أنفقت بريطانيا وإسرائيل وفرنسا في العدوان الثلاثي ما يقرب من 100 مليون جنيه، ولكن ما النتيجة؟ خرجوا بحسرتهم وخيبتهم.
جمال عبد الناصر 

بعد 9 سنوات من النكبة، كان يوم 15 يناير يومًا غير عادي لكل المتواجدين في ملعب رامات غان بجوار مدينة يافا الفلسطينية. احتشد في الملعب حوالي 10 آلاف مشجعًا.

كان اليوم تاريخيًا بالنسبة لهم لسببين؛ الأول هو الجواز السفر الإسرائيلي الذين حصلوا عليه للمرة الأولى بدلًا من الهوية العربية، والثانية هي تشجيع منتخب بلاده الناشئة والذي لا يفصله عن التأهل لمونديال 1958 سوى الانتصار على ويلز، فهل هناك دعاية لدولتهم الجديدة أفضل من هذه؟

كان المشهد مؤلمًا، ولا نعرف ما كان يشعر به السكان الأصليون للبلاد وقتها مع الأجواء الاحتفالية على أرض تم سرقتها بمؤامرة محكمة خُطط لها منذ وقت طويل. إن كنت تظن أن هذا الأمر كان الأكثر استفزازًا فأنت مخطئ، حيث فوجيء الجميع بانتشار ثمرات البرتقال بين أيدي المسؤولين في الملعب، ويقومون بتوزيعها على ضيوفهم الويلزيين والصحفيين المتواجدين والذين يحملون جنسيات مختلفة.

ما قصة هذا البرتقال؟ الإجابة تجدها عند المسؤولين عن توزيعه في الملعب مع ابتسامة عريضة: «إنه برتقال يافا، فخر الزراعة الإسرائيلية».

كان هذا البرتقال محاولة غير نقية لاستكمال السرقة التي عزم عليها السكان الجدد للمدينة. فالأمر ليس مجرد احتلالًا عسكريًا بشكل تقليدي كما اعتاد العالم في الحرب العالمية الأولى والثانية، ولكنه احتلالًا ثقافيًا واستحواذ على الهوية الفلسطينية العربية بشكل جذري. ويبدو أن محاولة استغلال كرة القدم في الترويج المقاصد غير الرياضية قد بدأ منذ وقت مبكر.

تشتهر مدينة يافا بزراعة البرتقال الذي يعد من الأفضل في العالم. لا تكمن شهرته لكثافة زراعته وتصديره بكمية كبيرة فقط، ولكن لجودته أيضًا.

فالبرتقال الفلسطيني المنتمي لمدينة يافا يتميز بالسمك الكبير للقشرة، مما يتيح للثمرة أن تحتفظ بنضارتها لفترة أطول، بالإضافة إلى درجة الحرارة المنخفضة نظرًا للانعزال عن حرارة الشمس نسبيًا، فيصبح طازجًا لفترة أطول، وتشعر وكأنك تقطف ثمرة من ثلاجة حديثة وليس من الشجرة مباشرة. هذا من أهم معالم إسرائيل الزراعية حتى وقتنا هذا، يمكننا اعتباره أنه مثل القطن المصري في عصوره الذهبية.

عام 2010، خرج إلى النور واحد من الأفلام الوثائقية التي لاقت نجاحًا كبيرًا خاصة في أوروبا والذي صنعه المخرج الإسرائيلي «إيان سيفان» وكان عنوانه: «يافا – ميكانيكية البرتقال». وبالرغم من إسرائليته، إلا أنه في هذا الفيلم أثبت بما لايدع مجالًا للشك أن العرب هم من زرعوه طوال سنوات ما قبل النكبة. لا ينفي الفيلم مشاركة اليهود في هذا بنسبة تتراوح من 7% إلى 9%، ولكن يجب الإشارة إلى أن الغالبية العظمى ممن أداروا عملية الزراعة والحصاد والتصدير عبر ميناء يافا كانوا من العرب الفلسطينيين..

كيف وصلت إسرائيل إلى هنا؟

عرفنا قصة البرتقال المسروق، والتي حاولت إسرائيل من خلال كرة القدم أن تربط اسمها بشيء لا يمت لها بصلة كدولة من قريب أو من بعيد، ولكن ما الذي أتى بإسرائيل إلى هذه المرحلة النهائية من التصفيات المؤهلة لكأس العالم بالسويد عام 1958؟ الإجابة كانت عند بريطانيا، والسبب جاء من مصر.

قرر الاتحاد الدولي لكرة القدم حينها وضع منتخبات إفريقيا وآسيا في منطقة واحدة بمواجهات مباشرة، ليتأهل منها منتخبًا واحدًا لنهائيات كأس العالم، وكان بالطبع المنتخب الإسرائيلي متواجدًا في هذه المنطقة من التصفيات نظرًا لتواجده في منطقة فلسطين المحتلة المنتمية للأراضي الآسيوية، بالإضافة إلى قبرص التي تم وضعها في المنطقة نفسها.

أسفرت القرعة عن وقوع المنتخب المصري في مواجهة نظيره القبرصي، ولكن الأخير انسحب من المباراة لظروف داخلية في البلاد، ليتأهل الفراعنة تلقائيًا لمواجهة السودان ذهابًا وإيابًا، ويكون الفائز في مواجهة المتأهل من مواجهة إندونيسيا وإسرائيل.

لم تبد إندونسيا أي اعتراض لمواجهة إسرائيل من حيث المبدأ، ولكن الرفض جاء واضحًا بأن يسافر المنتخب إلى القدس المحتلة باعتبارها أرضًا إسرائيلية، وطالب الفيفا أن تقام هذه المباراة على أرض محايدة، وقوبل هذا الطلب بالرفض القاطع ليعتبر إسرائيل متأهلة بشكل تلقائي إلى المرحلة النهائية من التصفيات، في انتظار الفائز من مصر والسودان.

مواجهة مستحيلة

نحن الآن في أواخر عام 1957، ولكن الأمور لا تسير بشكل جيد على الصعيد السياسي، حيث تكبدت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا خسائر فادحة في الحرب التي شنوها على مصر قبل أشهر فيما عُرف بالعدوان الثلاثي. فقد كان للانتصار السياسي الذي حققته مصر بعد تأميم قناة السويس تأثيرًا كبيرًا على بريطانيا باستقالة أنتوني إيدن رئيس الوزراء بعد الفشل في إدارة ملف الحرب على مصر.

في الوقت نفسه، كان المنتخب المصري يعيش فترة جيدة على الصعيد الفني، حيث حقق سمعة جيدة بالفوز ببطولة جديدة تدعى كأس أمم إفريقيا بعد أن كانت مصر إحدى الدول المؤسسة للاتحاد الإفريقي لكرة القدم. كان الفراعنة يمتلكون المنتخب الأقوى في الشرق الأوسط، وكأن تأهلهم إلى المونديال بديهيًا مقارنة بالمنتخبات المشاركة. الآن نحن أمام مواجهة محتملة أمام إسرائيل  حال تحقيق فوز متوقع على السودان، فهل يمكن أن يقبل المصريون ذلك؟

في الماضي كان عرش الحكومة المصرية يهتز بمجرد أن تتواجد قوات أجنبية في البحر المتوسط. اليوم يمكن للمصريين أن يسقطوا حكومة بريطانية، ونحن على استعداد أن نضربهم بالحذاء
جمال عبد الناصر، 1957

تحدث جمال عبد الناصر عن بريطانيا وإسرائيل بعبارات شديدة اللهجة، مثل «الضرب بالحذاء»، والسب الصريح ردًا على إهانته من مجلة تايمز ووصفه «بالكلب». يمكنك أن تتخيل مدى الكراهية التي كانت تسيطر على مشاعر المصريين حكومةً وشعبًا تجاه البلاد التي اعتدت على الأراضي المصرية، وهذا جعل من العبث مجرد تفكير الاتحاد الدولي في إقناع المصريين بالعدول عن فكرة استحالة مواجهة إسرائيل في مباراة كرة قدم.

انسحبت مصر من المواجهة، واتخذ المنتخب السوداني القرار نفسه بالتبعية. لم يصبح سوى إسرائيل وحدها في التصفيات منبوذةً وغير مرغوب فيها، لدرجة جعلت الاتحاد الدولي يحاول إقناع تركيا بمواجهتهم لإنقاذ الموقف، إلا أن تركيا رفضت بحجة أنها تنتمي لأوروبا ولا تريد خوض أي تصفيات آسيوية. ضحى الجميع بكأس العالم لطالما كان الثمن عدم الاعتراف بهذه الدولة ضمنيًا من خلال مباراة كرة قدم.

كان من المستحيل أن تتأهل إسرائيل إلى كأس العالم دون خوض أي مباراة في التصفيات، لذلك اقترح أحد أعضاء الاتحاد الدولي لكرة القدم أن يواجه منتخب الكيان الصهيوني واحدًا من المنتخبات التسعة التي احتلت المركز الثاني في التصفيات الأوروبية. أجريت القرعة وأسفرت عن اختيار بلجيكا، ولكن المفاجأة أن الرفض كان هو الرد ولأسباب سياسية أيضًا. كان المنتخب الويلزي قد احتل المركز الثاني في مجموعته، فاضطر الفيفا أن يختاره لمواجهة إسرائيل. هل يرفض منتخب ينتمي لمملكة بريطانية مواجهتهم؟ بالتأكيد لا.

يقول كليف جونز جناح ويلز وتوتنهام حينها: «لم أشعر بأي مفاجأة نظرًا للعلاقة التي تربط المملكة بإسرائيل. كانت المملكة لا تريد أي إزعاج منهم وتم الترحيب بنا في تل أبيب وتم منح كل لاعب منا صندوقًا من البرتقال الذي اشتهروا به». 

زارت ويلز تل أبيب وسط أجواء احتفالية كبيرة كان برتقال يافا أبرز ما يميزها، ورغم انتهاء المباراة بهزيمة الإسرائيليين بثنائية دون رد، إلا أن الاحتفالات لم تتوقف بعد أن عاشوا شعورًا لم يحلموا أنه سيتحقق بهذه السرعة بأرض وثمرة وهوية مسروقة.

كانوا منبوذين من الجميع، ولكنهم وجدوا من يحتضنهم، وما كان لهم أن يستمروا على قيد الحياة لولا دعم الآخرين الذين ضموهم لاحقًا للاتحاد الأوروبي. ولكن الفشل استمر بالرغم من المساعدة والسرقة، ولم يظهر منتخب إسرائيل في عالم كرة القدم واستخدام القوة الناعمة التي كان يتمناها، حتى اللحظة الحالية.