في ديسمبر/ كانون الأول الماضي أصدر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قانوناً جديداً للجنسية، يقضي بقبول تجنيس ملايين اللاجئين لأسباب دينية من أفغانستان وبنجلاديش وباكستان، شريطة ألا يكونوا من المسلمين، بينما يرفض قبول لجوء مسلمي الروهينجا إلى الهند، وتتم سحب الجنسية من أربعة ملايين مسلم من اللاجئين الهنود ذوي الأصول البنغالية في ولاية آسام.

يقول أحد قيادات الحزب الحاكم إنه سيلقي باللاجئين المسلمين – ووصفهم بالنمل الأبيض – في خليج البنغال، وذلك في إطار سياسة عنصرية تنزع المواطنة عن الأقليات المسلمة، وتنحاز للهندوس.

بسبب هذا القانون تعيش العاصمة نيودلهي أسوأ أحداث طائفية منذ عقود، بسبب اشتباكات بين تظاهرات المسلمين ضد القانون، والمتطرفين الهندوس الداعمين للقانون من جهة أخرى. خلّفت هذه الاشتباكات أكثر من 40 قتيلاً وآلاف المصابين، بالإضافة للعديد من الاعتداءات الجنسية على النساء المسلمات، بالإضافة لأعمال تخريبية طالت محلات وبيوت للمسلمين وبعض المساجد، فما هي جذور هذا العنف الطائفي وعلاقة رئيس الوزراء «مودي» به؟

الجذور التاريخية

في عام 1925 تأسست منظمة قومية دينية باسم «المتطوعين الوطنيين الهندوس» الشهيرة اختصارًا بـRSS بعد تنظيرات متعددة لقوميين هندوس مثل فيناك دامودار سافاركار. كانت الأجواء شبيهة تماماً بأجواء المد اليميني القومي في أوروبا، واستوحت فكرة المنظمة بناءً على نموذج «أصحاب القمصان السود» التابعة لموسيليني، و«شبيبة هتلر». تهدف عقيدة هذه الحركة إلى جعل الهند أمة هندوسية خالصة، لاستعادة «الهند العظيمة» ودعم «التفوق العرقي والثقافي الهندوسي» وأن «النازية هي من أنقذت ألمانيا»، وانتقاد خطاب غاندي عن التعايش ووصفه بناشر ثقافة الاستسلام بين الهنود.

وبقدر ما كان الآباء المؤسسون لاستقلال الهند مثل غاندي ونهرو أسسوا جمهورية الهند الديمقراطية على أساس المواطنة والعلمانية، واشتقاق جذور التسامح من عقيدة الفيدا الهندوسية المقدسة، التي تدعو للسلام والتعايش وتدفع المرء للحوار المنطقي المتواصل، المبني على التساؤلات والاستفسارات، لكن على العكس تماماً تقوم عقيدة RSS على التطبيق الواسع لـتقسيم المجتمع الهندوسي بطبقاته الأربعة، وهم:

  • البراهمة، وهي الطبقة الأعلى التي ترمز للكهنة ورجال الدين والقضاة.
  • كشاتريا، وترمز للقوة، وهي طبقة العسكريين. 
  • فايشيا، وهي ترمز للعطاء، والمقصود بهم التجار والإقطاعيين.
  • شودرا، الفلاحين والعمال، وهم الطبقة الأدنى.

هذا التقسيم الطبقي يحمل بداخل العقيدة الهندوسية، أفكارًا متطرفة تمنع زواج أبناء الطبقات الأعلى من الطبقات الأدنى، وتتيح قتل من يتجرأ من الطبقات الأدنى على سب أبناء الطبقات الأعلى، وحرق منزله واغتصاب نسائه.

لمحة من نشاط الهندوس المتطرفين

في كتابه «RSS نظرة من الداخل»، يصف والتر أندرسون الباحث المتخصص في دراسات جنوب آسيا بجامعة جونز هوبكينز الأمريكية، بداية عمل المنظمة ونشاطها بخلق أذرعها داخل المجتمع الهندي بهدوء، فأصبح لها منظمة دينية، واتحاد طلابي، ونقابة عمالية، وتجمعات مصالح بين الأكاديميين والمعلمين ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني، والأهم حزب سياسي باسم «بهاراتيا جاناتا» أو حزب الشعب الهندي.

منذ استقلال الهند عام 1947 وتأسيس الجمهورية العلمانية، وسيطرة حزب المؤتمر ذي الطابع العلماني المنحاز لقيم المواطنة والديمقراطية وممثل التحالف بين الأقليات، ولمدة 30 عاماً لم تمثل حركة المتطوعين الوطنيين الهندوس RSS نهائياً، رغم تواجدها المتزايد في المجتمع، والذي يظهر واضحاً في اغتيال المهاتما غاندي عام 1948 على يد أحد أعضاء المنظمة.

ارتكبت أنديرا غاندي خطأها الكبير بـتجميد الدستور وإعلان الطوارئ وسجن قادة المعارضة، لتخسر كرسيها في انتخابات برلمان عام 1977، وينفذ حزب الشعب الهندي إلى البرلمان والسلطة بعد 52 عاماً من التأسيس، ضمن ائتلاف واسع لأطياف المعارضة من اليمين لليسار. سرعان ما تفكك ائتلاف المعارضة عام 1980 وعادت آنديرا غاندي مرة أخرى للسلطة، إلى أن تم اغتيالها عام 1984 وأقيمت انتخابات جديدة. حاول حزب الشعب الهندي الوصول للسلطة من جديد، لكنه قدم هذه المرة مراوغة سياسية تتمثل في خطاب عن الاشتراكية الغاندية، والعلمانية الإيجابية، أدت لفشل الحزب بالحصول على مقعدين برلمانيين من أصل 530.

المظلومية التاريخية

رأى الحزب أن إعادة إنتاج الخطاب المتطرف هو السبيل للعودة للسلطة، ووجد ضالته في قضية مسجد بابري في ولاية أوتار براديش، والذي يعود إنشاؤه لتاريخ 1528، لتصدر الحركة خطاب عن أن المسجد بني في مكان ولادة الإله الهندوسي «رام»، ونتيجة لضغوط شعبية يقرر رئيس الوزراء راجيف غاندي فتح المسجد للهندوس ليتعبدو فيه، وسمح لهم بإقامة معبد هندوسي بجواره، ليحصد الحزب نتيجة خطابه القومي الطائفي وتبنيه لهذه القضية في الانتخابات التالية (عام 1989) ويحصد 84 مقعداً، وانتشاراً كبيراً في الولايات.

يتصاعد استخدام قضية مسجد بابري أو معبد الإله رام من جانب حركة RSS وحزبها، ليصل الأمر في عام 1992 بهجوم أكثر من 15 ألف متطرف هندوسي من أعضاء الحركة على المسجد وحرقه، وقتل ألفي شخص معظمهم من المسلمين. ينتشي أعضاء الفكر القومي الهندوسي بهذا النصر، ويجني حزب الشعب مزيداً من المكاسب في انتخابات عام 1999، ويصل حصاده لـ185 مقعداً.

في عام 2002 وفي أثناء استعداد المتطرفين الهندوس من ولاية «جوجارات» للتظاهر بمكان المعبد لدعوة الحكومة لبنائه، يرد الباعة الجائلون المسلمون بحرق القطار الذي يقلهم ويقتل 85 هندوسياً ثأرًا لحادثة 1992. يخرج والي «جوجارات» ويعطي الضوء الأخضر للمتطرفين الهندوس بالرد على حرق القطار، وبالفعل تحرك عشرات الآلاف من المتطرفين الهندوس إلى بيوت ومحلات المسلمين بولاية جوجارات للقيام بمجزرة بشعة، تحرق بيوت ومحلات المسلمين، تغتصب النساء أمام أزواجهم وأطفالهم، ومن كان يفر إلى الشرطة كانت تعيده مرة أخرى إلى الهندوس، بإيعاز من الوالي الذي يتحمل بشكل مباشر قتل ألف من المسلمين في هذه المجزرة.

يرفض الوالي الاعتذار عن هذه الحادثة ويصدر مزيداً من التصريحات العنصرية ضد المسلمين بوصفهم طابوراً خامساً لباكستان، ويوضع اسمه في قوائم المحظورين من السفر إلى أمريكا وعديد من الدول حتى عام 2014، العام الذي رُفع فيه اسمه من الحظر لاعتبارات الدبلوماسية بعدما صار رئيسًا للوزراء، وهو بالمناسبة لا يزال في منصبه رئيسًا للوزراء. نعم، هو ناريندا مودي.

خطاب الإقصاء واستراتيجية التمكين

من عام 1989 كانت جميع الحكومات ذات طابع ائتلافي، وفي 2014 أصبح حزب بهاراتيا جاناتا أو حزب الشعب الهندي حائزاً بمفرده على الأغلبية ومشكلاً حكومة حزبية خالصة تستكمل استراتيجية التمكين. هذه الاستراتيجية بدأها الحزب بعد إقصاء التيار المتشدد الذي يقوده مودي لرئيس الوزراء السابق فاجباي، صاحب خطاب التنمية الاقتصادية، تقوم استراتيجية التمكين التي رسمها مودي عبر ثلاثة محاور:

  • القيام بأعمال عنف من أعضاء الحركة الهندوسية تجاه المسلمين «منخفضة الشدة» لا يسقط فيها الكثير من القتلى مثل حادثة جوجارات، تستهدف إرهاب الأقلية المسلمة وفرض الأمر الواقع. 
  • مزيد من التجنيد للأتباع بمعسكرات الطلاب شبه العسكرية، والدعاية بحملات مثل حملات «حماية الأبقار» التي تفتش القرى وسيارات النقل والمنازل للبحث عمن يذبح البقر ويعتدي عليه.
  • مزيد من التهجير للأقليات المسلمة من الأحياء والمناطق السكنية المشتركة نتيجة التهديد الدائم، فإما إخلاؤهم من المنازل، أو دفعهم للهجرة من الهند، أو الانتقال لأماكن ذات كثافة سكانية من المسلمين.

أنتجت هذه الاستراتيجية في الفترة من 2007 لـ2017 من 580 إلى 934 عملاً من أعمال شغب واعتداءات طائفية سنوياً، وأسفرت عن مئات القتلى كان أقصاهم 91 قتيلاً عام 2017.

كانت الحملة الدعائية الانتخابية لمودي تعتمد على خطاب قومي ضد حزب المؤتمر الذي كان يتهمه بـ«العلمانية الزائفة» التي تسترضي مجتمع الأقليات على حساب الأغلبية الهندوسية. واحتوى برنامجه الانتخابي على قانون لـ«حماية البقرة» ومنع تصدير لحومها أو جلودها. وفي السنة الأولى لانتخابه تنخفض صادرات الجلود من 10% وتنخفض صادرات البقر والجاموس حوالي 17%. وعلى الرغم من تضرر المزارعين والعاملين بالمدابغ من سياسة مودي، فإن الكتل الأكبر من الفلاحين استمرت في دعمه وتأييد حزبه، العاطفة القومية والدينية تتغلب على الواقع الاقتصادي.

الهند في عهد مودي

منذ صعود مودي للسلطة بدأت سياسة الهند تتغير كثيراً، فاستراتيجية التمكين تحصد نجاحات أكبر، وتصبح حركة RSS «المتطوعين الهندوس» ذات تواجد وتأثير جلي لا يستطيع أحد مقاومته أو إنكاره، وتجاوز عدد أعضائها المليون.

سحبت الحكومة مقترحاً لإصلاح قانون تملك الأراضي بعد اعتراض المنظمة، ولم تصدر تعديلات بشأن قانون العمل إلا بعد رضا النقابة التابعة للمنظمة عن القانون وتفاوضهم مع وزير العمل بمفردهم، وانتصاراً لوعود مودي ببناء معبد الإله رام، أصدرت المحكمة الهندية العليا قراراً بأحقية الهندوس في أرض المعبد، ويعتبر مودي أن هذا الحكم المسيس انتصار شخصياً له ولوعوده، وأن القضية انتهت بهذا الحكم، وتتجه الحركة بقوة لتعديل مناهج التعليم وتغييرها لصالح العقيدة القومية الدينية الهندوسية، وتتوج هذه السياسة بقانون الجنسية الأخير.

وفي السياق المستمر لهذه السياسة يعتبر المتطرفون الهندوسيون «إسرائيل» هي النموذج المثالي لفكرتهم، فهي الدولة القومية اليهودية التي قامت على أراضي الفلسطينيين ونظام الفصل العنصري لتتحول لقوة عسكرية وعلمية كبيرة، وبنى قادة الحزب جزءاً من خطابهم في السياسة الخارجية الهندية بأن دعم فلسطين كان نتيجة التأثر بوجود الأقلية المسلمة داخل الهند.

لم يخفِ مودي إعجابه الشديد بإسرائيل، وكان أول رئيس وزراء في تاريخ الهند يزور إسرائيل، بعد أن كانت الهند تاريخياً أهم الفاعلين في حركة عدم الانحياز. لم يقم مودي حتى بزيارة رام الله لذر الرماد في العيون، لأنه كما قال نتنياهو – زعيمه المفضل – إنهما عملا معاً منذ سنوات في بناء علاقات سياسية قوية بين إسرائيل والهند، وبلغ حجم التعاون التجاري بين البلدين أربعة مليارات دولار، بالإضافة لعديد من صفقات التسليح التي حظيت بها الهند من إسرائيل منذ انهيار الاتحاد السوفييتي إلى اليوم.

يأتي هذا التغيير السياسي الكبير رغم تراجع وتباطؤ الاقتصاد الهندي في السنوات الأخيرة، فمثلاً في قطاع السيارات الذي يشكل 7% من الناتج المحلي الإجمالي فقد أكثر من مليون عامل في قطاع السيارات وظائفهم نتيجة خسارة أو توقف بعض القطاعات المرتبطة به، وامتد التراجع أيضاً لقطاع المنسوجات الذي يشكل 2% من الناتج المحلي الإجمالي ويعد أهم القطاعات الحيوية في الاقتصاد الهندي، زاد التضخم على أسعار القطن وأغلقت العديد من مصانع النسيج، بالإضافة لتراجع كبير لقطاع المشاريع المتوسطة والصغيرة.

جزء من أسباب التراجع الاقتصادي هو قرار مودي نفسه بتغيير فئات من العملة في 2016، سحبت الحكومة على إثره 14 تريليون روبية هندية من السوق، بالإضافة لقانون جديد للضرائب على السلع والخدمات، مما أدى لتراجع مؤشرات النمو، وتضرر ملايين الفلاحين والعمال من سياسات حكومة مودي، وعلى الرغم من ذلك فخطاب الهوية والدين يتخطى أزمات المعيشة والوضع المالي، ويضمن لأصحابه النفوذ الجماهيري الأكبر باعتباره الخطاب الذي يتجاوز القضايا الصغيرة مثل المعيشة والوضع الاقتصادي في مقابل القضايا الكبرى المتعلقة برضا الإله أو الأمجاد المتخيلة والمنتظرة.

النموذج الهش عبر التاريخ الذي تقدمه الديمقراطية العلمانية الهندية تزداد مؤشرات انهياره لصالح تكريس نموذج القومية الفاشية الهندوسية، والتضييق على التنوعات الدينية المختلفة. الهند الجمهورية الفيدرالية الأكبر، التي يتخطى تعدادها المليار و300 مليون شخص، ويشارك في انتخاباتها أكثر من 700 مليون مواطن، يسيطر عليها خطاب الكراهية الشعبوي الذي يقوده مودي ورفاقه لاستعادة «الهند العظيمة»، ومرشحة لزيادة الإجراءات والسياسات والقوانين ذات الطابع الإقصائي، واستمرار الاعتداءات الطائفية الموجهة ضد الأقليات نتيجة للفرز الديني الطائفي.