انقلاب ميانمار. فبراير/ شباط 2021  كان من المفترض أن يشهد اليمين الدستورية لبرلمان ميانمار المُنتخب حديثًا، ليبدأ البرلمان والحكومة 5 سنوات جديدة من الحكم، لكن أتى الشهر ولم تحدث اليمين، بل شهدت البلاد انقلابًا عسكريًّا قام الجيش على إثره باحتجاز مستشارة الدولة أون سان سو تشي، القائدة العليا للبلاد، والرئيس «وين مينت».

بجانب الرئيس والمستشارة اعتقل الجيش العديد من المُشرعين وأعضاء حزب الرابطة الوطنية الديموقراطية، وبالطبع قطع الجيش شبكات الهواتف المحمولة والإنترنت. في ظل ذلك الصمت الإجباري الذي لا يخرقه سوى بيانات الجيش أعلن الجيش فرض حالة الطوارئ لمدة عام كامل.

كما سمَّى الجيش الجنرال السابق مينت سوي، نائب الرئيس والقائد العسكري السابق للعاصمة يانجون، رئيسًا للبلاد. وفي نفس الإعلان قال الجيش إن مينت سوي قد أحال كل السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية لقائد الجيش الأعلى مين أونج هلاينج، لمدة عام كامل، هى مدة حالة الطوارئ المزمع فرضها.

اللافت في انقلاب ميانمار أنه جرى تحت مظلة دستورية صحيحة تمامًا، فدستور ميانمار ينص بوضوح على جواز استلاء الجيش على السلطة كإجراء استباقي لوقف أي نشاط أو إجراء من شأنه تهديد الوحدة الوطنية أو تفكيك الاتحاد أو يُسبب فقدان سيادة الدولة.

وقد أعلن الجيش أن انقلابه هدفه ليس إلا الحفاظ على الديموقراطية بالتحقيق في ادعاءات التزوير التي شابت انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني، والتي فازت فيها  أون سان، وحزب الرابطة الديموقراطي، مكتسحين حزب التضامن والتنمية الاتحادي، والمحسوب صراحةً على الجيش.

الجيش لا يُحب الصبر

رغم أن الهدف المُعلن هو التحقيق في شبهات التزوير فإن الجيش لم ينتظر إجراء أي تحقيق وتكفَّل بإعلان النتيجة مباشرة معلنًا أن البلاد سوف تظل في قبضته طوال عام كامل، بعد العام سوف تجري انتخابات جديدة، يلي تلك الانتخابات تنازل الجيش عن السلطة.

بالطبع سيكون الجيش هو المشرف الأكبر على تلك الانتخابات، فكأنما يريد الجيش وقاداته الإطاحة بالحكومة القائمة فحسب. تلك الضغينة التي تفاقمت بين الطرفين ترجع إلى 10 سنوات ماضية، ففي عام 2010 بدأ الجيش نفسه إجراءات إصلاحية، وفتحوا المجال العام لانتخابات حرة أتت بحزب الرابطة الديموقراطية على رأس السلطة. كما أطلق سراح مئات المحتجزين، وسُمح للصحافة بالحديث في أي موضوع تريده.

الإصلاحات نالت استحسان العالم الغربي، فبدأت علاقات ميانمار بالتحسن مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول أوروبا. فرح قادة الجيش بتلك الخطوات، لكنهم في الوقت نفسه أرادوا الاحتفاظ بحقهم التقليدي في النقض، الفيتو، بكل ما يتعلق بالدستور. لكن اكتساح حزب الرابطة للانتخابات الأخيرة هدَّد تلك السلطات وفتح مجالًا لإمكانية تقليص سلطات الجيش أكثر فأكثر، لذا لم يرضَ الجيش بالانتظار والترقب واختار التدخل والعودة بشكل كامل للحكم العسكري.

يبرر الجيش انقلابه بسرد عيوب حركة الإصلاح التي بدأها هو نفسه منذ سنوات، مؤكدًا أن البلاد لم تتخلص من الانقسام العرقي والديني، كما يتجلى ذلك بوضوح في الاعتداء الوحشي للجيش على مسلمي الروهينجا. كما أن الاحتقان بين الجيش والمدنيين لا يزال على حاله منذ عام 1988، بعد ظهور أون سان كشخصية سياسية بارزة في مظاهرات ذلك العام المناهضة للحكم العسكري، وقمع الجيش تلك المظاهرات بالحديد والنار، ووضعت أون سان قيد الإقامة الجبرية، ولم تعد للمجال العام إلا في عام 2010 في حركة الإصلاح التي بدأها الجيش.

الانقلاب كحلم شخصي

كي لا تخدعك كلمة الإصلاحات، فعليك أن تعلم أن تلك الإصلاحات صاغ فيها الجيش بنودًا واضحة تضمن سيطرته للأبد على 3 وزارات نافذة، وربع مقاعد البرلمان، وهو العدد الذي يسمح له بالاعتراض على أي تعديل دستوري لا يرغب فيه الجيش، بجانب العديد من النصوص الأخرى التي تحمي الجيش ورجاله من أي مساءلة قانونية. كما نصَّت تلك الإصلاحات صراحةً على عدم السماح لأون سان بتولي منصب الرئيس بحكم زواجها سابقًا من مواطن أجنبي.

لكن رغم تلك البنود الواضحة استطاعت أون سان الوصول للجمهور والتأثير فيه حتى لو لم تتولَّ منصب الرئيس، وصاغ حزبها حزمة إصلاحات تهدف إلى تقليص أو إلغاء العديد من سلطات الجيش، لكن الجيش استخدم حق النقض، الفيتو، لتعطيل تلك الحزمة، ويبدو أن الجيش لم يكتفِ بمجرد تعطيل مشروع القانون، وأعدَّ العدَّة لاستئصال الحزب من جذوره.

أراد الجيش أن يضع خطته على مهل، لكن الهزيمة الساحقة في الانتخابات اضطرته إلى تنفيذ خطته مبكرًا بعد أن فاز حزب الرابطة بـ 83%، بينما حصل حزب الجيش على 7% فقط، خاصة أن الهزيمة كانت في مناطق اعتاد الجيش على الفوز بها.

وربما هناك دافع شخصي للانقلاب، رغبة هلاينج، الحاكم الفعلي حاليًّا، في الرئاسة. هلاينج كان من المفترض أن يُحال للمعاش الإلزامي في الشهور القادمة، ولم يكن أمام هلاينج شديد التعلق بالسلطة أي سبيل دستوري أو قانوني يستطيع عبره الوصول لرئاسة ميانمار. خاصة وهو على القائمة السوداء غربيًّا بسبب ضلوعه في الإبادة العرقية التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا، لذا فليس لدى هلاينج ما يخسره أكثر مما خسر بالفعل، وأي عقوبات غربية لن تزيد شيئًا إضافيًّا عليه. كما أن الولايات المتحدة ستتروى قبل أن تتخذ موقفًا حادًّا من الانقلاب خشية أن تتقرب ميانمار من الصين، عدو أمريكا اللدود.

المسلمون دائمًا خاسرون

أما مسلمو الروهينجا أنفسهم، الذين يذوقون الويل من الطرفين، فزادت مخاوفهم بسبب الانقلاب، خوفًا لا يعني أن أون سان تحميهم، بل خوفًا من امتداد الإبادة إلى مستويات أكثر بشاعة. كين ماونج، رئيس رابطة شباب الروهينجا في مخيمات إقليم كوكس بازار المتاخم لميانمار، صرَّح قائلًا: قتلنا الجيش، واغتصب أخواتنا وأمهاتنا، وأحرق قرانا، فكيف يمكن أن نكون آمنين تحت سيطرته؟ الانقلاب يضع حياة 600 ألف مسلم في خطر، بجانب 120 ألف مسلم محبوسين بالفعل في مخيَّمات الاعتقال التي يشرف عليها الجيش، والتي تُعتبر الأوضاع الحياتية فيها معدومة من الأصل.

يُذكر أن 745 ألف لاجئ من الروهينجا في ميانمار قد فرَّوا إلى بنجلاديش منذ عام 2017، مما رفع إجمالي عدد اللاجئين الروهينجا في بنجلاديش إلى أكثر من 913 ألف لاجئ. لكن تبدو تلك المخاوف غير منطقية إذا أدركنا أن جيش ميانمار هو دولة داخل الدولة منذ استقلال البلاد عام 1948، وأن الجيش هو الحاكم الفعلي للبلاد حتى في الفترات القليلة التي لم يكن فيها الجيش رسميًّا في السلطة. ومنذ سنوات وهلاينج يؤكد أن جيش ميانمار، أو بورما سابقًا، التاتماداو، مهمته الدفاع عن الدولة والديانة البوذية والعادات والتقاليد والثقافة البوذية.

ما يعني أن جيش ميانمار لا يضع نفس فوق الدولة ولا تحتها، بل يضع نفسه موازيًا لها، ومؤسسة ندية وظيفتها الدفاع عن الأمة بمفهومها الأكبر. لهذا يزيد الجيش من أعداد جنوده بشكل مطرد سنويًّا، بعد أن كان الجيش مكونًا من 3 آلاف فرد فقط حين حصلت البلاد على استقلالها، فقد أصبحت قوة متطورة تمتلك فرقاطات صينية وطائرة مقاتلة روسية وأنظمة دفاع جوي حديثة ومدفعية ثقيلة، وتحتل الترتيب رقم 38 عالميًّا.

ويحرص قادة الجيش أن يكون الجنود المنضمون لهم عنصريين يكرهون الروهينجا، وغالبًا يكونون من البروماويين البوذيين، والبوذيون يمثلون 68% من تعداد سكان ميانمار البالغ إجمالًا 52 مليون فرد، منهم 21 مليون مواطن في الخدمة العسكرية.

أون سان:صاحبة نوبل والإبادة

لا أحد يستطيع التنبؤ بالغد الذي ينتظر ميانمار عامةً، ولا مسلمي الروهينجا خاصةً، خصوصًا أن البلاد بأكملها تقع حاليًّا تحت وطأة صمت ثقيل بسبب حجب مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وانستجرام وغيرها. لكن المتظاهرين يملئون الشوارع، ربما لا تصل أصواتهم للعالم الخارجي، لكن الأنباء تؤكد أنهم يملئون الشوارع تنديدًا بما حدث، ويطالبون بالإفراج عن أون سان.

 فرغم أن أون سان تجاهلت بشكل متعمد الإبادة التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا، ورفضت حتى وصفها بالإبادة أو التطهير العرقي، فإن شعبيتها بين الغالبية البورمية البوذية لا تزال كبيرة. وتُعرف بينهم باسم عنقاء بورما، وهى ابنة أونج سان المعروف شعبيًّا باسم بطل استقلال ميانمار، والذي اغتيل عام 1945. خضعت للإقامة الجبرية لأكثر من عشر سنوات، لم يُسمح لها برؤية ولديها أو زوجها الأكاديمي البريطاني مايكل أريس، الذي تُوفي عام 1999 إثر إصابته بالسرطان دون أن تتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليه.

لكنها أيضًا قد سُحبت منها بعض الجوائز الدولية التي حازت عليها بسبب إطالتها لأمد الانتهاكات في حق الروهينجا بعدم الحديث عنها. لكن جاء الانقلاب ليجلب لها التعاطف الدولي مرة أخرى، ويزيد من حجم الدعم الشعبي لها، ويبقى مسلمو الروهينجا ضحيةً في مرحلة ما قبل الانقلاب، ومرحلة الانقلاب، وسيظلون كذلك في المستقبل القريب، سواء استتب الأمر للجيش أو لم يستتب.