الخاتم بجوار المصباح. الصمت يحل فتعمى الآذان. في الصمت يتسلل الإصبع. يضع الخاتم، في صمت أيضاً.
يُطفأ المصباح، والظلام يعم.
في الظلام، أيضاً تعمى العيون.
الأرملة وبناتها الثلاث. والبيت حجرة. والبداية صمت.

جمل افتتاحية بإيقاع شعري بسيط يفتتح بها يوسف إدريس قصته «بيت من لحم»، تلخص حالة الصمت في البيت، وتضعنا كذلك في حالة من الترقب والفضول لمعرفة تفسير تلك الكلمات القليلة وعلاقتها بعنوان النص وموضوعه.

شكل البيت المكون من لحم

«بيت من لحم» هي قصة قصيرة ليوسف إدريس ضمن مجموعة قصصية تحمل نفس العنوان، وهي الأولى فى المجموعة وتم إصدارها عام 1971. تم تحويلها إلى فيلم قصير عام 2005، كتب السيناريو والحوار «أشرف سمير عبد الباقي»، وكان من بطولة يارا جبران وآسر ياسين وفرح يوسف.

عند قراءة عنوان النص في البداية يتبادر إلى الأذهان أن البيت هنا مكان للراحة والخصوصية والملجأ للأمان، لكن مع قراءة القصة يتضح أن البيت عبارة عن غرفة صغيرة، جميع قاطنيها يسمعون ويرون كل ما يدور بداخلها، يختفي بها مفهوم الخصوصية، بالأخص بين الأم والزوج. حتى إن الكاتب وصف عيون البنات التي تراقب الأم والزوج ليلة الزفاف بــ «كشافات عيون وآذان».

ومع قراءة العنوان أيضاً، يدور التساؤل حول كيفية تكوين البيت من لحم، فيتضح أن يصف حالة الأجساد المتكتلة في مكان صغير جداً، لدرجة أنه لا يمكن التمييز بينها، ولم يعد الزوج يميز الأم العجوز عن ابنتها الشابة.

قوالب أدبية صحيحة

يتحقق في نص يوسف إدريس جميع سمات القصة القصيرة التي تميزها عن الأنواع الأدبية الأخرى، وهو ما يؤكد دقة وحرفية الكاتب. فمثلاً اتسمت القصة بالقصر النسبي، فهي لم تتعدَّ الست الصفحات مع توضيح تام لهدف القصة ومغزاها.

كما استخدم الكاتب اللغة المكثفة لتخدم غرض القصر، فمثلًا عبر بــ «كشافات عيون، وكشافات آذان، وكشافات إحساس، البنات كبريات، عارفات، ومدركات، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار»، ليصف الكاتب الحالة التامة من عدم الخصوصية التي يعيش بها الزوج والزوجة أثناء العلاقة الحميمة.

كما عبَّر بـ «البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم، أبداً ليس مثل الجوع حرام» على لسان الأم، عن تبرير صمتها عن الحرام الذي يحدث تحت سقف بيتها. إنه حرام بالفعل ولكن الشهوة التي لم تُلبَّ أكثر حرمانية، فالغاية تُبرر الوسيلة.

بالنسبة لخطة القصة فكانت بسيطة ومحددة. لم يتطرق الكاتب لأي أحداث أو جمل لم تخدم خط سير القصة. لم يُطِل في الأحداث، ولكن عبَّر عنها بخطوط واضحة. لم يوضح الكاتب نهاية واضحة للقصة، فقط توحي النهاية أن الصمت والإنكار والتبرير سوف يستمرون من جميع الأطراف. لأنه فى الواقع لم يُذكر في الأحداث ما يدل على تَغير في شخصيات النص، وبالتالي لن تتغير قراراتهم. فبأي منطق يَتوقع أن تنتهي هذه المأساة ما دام الجهل والفقر والحرمان هم المسيطرين على البيت؟

الإنكار والتبرير… بجانب الصمت

يُعرِّف «سيغموند فرويد» الإنكار وفقاً لـ «معجم علم النفس والتحليل النفسي» بأنه:

حالة يواجه فيها الشخص حقيقة غير مريحة مطلقاً، فلا يستطيع تقبلها فيرفضها بدلاً من ذلك، ويصر على أنها ليست حقيقة رغم وجود الأدلة الدامغة على صحتها.

فكان الشيخ الأعمى يُفرِط فى استخدام الإنكار كحيلة دِفَاعية بشكل شعوري أحياناً ليتجنب الاعتراف بحقيقة أنه يمارس الجنس مع بنات زوجته. فضَّل الصمت وعدم الاعتراف حتى بينه وبين نفسه، بل من المتوقع أن يكون عنيفًا مع أي منْ سيحاول كسر هذا الصمت ومواجهته بالحقيقة.

كما يُعرف التبرير وفقاً للدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية، بأنه يحدث عندما يتعامل الفرد مع الصراع العاطفي أو الضغوطات الداخلية أو الخارجية، من خلال إخفاء الدوافع الحقيقية لأفكاره أو أفعاله أو مشاعره من خلال الطمأنة أو الخدمة الذاتية.

فكانت الأم تقوم بتبرير فعل مُحرَّم غير سوي بحجة أن الحرمان الذي تعيشه البنات أصعب من حرمانية الفعل نفسه «الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم».

علاوةً على ذلك، تُفسِّر المدرسة النفسية التحليلية صمت الأم وتبريرها نتيجة إحساسها بالذنب، حيث يتم إشباع رغباتها دون البنات الشابات اللاتي في نظرها هن الأحق بهذا الإشباع منها، وكأنها تشعر بشكل لا شعوري أنها سرقت منهن ما هو لهن. فبالتالي لا تمانع أن يَسْتَرِدُّوهُ حتى لو بشكل غير أخلاقي.

شكل الصمت

تعددت أشكال الصمت في القصة باختلاف الأحداث. فمثلاً صمت الحزن الذي خيَّم على جو المنزل بعد فقدان الأب والبهجة كذلك. ولم يُكسَر هذا الصمت إلا بدخول رجل ثانٍ، ليعود التوازن في البيت، فيُعيد شكل الأسرة السوي مرة أخرى.

يوجد كذلك صمت الخجل، ويتمثل في خجل الزوج والزوجة من ليلتهم الأولى. وأيضاً في خجل البنات ومعرفتهن أن عليهن أن يتركن الحجرة/البيت للأم وزوجها، وعودتهن مع الغروب خجولات صامتات.

وأهم نوعين من الصمت في القصة هما: صمت التواطؤ أولاً، وهو ما قامت به الأم بعد موافقتها على جماع الابنة الوسطى والزوج، وكأن شيئًا ما كُسر فيها أمام نفسها ولا تستطيع أن تعيده مرة أخرى، والتالي آثرت الصمت. وبعدها صمت البنات بالتدريج عندما تقع كل منهن في هاوية العلاقات المحرمة مع زوج الأم، الجميع يعلم ما يحدث عند انطفاء المصباح ولكن لا يُعبِّر عنه أحد، فمهما كان الوضع غير سوي ومُنفر، فالجميع صامتون.

ثم يأتي صمت التوافق ثانياً، وهو نوع الصمت الذي يُمارسه زوج الأم. «وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجته وحلاله». فكان الصمت لهم جميعاً هو الملاذ الآمن الذي لجأوا إليه بدلاً من مواجهة الوضع غير السوي الذين يعيشون به.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.