قبل أن ندرك أننا نقلق، هل تتذكر آخر مرة قلقت فيها حول مستقبلك؟ هل كانت العام الماضي؟ أم الشهر الفائت؟ أم البارحة؟ وكيف كان تأثير ذلك القلق عليك؟ ذلك الشعور المرير الذي مر بك في لحظة جعلتك ترتجف لأشياء قد تحدث وقد لا تحدث، ماذا فعل بك؟

القلق هو التابع المخلص للطموح المعاصر.

توقفت كثيراً عند قراءة هذه الجملة، ثم تذكرت كل المرات التي شعرت فيها بالقلق، على أبواب قاعات الامتحانات، على الطرف الآخر من طاولة مقابلة العمل، أثناء بحثي عن وظيفة. كلها عُجِنت بالقلق والتوجس، وجميعها تشترك في السبب، الخوف من الفشل.

في كتاب «قلق السعي إلى المكانة» يتحدث «آلان دو بوتون» عن الشيء الذي لن يخبرك أحد به. يخبرونك عن الأحلام والشغف ويهملون الضلع الثالث: قلق السعي إلى المكانة.

الحب المقلق

لماذا نقلق؟

حسناً، أتذكُر ذلك الاختبار الذي درست له بجد بغية أن تحصل على درجة مرتفعة؟ لماذا قلقتْ حينها وسهرت تدرس؟ لأنك وُعدت بهدية من والديك؟ أم رغبت بشدة أن تعيش حياة ذلك الطالب المحبوب من معلميه؟

لقد كانت هناك مكافأة ما في النهاية، شيء يُشعرِك أنك محبوب لو حصَّلت درجة مرتفعة، لأنك لو نمت تلك الليلة بالقليل مما درسته، فأغلب الظن أنك كنت ستجتاز الاختبار بدرجة  مقبول، لكنك أردت الفخر المرتبط بذلك المعدل المرتفع، كنت  لهذا تقلق، لأننا جميعاً نريد ذلك النوع من الحب والفخر ونظرات الإعجاب ممّن حولنا، نوعاً من الحب، لا يشبه الحب في شيء، يخلو من الرومانسية والتقبل رغم العيوب، إنها فقط ابتسامة رضا من الآخرين.

حتى وإن رغبت في الإنكار، جميعنا نحمل ذلك الدافع الخفي، ننشد درجة معينة، وظيفة معينة، ليس لأننا سننتهي ونفنى بدونها، لكن لأن جزءاً منا يرغب بشدة في إعجاب وتقدير الناس.

المتغطرسون ونحن

واحد من الأسباب التي تُهيِّج شعور القلق لدينا، هم المتغطرسون. يتباهى المتغطرسون بأي شيء يملكونه، فقط لإخفاء هشاشتهم وراء أشياء يستطيعون من خلالها جذب الانتباه، ولا أعني بذلك فقط الماديات، بل حتى الدرجات العلمية، وما إلى ذلك. فيدفعونك للخوف والقلق نتيجة رغبتك لامتلاك تلك الأشياء، كالأشخاص الذين يشترون سلعاً معينة من ماركات ما، يعلمون بوجود بديلها الأرخص، لكنهم فقط يخشون أولئك المتغطرسون.

من التطلعات ما قتل

أتذكَّر أن جدتي لأمي أخبرتني ذات مرة: «على قد لحافك مد رجليك»، وهو ما أدركت فيما بعد أنه مثل شعبي دارج. غضبت حينها، فلا حدود للأحلام التي يمكن لعقلي حياكتها، لكنني أدركت بالتجربة أن الأحلام لا تتحقق بالتخيل، وأن الإمكانيات الضعيفة تماماً كالخيوط المهترئة، لا يمكن أن تصنع ثوباً حقيقياً.

التطلع للمستقبل شيء جيد، لكننا ما إذا تمسكنا فقط بالحلم دون إلقاء نظرة متمعنة فيما يمكننا فعلاً بلوغه، قد نصطدم بالإحباط. لطالما صاحت كتب التنمية البشرية في آذاننا أننا يمكننا أن نصبح أغنى بشر في الكوكب إذا استيقظنا باكراً وصرخنا في وجه الإحباط، قامت تلك الكتب ببناء تطلعات غير مدروسة بداخلنا، في اللحظة التي ندرك فيها مدى هشاشتها نكون مبتلين تماماً بالقلق.

ليس الأمر ذنب كتب التنمية البشرية وحدها، فهناك أيضاً مواقع التواصل الاجتماعي التي أذابت الحواجز بين الطبقات الاجتماعية، فغذَّت التطلع لدى الكثيرين، وغزلت أحلامهم. فالتطلع ليس آفة في ذاته، لكن الإفراط فيه يُولِّد القلق، القلق من فشل الحصول على ما تطلعت إليه.

الكفاءة

هي الكلمة الأكثر عدلاً، خاصةً في الحياة العملية؛ أن تحصل على مكانك ووظيفتك فقط لأنك كفء. أتاحت الكفاءة للكثيرين تغيير أماكنهم داخل المجتمع، فمن الطبقة الفقيرة أناسٌ اكتسبوا المال فقط لكفاءتهم. يبقى الأمر آمناً طالما نحن مؤمنون بالرزق والحظ، وأن الذين لم يصلوا ربما تعثروا في الطريق لأي سبب غير «قلة كفاءتهم»، مع عدم إنكار وجود عديمي الكفاءة بالطبع.

عندما تطفو معادلة «أنت فقير = أنت غير كفء»، بدلاً من «أنت فقير لكن لا دخل لك بالظروف التي أجبرتك على هذا»، هنا فقط يدق ناقوس قلق السعي إلى المكانة؛ فنقوم جميعاً بسعي محموم حتى لا يُعلَّق تأخرنا على تقصيرنا فقط.

الاعتماد

قديماً كانت المكانة معتمدة على الدم، يكفي أن تُولد في عائلة ذات نسب حتى تكتسب مكانتك، لا يُطلب منك شيء في أغلب الأحيان، فقط الحظ أن تولد للأبوين الصحيحين. لكننا الآن نكتسب المكانة بالإنجاز لا المولد، نعتمد على تعليمنا، موهبتنا، العمل الذي نقوم به، الشركة التي نعمل بها، الاقتصاد.

إن الوضع الحالي يمنح فرصاً للكثير من الأشخاص، إلا أنه يثير لدينا شعور القلق، نقلق من أن تخوننا موهبتنا، أو نخسر عملنا، أو تُفلِس شركتنا فتفصلنا عن العمل، أو حتى هزة اقتصادية صغيرة قد تصيبنا بنوبة هلع.

جميعنا قلقون، حول تحقيق هذا والفشل في ذاك، والجزء الأول من الكتاب تحت عنوان «الأسباب»، ما هو إلا محاولة لفهم أسباب ذلك القلق الذي لا بد أن يصيبنا في مرحلة ما. وفي الجزء الثاني الذي يحمل عنوان «الحلول»، يحاول الكاتب إعطاءنا سبلاً لترويض القلق.

الفلسفة والدين

لا تُشكِّل صورتك عن نفسك من خلال حديث الآخرين عنك، الإيجابي منه قبل السلبي. مرِّر الحديث على عقلك؛ هل أنت بالفعل ذكي أم أنها مجاملة؟ هل أسلوبك سيئ أم هي جملة كيدية؟ بهذا تستطيع السيطرة قليلاً على فزعك.

يرى الكاتب أن المجتمعات المتدينة استطاعت السيطرة على شعور قلق السعي إلى المكانة، وذلك انطلاقاً من النظرة الدينية للعمل؛ أننا نعمل لنجد النهاية في الآخرة، أننا نُحاسَب على السعي لا النتيجة. إن الإيمان بوجود نهاية سعيدة لعملنا حتى لو لم تكن في الحياة، هو أمر يُخفِّف القلق، على العكس من الذين يرون أن حياتهم كلها تساوي إنجازاتهم، أن الأمر محصور فقط في العمل الحالي.

ليس للقلق لون، لا هو أبيض جيد يُحفِّزنا، ولا هو أسود قاتل لأحلامنا، إنه فقط شيء قليله مفيد، وكثيره مُدمِّر، هذا هو القلق. من الجيد أن نقلق حول مكانتنا، فلا يقلق إلا ذوو المكانة بالفعل، لكننا في مرحلة ما يجب علينا أن نتعلم كيف نُروِّض قلقنا، ومتى ندرك أنه فقط خرج عن السيطرة، وأن الأمر ليس بهذا السوء في الواقع، وأن كل هذا الانهيار الذي نخشاه في عقلنا فقط.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.