«القولبة» أو الاسم الأشهر لها «Stereotyping»، دعونا في البداية نجيب عن سؤال مهم أغلب الظن أنه يدور في عقلكم الآن:ما هي القولبة أو الصورة النمطية؟ القولبة ببساطة هي إنشاء الدماغ ملفات لجماعات البشر المختلفة، لكل جماعة ملف يحمل مجموعة من الصفات التي تميز أو تفرق هذه الجماعة عن الجماعات الأخرى.

والسبب وراء إنشاء هذه الملفات هو محاولة الدماغ تخفيف بعض المهام على نفسه وتوفير الوقت، فمن المنطقي أن الدماغ ليس لديه الوقت الكافي للحكم على كل فرد من أفراد البشرية على حدة، لذلك تكون طريقة القولبة هذه فعالة جدًا بالنسبة له، فهي توفر الوقت والجهد وتسهل عليه التعامل مع الآخر.

بالمناسبة، لا يريح الدماغ نفسه في موضوع القولبة وحسب، ولكنه أيضًا يستخدم الكثير من الطرق لتوفير المجهود عليه في عدة أمور حياتية أخرى، القولبة أحدهم ولكنها ليست الوحيدة. ولكن يبقى السؤال: ما هو أصل القولبة في تاريخ البشرية؟ ولمَ اخترع الدماغ هذه الطريقة من الأساس؟

في الحقيقة لم يتوصل العلماء إلى إجابة شافية وافية بصدد هذا الموضوع، ولكن قال البعض إن الإنسان البدائي كان يفضل العيش في جماعات تنقسم إلى «نحن» و«هم»، وكان السبب الرئيسي لذلك هو الخوف من انتقال الأمراض من الآخرين أو أي أخطار أخرى من الممكن أن تهدد الفرد وجماعته. وفي العصور المتقدمة وبعد إنشاء المجتمعات المتعارف عليها الآن بدأت القولبة أو الصورة النمطية تنتقل من الأهل، والأصدقاء، والأقارب، ولكن أهمهم على الإطلاق وسائل الأعلام.

يروي أحد العلماء اليهود في أمريكا قصته، أنه كان لديه مجموعة من الأصدقاء وهو في عمر الثمان سنوات يعاملونه كفرد من أفراد المجموعة، ولكن بعد فترة أطلقوا عليه لقب «الفتى اليهودي» وتم تصنيفه. بعد فترة علم أن هؤلاء الأولاد سمعوا والدهم يطلق عليه هذا التصنيف فأرادوا الاحتذاء بوالدهم وحسب، وبدأوا ينظرون إلى صديقهم نظرة سلبية. ستقول لي «مالنا ومال اليهود والأمريكان؟» ومعك كل الحق في ذلك، يمكنك إزالة كلمة «يهودي» ووضع «عامل نظافة»، «ابن الخادمة»، «إخواني»، «أبناء مبارك»، «كوفتس» أو حتى «مسلم» أو «فتاة محجبة» يقيمون في مجتمع غربي في الوقت الراهن، ستجد نفس القصة ونفس النتيجة.

القولبة أو الصورة النمطية موجودة في حياتنا جميعًا مهما كان مدى إدراكك أو ثقافتك. مثلًا إن قلت لك «مواطن ياباني» ستتوقع أنه ذكي ومجتهد، «فتاة شقراء» ستتوقع أن تكون جميلة، وإذا قلت لك «رجل غني» ستتوقع أنه رجل أعمال وهكذا. كل هذه موروثات اجتماعية انتقلت من جيل إلى جيل أو من وسائل الإعلام. كل جماعة تحكم على الجماعة الثانية بالسلب أو بالإيجاب، وحتى أفراد الجماعة نفسهم يحكمون على بعضهم البعض في بعض الأحيان.

بما أننا ذكرنا أن لوسائل الإعلام الدور الأكبر والأهم دعونا الآن نتطرق إلى تفاصيل هذه النقطة، حتى نتفهم دورها جيدًا. دعني أعطيك مثالًا يوضح كل شيء: «رجل إرهابي في منتصف العشرينات من عمره يحمل مدفعًا رشاشًا ويقتل مواطنين أبرياء». ما هي مواصفات هذا الرجل الخارجية كما وردت في ذهنك الآن؟

أنت ترى في خيالك الآن صورة رجل عربي مسلم بذقن طويل يرتدي جلبابًا، أليس كذلك؟ بالرغم من أنك في الغالب عربي وبنسبة كبيرة مسلم ومع ذلك ترى أفرادًا من جماعتك بهذه الصورة السلبية، والفضل الأكبر في هذا التصور يعود إلى وسائل الإعلام، هل وضحت الفكرة الآن؟

في أغلب الأحيان نحن نضع الأشخاص في القوالب التي نتعرض لها أكثر من غيرها. مثلًا إذا حدث حريق في بيتك وجاءك رجل مطافئ «إخواني»أسمر البشرة، إذا كنت مصريًا ستضعه في خانة «الإخوان»، وإذا كنت أمريكيًا ستضعه في خانة «السود»، وأغلب الناس ستتغاضى عن كونه رجلاً أو يعمل في المطافئ لأن الصورتين الأخريين أقوى وأكثر تداولًا، فيكونان أكثر سيطرة على عقلك.

يكون للصورة النمطية أو القولبة تأثير كبير على عملك، دخلك المادي ومستقبلك كله. مثلًا إذا قمت بالبحث عن الموظف المثالي لوظيفة معينة وتقدم إليك اثنان متقاربان من حيث الإمكانيات، ولكن أحدهم ياباني والآخر هندي، بالطبع ستنحاز أكثر للياباني لاعتقادك أنه أكثر كفاءةً واتقانًا.

بمناسبة ذكر الكفاءة، هل السيدات أقل كفاءة من الرجال في مجالي الرياضيات والفيزياء، أم أن في مجتمعاتنا لا يتوقع الناس نبوغ السيدات في هذه المجالات فبالتالي يكون عدد السيدات الرائدات فيها قليلاً جدًا، وغير منتشرات في وسائل الإعلام أو معروفات للعامة، لذلك لا تجد الفتيات قدوة من النساء تقتدي بهن في هذه المجالات؟

على كل حال لم تتوقف السلبيات عند هذا الحد، هناك آثار جانبية أخطر وأعمق لموضوع القولبة هذا. في عام 1999 كان هناك مواطن أمريكي أسمر البشرة يدعى «أمادو ديالو» عائد إلى منزله في وقت متأخر، وكانت عناصر من الشرطة في الجوار، وبالتحديد أربعة من ضباط الشرطة بيض البشرة، رأوا «ديالو» وشكّوا أنه رجل مغتصب كانوا يبحثون عنه، فقاموا بالاقتراب من ديالو ليتأكدوا من ظنونهم، ولكنه عندما رآهم يقتربون شعر بالقلق وفر هاربًا تجاه منزله؛ فزاد هذا من شك الضباط فركضوا خلفه، وعندما اقتربوا منه قام بوضع يده في جيبه وأخرج شيئًا أسود صلبًا، مما أربك عناصر الشرطة الذين لم يترددوا في إطلاق النيران عليه. أطلق رجال الشرطة 41 رصاصة على ديالو، 19 منهم أصابوه فمات على الفور، وبعد أن تأكد أفراد الشرطة من مفارقته للحياة اقتربوا منه ليتعرفوا على كنه هذا الشيء الأسود الذي كان يمسك به وكانت هنا المفاجأة، كان الشيء أسود اللون مجرد حافظة نقود!

41 رصاصة من أجل حافظة نقود سوداء! أحدث هذا الحادث جدلًا واسعًا في أمريكا حينئذ، وقامت الجماهير بالتظاهر ضد الشرطة التي قتلت مواطنًا بريئًا لأنه كان يحمل حافظة نقود سوداء في يده. لتبقى العديد من الأسئلة عالقة: هل إذا كان ديالو أبيض البشرة، هل كان سيلقى نفس المصير؟ وهل رأت عناصر الشرطة حافظة النقود السوداء بعينها أم بعقلها؟

قولبة البشر يمكن أن تكون أخطر وأعقد مما نتخيل، وفي وطننا العربي أمثلة كثيرة عن أضرارها، ولكن سأتوقف عند هذا الحد الآن، وفي المقال القادم سأتكلم عن الحلول التي يمكن من خلالها السيطرة على الصور النمطية بحيث لا تسبب لنا الأضرار، وأحاول الإجابة على سؤال: هل القولبة دائمًا على خطأ، أو أنها يمكن أن تكون دقيقة وصحيحة في بعض الأحيان؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.