رغم رحيل سعد زغلول قبل قرابة قرن من الزمان، فإن شخصيته ما تزال تثير الجدل، فالرجل كان زعيم ثورة 1919، أعظم حدث مصري في القرن العشرين، ثورة شكَّلت تاريخ مصر حتى عام 1952، قبل أن يقطع خيط حياتها حركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952.

يأخذ كثير من ناقدي سعد عليه إدمانه للعب القمار، ويرون في ذلك نقيصة تكفي لكي تهدم كامل تاريخ الرجل، يتعرَّضون لهذا الأمر، ولا يذكرون شيئًا عن تضرعاته وتوسلاته لربه لكي يتوب عليه!

إدمان القمار لدى جمهور من الإسلاميين يعني عدم استحقاق سعد زغلول لزعامة ثورة 1919، ودليلًا على تخريبه لقيم المجتمع.

يكتب «محمد قطب» في كتابه «واقعنا المعاصر»: «كان سعد يقامر –كما أقرَّ في مذكراته– ويغرق في لعب القمار حتى يخسر أمواله، وأعداؤه السياسيون يكشفون للجماهير ذلك، فتبتلع الجماهير ذلك، وتزداد تعصبًا لسعد كلما أوغل أعداؤه السياسيون في النيل منه». [1]

وعلى شاطئ مقابل، يستعرض الدكتور «عبد الخالق لاشين» في كتابه «سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية حتى عام 1914» بدايات إدمان سعد للقمار، ويرى أن دافعه له ليس حب المال أو اللهو، وإنما لمجاراة ومعايشة الطبقة العليا التي صار ينتمي إليها بعدما تزوج من صفية مصطفى فهمي، ابنة رئيس وزراء مصر، ودخوله صالون نازلي فاضل. [2]

ثنائية الروح والرؤية

هل أدمن سعد القمار؟

هذا أمر لا مراء فيه، وقد كتب الرجل عن القمار بخط يده في مذكراته الشخصية. لكن كيف انتقل سعد، ابن القرية والكُتَّاب، إلى أن يصير مدمنًا للعب القمار؟!

ما أراه أن سعد عاش ثنائية الرؤية التي شطرت الأمة نصفين. ثنائية الرؤية هذه عرفتها مصر مع بدء ثنائية التعليم في عهد محمد علي، تعليم شعبي يتألف من الكتاتيب، تعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم تمهيدًا لدخول الأزهر، وتعليم مستورد من الغرب يسد حاجة الجيش ومؤسسات الحداثة التي شيدها والي مصر.

منذ تلك الأيام وجُد بمصر سُلَّمان تعليميان غير مرتبطين ولا متصلين أحدهما بالآخر، ثم أخذت هذه الثنائية تتوسع تدريجيًّا، ويتعمق مجراها مع «تغريب» المجتمع ثقافيًّا خلال عهدي سعيد وإسماعيل، لينقسم العقل المسلم منذ تلك اللحظة إلى «إسلاميين» و«علمانيين»، لكل منهما رؤية متميزة للواقع وتحديات النهضة.

التيار العلماني، وتمثله قطاعات من النخب في بلادنا، يبشر بالحل العلماني وتمدين مصر على النمط الأوروبي، ويُلخِّص «طه حسين» فلسفته في قوله: «يجب أن نسير سيرة الأوروبيين»، ولا يكون ذلك إلا بهضم كل ما في الحضارة الغربية «خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يكره، وما يُحمد منها وما يُعاب». [3]

سياسيًّا، ارتضى التيار العلماني بالاحتلال البريطاني باعتباره أمرًا واقعًا، ورأى فيه المستبد العادل، الذي يمكن الاستفادة منه في تمدين مصر على النمط الأوروبي، لهذا رغب في التعلم منه والحلول محله.

أمَّا التيار الإسلامي، فمن حسناته أنه استطاع التمييز بين العلوم التطبيقية والذات الثقافية، فهو لا يرفض علوم الغرب التطبيقية، ويراها من قبيل المشترك الإنساني العام، لكنه يرفض تغريب المجتمع ليكون نسخة مقلدة ومزيفة من الذات الأوروبية.

وسياسيًّا، يرفض الاعتراف بشرعية الاحتلال، ويؤمن بالعمل الأهلي لإنشاء مؤسسات بديلة عن المؤسسات الرسمية التي يسيطر عليها الاحتلال، بالاعتماد على نظام الوقف الموروث للحفاظ على هوية المجتمع وتحصينه من الغزو الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.

هذه الثنائية التي شطرت الأمة إلى شطرين لم تكن فقط في هذين التيارين، وإنما عاشت الثنائية بداخل غالبية أفراد الأمة، فكانوا كأهل الأعراف، مذبذبين بين الهوية الإسلامية والهوية التغريبية، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إلا قليلًا ممَّن يمكن تصنيفهم في فئة «الأصفياء» و«الأنقياء»، ممَّن لم يتذبذبوا بين التيارين، فانحازوا كلية إلى رؤيتهم للواقع. نذكر من التيار الإسلامي على سبيل المثال: «جمال الدين الأفغاني». ومن التيار العلماني التغريبي: نجد «سلامة موسى» (1888-1958) بتطرفه في علمانيته، لم يتزحزح عنها قيد أنملة حتى الممات.

لهذا نرى الخديوي إسماعيل (1830-1895) يقيم الحفلات الباذخة، ويحلم بالقاهرة على النمط الباريسي، وفي الوقت نفسه يلجأ إلى سياسة الوقف، بل تكون وقفياته من أكبر أوقاف الأسرة العلوية.

ونرى «عباس محمود العقاد» (1889-1964) يكتب العبقريات، وهو لا يصلي الجمعة بشهادة منْ حضروا صالونه الأدبي، والذي كان يعقده في الساعة العاشرة من صباح كل جمعة! حتى قيل إن العقاد أسلم قلمه ولم يسلم جسده!

ونرى «طه حسين» (1889-1973) يكتب «في الشعر الجاهلي» عام 1926، ناكرًا وجود نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم يعود ويكتب بعدها «الوعد الحق» و«على هامش السيرة»، ويدافع عن حاكمية القرآن على القوانين عام 1953، ويؤدي العمرة عام 1955، ولا يستطيع كفكفة دموعه طوال رحلة العمرة.

ونرى «محمد حسين هيكل» (1888-1956)، الكاتب اللامع والسياسي البارز، يتبنى كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، والدعوة إلى الفرعونية بديلًا عن الجامعة الإسلامية، ثم يعود فيكتب «حياة محمد»، و«في منزل الوحي». ورغم كتاباته الإسلامية، لا يتحول إلى التيار الإسلامي العام في رؤية الواقع، كسبيل لإخراج الاحتلال، وتحقيق النهضة.

هذه الثنائية التي شطرت أبناء الأمة نراها في تناقض الحياة المصرية، التي جمعت بين المحافظة المُتزمِّتة، والتطرف في الأخذ بأساليب الحياة الأوروبية، وبين التوسط في الأخذ من كل من الاتجاهين. في سراي عابدين، الخديوي عباس حلمي يحتفل بشهر رمضان، ويحضر مع حاشيته دروس تفسير القرآن بالمساجد، ثم يقيم كل عام بدءًا من 1895 حفلًا راقصًا يمتد فيه السهر إلى مطلع الصبح، ويُسمى «ليلة البللو». [4]

ونرى ثنائية الروح في شعر أمير الشعراء «أحمد شوقي»، إذ تتجاور في ديوانه الأشعار في وصف الخمر والمراقص، مع مدائح الرسول وتمجيد الإسلام. [5]

سعد زغلول … المتأرجح

التأرجح والتذبذب بين الرؤيتين الإسلامية والعلمانية، والذي عاشته الأمة، تجسد في شخص سعد زغلول، فعاش صراعًا عنيفًا يجذبه تارة إلى جذوره الإسلامية وأرضه الريفية، وأيام دراسته الأولى في صحن الأزهر، وجلسات الأفغاني على قهوة البوستة، وتارة يجذبه اعتداله بعد فشل الثورة العرابية، وإعجابه بالغرب. هذا التأرجح نراه في حياة سعد الخاصة وحياته العامة.

في حياته الخاصة، نراه في لعب القمار والموائد الخضراء. اكتسب سعد هذه العادة السيئة من الغرب، بعد عودته من أوروبا وتردده على نادي محمد علي، تقريبًا في عام 1901، يدفعه إليها الرغبة في تقليد طبقة الأتراك ونمط الحياة الأوروبية، كأحد مظاهر الغزو الثقافي الذي غمر البلاد.

يكثر نقاد سعد من ذكر هذه السيئة، سلاحًا يشهرونه لتشويه شخصيته، بيد أنهم يتجاهلون حقيقة واضحة، أن تربية سعد الريفية وسنوات الكُتَّاب، وهو ما يمكن تسميته «الأساس العقيدي» والثقافي للشخصية الإسلامية، جعلته دائم الإحساس بالذنب، فيجاهد نفسه الأمارة بالسوء مرارًا، محاولًا الإقلاع عن القمار، ويستغفر ربه في كلمات خاشعة تفيض ندمًا.

في يوميات 20 يناير/كانون الثاني 1913 يكتب سعد:

أحمد الله على الهداية والإقلاع عن الغواية، وأرجوه أن يوفقني إلى حسن النهاية كما وفقني في البداية، وأن يكفيني شر ضعفي، إنه سميع الدعاء.

وفي 14 أبريل/نيسان 1913 يكتب سعد أنه عاد إلى القمار:

فاستأت كل الاستياء، وندمت كل الندم، ورجعت على نفسي باللائمة ومكثت أوبخها ليل نهار … وقد تبت توبة نصوحًا من ثلاثة أيام. والله أسأل أن يثبتني.

وهكذا يعيش سعد صراعًا نفسيًّا عنيفًا، بين شهوة نفسه التي تجذبه إلى القمار، وبين الأساس العقيدي الإسلامي الذي يدفعه للتوبة. تتكرر هذه الثنائية كثيرًا. يمنع نفسه أيامًا وشهورًا من القمار، ثم يُسوِّل له شيطانه العودة، فيعود إلى تأنيب نفسه تأنيبًا عنيفًا.

يقول في إحدى مرات ندمه:

قبَّحها الله (أي لعبة القمار)، وقبَّح أهلها، ومن عوَّدني عليها، ومن يُعيِنني على التمسُّك بها، وبارك الله فيمن يساعدني على التخلص منها ولو كان من أعدائي. [6]

ويذكر سعد أن القمار سلاح استخدمه أعداؤه في التشهير به، وأنه بدَّد ثروته، حتى أحصى ما خسره فيه، فبلغ 30 ألف جنيه، ويكتب برؤية إسلامية أوجه الإنفاق إذا أقلع عن هذه العادة السيئة:

إن الإنسان الذي يُفضِّل إنفاق ماله في اللعب على إنفاقه في إشباع الجائع، ومواساة البائس، وتسلية المحزون، ومعالجة المريض، وتأمين الخائف، لا يستحق التكريم، بل يستحق اللعنة من الله والناس أجمعين … لا أكلف الناس احترامي، لأني لا أستحق شيئًا من ذلك. [7]

وحينما تغلبه شهوة اللعب ذات مرة، ويخسر 150 جنيهًا، يكتب متحسرًا متوجعًا:

هل استعصى الداء؟! وهل تمكن المرض، وفات التوب؟! إني إذن لضائع! إني إذن لخاسر! فالله لن أفتأ أذكر هذه المضار حتى أتقرب من الله، وأرجع رجوع المخلصين. [8]

ويتضرع سعد إلى ربه في كلمات خاشعة:

ربي، إنك تعلم ما أخفي وما أعلن، وتعلم أني ضعيف لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، وأني حاولت الإقلاع عن هذه العادة جملة مرات، وأنزلت على نفسي كثيرًا من اللعنات، والآن أترك أمري إليك، وأتكل فيما بقي عليك، فإن أنت أعنتني على ترك هذه الخلة المنحلة، فقد نجيت عبدًا مُخلصًا من تهلكة، وإلا فالأمر كله إليك، واتكالي عليك.

وتُعذِّبه نفسه، حتى يكتب في مذكراته يوصي بعدم الاحتفال بجنازته، وارتداء ملابس الحداد عليه، وتلقي العزاء، ودفنه بين أقاربه وأهله! وتحدثه نفسه بالانتحار، فهو الملجأ الأخير لمن تمكن الضعف من نفوسهم! [9]

وقد كتب سعد جملته الشهيرة: «ويل لي من الذين يُطالعون من بعدي هذه المذكرات، ومن حكمهم على تمكن الفساد من نفسي، ورسوخ أصوله في قلبي»، كتب سعد هذه الجملة في حديثه عن القمار، وتأنيب ضميره، وأساسه العقدي الإسلامي.

وهكذا عاش سعد سنوات من عمره في صراع عنيف بين شهوة تغلبه حينًا، وضمير يُؤنِّبه على ما يرتكب من سيئات.

ثنائية الروح والهوية تفسر لنا العديد من أفعال سعد التي تبدو متناقضة، تفسر لنا كيف دعم جريدة «المؤيد» بتوجهها الإسلامي وفي الوقت نفسه يكون من رواد صالون نازلي فاضل! كيف يعلق في حجرة مكتبه صورة الأفغاني وبجوارها صورة كرومر، وشتان ما بين الثائر الأكبر الذي عاش حياته يكافح ضد الاحتلال البريطاني للبلدان الإسلامية وبين عميد الاحتلال!

بيد أن الأساس العقدي الإسلامي لسعد بدا واضحًا وحاسمًا، من موقفه من قضايا فكرية كبرى شغلت الرأي العام المصري بعد ثورة 1919، كتاب «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925 للشيخ «علي عبد الرازق»، وكتاب «في الأدب الجاهلي» لـ «طه حسين» عام 1926، ثم الجدل في البرلمان، حينما كان سعد رئيسًا له، حول الوقف الإسلامي ورغبة البعض في إلغائه. قضايا نعرض لها في مقال تالٍ بإذن الله تعالى.

المراجع
  1. محمد قطب، “واقعنا المعاصر”، القاهرة، دار الشروق، 1997، ص307.
  2. عبد الخالق محمد لاشين، “سعد زغلول: دوره في السياسة المصرية حتى سنة 1914م”، ج1، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص221.
  3. طه حسين، “مستقبل الثقافة في مصر”، القاهرة، مطبعة المعارف ومكتبة مصر، الطبعة الثانية، 1944، ص5.
  4. أحمد شفيق، “مذكراتي في نصف قرن”، ج 2، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013، ص 28، 213.
  5. محمد حسين، “الاتجاهات الوطنية في الأدب”، ج 1، القاهرة، مؤسسة الرسالة، 1956، ص 226.
  6. “مذكرات سعد زغلول”، ج 8، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص 168.
  7. يوميات “سعد زغلول”، 22 إبريل 1913.
  8. يوميات “سعد زغلول”، 23 إبريل 1913.
  9. يوميات “سعد زغلول”، 11 و13 مايو 1918.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.