن ربيع الدول النفطية قد انتهى بصيف حارق. هوى سعر برميل النفط من 120 دولار في منتصف 2014، حتى وصل لـ 30 دولارًا قبل أن يستقر عند حوالي 50 دولار للبرميل، وقد ساهمت أسباب عدة في هذا الانخفاض، والذي ساهم بدوره في إشعال توترات سياسية وأمنية سواء على مستوى الداخل أو الخارج، إضافة لتوظيفه في إطار التغيرات التي أصابت العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط والتي وظف فيها من قبل دول الخليج للضغط على إيران وروسيا، وكذلك وظفته أمريكا وأوروبا للضغط على روسيا ودفعها لتقديم تنازلات، أما النفط فكان له تأثير على شرعية النظم السياسية في دول أمريكا اللاتينية وخاصة البرازيل وفنزويلا. لذا من أجل فهم تداعيات انخفاض أسعار النفط على سياسات الدول النفطية ودوره في إشعال الصراعات وتشكيل التوازنات والتحالفات سيتم استعراض أبرز أسباب هذا الانخفاض، ثم تأثيره على سياسات المنتجين، ودوره في تحديد حدة التحالف والصراعات المستقبلية.


لماذا هبط النفط؟

ساهمت مجموعة من الأسباب في انخفاض سعر النفط الحالي ومنها:

ـ تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، ففي يونيو/حزيران 2016، خفض البنك الدولي مستوى توقعاته للنمو العالمي لعام 2016 إلى 2.4 % من 2.9 % كانت متوقعة في يناير/كانون الثاني الماضي.

ـ تزايد إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة ومواصلة التنقيب والإنتاج رغم انخفاض الأسعار.

ـ استمرار الدول النفطية المصدرة، وخاصة السعودية، في الحفاظ على نسبتها من الإنتاج والتصدير.

ـ تنامي دور «السوق السوداء» على خلفية الصراعات العسكرية التي تشهدها المنطقة، مثل سيطرة «داعش» على بعض حقول النفط في سوريا والعراق.

ـ عودة إيران إلى سوق النفط مرة أخرى، بعد توقيعها الاتفاق النووي في يوليو/تموز 2015، رغم محدودية هذه الزيادة نظرًا لضعف البنية التحتية لديها وتخوف الشركات الأجنبية من الاستثمار فيها.


الخليج على صفيح ساخن

أكسب النفط دول الخليج العربي أهمية سياسية وأمنية، برزت على سبيل المثال إبان حرب أكتوبر 1973، ونتيجة لذلك عمل الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة للسيطرة على أمن منابع النفط بالخليج، الذي يحتوي على ما يقارب ثلث الاحتياطي العالمي، وفي المقابل عملت الدول الخليجية على توظيف أداة البترودولار من أجل تحقيق الاستقرار الداخلي والدفاع عن مصالحها الخارجية.

دأبت دول الخليج على توظيف أداة البترودولار من أجل تحقيق الاستقرار الداخلي والدفاع عن مصالحها الخارجية، إلا أن استمرار ذلك أصبح موضعًا للسؤال.

استغلت دول الخليج بقيادة السعودية مؤخرًا انخفاض أسعار النفط من أجل الضغط على روسيا؛ نتيجة لدورها في الأزمة السورية، وإيران؛ نتيجة لتدخلاتها في شؤون الدول العربية وخاصة الخليجية، حيث رفضت السعودية مقترحات تخفيض إنتاجها عن 10.2 مليون برميل يوميًا، وما زالت تعلن أن موقفها هذا اقتصادي وليس سياسيًا بغرض الإضرار بأي طرف. وقد استغلت دول الخليج ثروتها النفطية في دعم أنظمة وجماعات معينة من أجل حماية مصالحها، فمثلا قدمت دول الخليج دعمًا بعشرات المليارت للنظام المصري الحالي عقب الإطاحة بالرئيس السابق «محمد مرسي» في الفترة بين يوليو/تموز 2013 وحتى نهاية 2014، إلا أن قدرة دول الخليج على الاستمرار في مثل هذا الدعم، ومن ثم توظيفه لمصالحها، غدا محدودًا عقب انخفاض أسعار النفط.

وكما يوظف الخليج النفط خارجيًا في كسب الحماية الدولية، وعقد التحالفات، فإنه يوظفه أيضًا في دعم شرعية الأنظمة السياسية. حيث داومت دول الخليج على استخدام عوائد النفط في توفير مستوى عالٍ من الرفاهية لمواطنيها؛ مما ساهم في تغييب وإضعاف دعوات الإصلاح السياسي. ولكن مع انخفاض أسعار النفط وتبني سياسات تقشفية تشمل خفضًا للدعم وفرضًا لمزيد من الضرائب والرسوم، كما في رؤية السعودية 2030 على سبيل المثال، فإن هذا قد يساهم في ارتفاع الأصوات المطالبة بالإصلاح وتوسيع المشاركة السياسية من قبل المواطنين، وكذلك تصاعد احتجاجات العمال في دول الخليج لتأخر رواتبهم وزيادة الرسوم عليهم، كما حدث بالفعل في إضراب عمال النفط في الكويت في أبريل/نيسان 2016، والذي تسبب في خسائر يومية تعدت 60 مليون دولار، وكذلك احتجاجات عمال شركة بن لادن في السعودية في مارس/آذار 2016.


إيران: الحصان المعطل

سعت طهران من خلال توقيعها على الاتفاق النووي في يوليو/تموز 2015، وفكها للعزلة الدولية التي كانت مفروضة عليها، لاستعادة دورها النفطي وإعادة تحريك عجلة اقتصادها التي كانت معطلة بالعقوبات. لكن اليوم، ورغم رفع العقوبات، لا تزال إيران تواجه تحديات الاستفادة من ثروتها النفطية عقب العبء الإضافي نتيجة انخفاض أسعار النفط، والذي لم تسع الدول الخليجية وخاصة السعودية لرفعه أو تخفيفه، وذلك للضغط على إيران وإنهاكها اقتصاديًا. رأت السياسة الخليجية أن إيران لن تستطيع تحمل تداعيات هذا الانخفاض مثل الخليج الذي لديه وفرة مالية ونفطية، فإيران تستنزف في سوريا والعراق واليمن وخاصة من خلال مشاركة الحرس الثوري، والذي يمتلك نسبة كبيرة في صناعة النفط في إيران، وهو ما يوفر له تمويلًا لعملياته الخارجية؛ مما يهدد بتصاعد حدة الغضب والإحباط الداخلي تجاه اتفاق نووي «عديم الجدوى» وتدخلات خارجية ساهمت في خسائر مادية وبشرية للإيرانيين. إلا أن هذه السياسة التي اتخذتها دول الخليج من أجل دفع الداخل الإيراني للتأثير على توجهات النظام، من المستبعد حاليًا أن تأتي بثمارها نظرًا لسيطرة النظام بقوة على الأوضاع الداخلية، وتعوّد الشعب الإيراني على الظروف الاقتصادية الصعبة التي فرضتها العقوبات، إضافة لتقديم النظام الإيراني نفسه كشريك في محاربة «الإرهاب السني»؛ مما يعاني تقاسم أعباء هذه الحرب، التي تحقق مصالحه، مع الدول الكبرى.


سقوط اشتراكية الريع

كان تأثير انخفاض أسعار النفط على أمريكا اللاتينية مدمرًا، إذ انتهى ربيع الاشتراكية الزاهر مخلفًا حالة من الفوضى واليأس. تعرضت شرعية النظم الاشتراكية الحاكمة لضرر بالغ عقب تراجع معدلات النمو والدعم الذي كانت تقدمه للفئات الفقيرة من المجتمع، ودخلت الدول اللاتينية في أزمات اقتصادية خانقة انعكست على شرعية الأنظمة الحاكمة. أقال مجلس الشيوخ في البرازيل رئيسة البلاد «ديلما روسيف» على خلفية اتهامها بالتورط في فضيحة فساد خاصة بأكبر شركات النفط في البلاد «بتروبراس». كتب هذا نهاية لسنوات طويلة من حكم حزب العمال الاشتراكي الذي استغل ارتفاع أسعار النفط في تحقيق طفرة في النمو وتنفيذ برامج لخدمة الطبقات الفقيرة والمعدمة، إلا أن هذه الطفرة لم تترجم إلى أساسيات اقتصادية ثابتة إذ ظلت الدولة معتمدة على سياسات الريع؛ مما خلف انهيارًا اقتصاديًا إثر تراجع أسعار النفط.

فنزويلا هي الأخرى تعد من أكبر المتضررين من تراجع أسعار النفط، إذ يشكل المصدر الأساسي لإيرادات الحكومة، ونتيجة لانخفاض أسعاره وتنامي الفساد، انهارت العملة المحلية، واختفت السلع من الأسواق، وتعرضت خدمات المياه والكهرباء لضرر بالغ؛ الأمر الذي أدى لخروج التظاهرات للمطالبة بتنحي الرئيس «نيكولاس مادورو»، والذي انتخب في 2013 عقب وفاة الرئيس الكاريزمي السابق هوجو تشافيز، حيث جمعت المعارضة التوقيعات من أجل تنظيم انتخابات رئاسية جديدة، وإنهاء الحقبة التشافيزية الاشتراكية؛ الأمر الذي وافق هوى وتأييدًا علنيًا من الولايات المتحدة بالطبع.


تقييد يدي القيصر

استغلت الأنظمة الاشتراكية ارتفاع أسعار النفط في تحقيق طفرة في النمو وتقديم الدعم للطبقات الفقيرة، إلا أن عدم الاستدامة خلف انهيارًا اقتصاديًا مع تراجع سعر النفط.

تعتبر روسيا من أكبر منتجي النفط بإنتاج يبلغ حوالي 10.7 مليون برميل يوميًا، ولكن نتيجة للأزمة الأوكرانية فرضت أوروبا – المستورد الأهم للغاز الروسي – عقوبات اقتصادية لحصار روسيا وتقليم أظافرها. لإلحاق مزيد من الضرر بالاقتصاد الروسي، عملت الولايات المتحدة بمساعدة الدول الخليجية، المتضررة من مشاركة روسيا في الحرب الأهلية السورية بجانب نظام بشار الأسد، على الحفاظ على انخفاض أسعار النفط للضغط على روسيا وإجبار قيصرها القوي على تغيير سياساته الدولية. يشبه هذا ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي حين عمل الخليج مع الغرب لخفض أسعار النفط للتأثير على الاتحاد السوفييتي وإجباره على الخروج من أفغانستان. آتت هذه السياسة بعض ثمارها بالفعل؛ هوى الروبل الروسي إلى مستويات قياسية، وعانى الاقتصاد من الركود والانكماش الحاد، انخفضت شعبية بوتين، وتحول طموح «البطل» – الذي وسع مساحة روسيا – لاستعادة الأمجاد القديمة إلى عبء يذكر الشعب بأيام الانهيار الاقتصادي. استطاع بوتين الاستمرار حتى الآن، عبر سياسات نقدية حصيفة، وعقود بالغة الضخامة مع مستوردين كبار كالصين، لكن قدرته على تحقيق الازدهار والإمبراطورية التي يرنو إليها قد غدت محلًا للشك أكثر من ذي قبل.