هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» الذي أنجزه فريق ساسة بوست لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010 و2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يُلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكل الوثائق متاحة للتصفح على الإنترنت.

المكان: مدينة لاهور الباكستانية، مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي.

الزمان: فبراير (شباط) 1974.

يجتمع رئيس الوزراء الباكستاني، ذو الفقار علي بوتو، مع ملك السعودية، فيصل آل سعود، وسط خطرٍ مُحدق يحيط بباكستان والسعودية، فقد خرجت باكستان للتو من حربٍ طاحنة مع الهند عام 1971، واختبرت عدوَّتها الهند قنبلتها النووية المسمَّاة بـ«بوذا المبتسم»، فقط بعد ثلاثة أشهر من المؤتمر.

أمَّا عن السعودية، فقد شاعت الأنباء عن امتلاك إسرائيل سلاحًا نوويًّا، ولم يكن من الممكن امتلاك السعودية سلاحًا نوويًا بعد توقيعها على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية عام 1968، وبما أنَّ باكستان لم توقِّع على المعاهدة؛ يعرض ذو الفقار أثناء اجتماعه مع فيصل أهمية امتلاك «العالم الإسلامي» سلاحًا نوويًا أمام امتلاك الهند وإسرائيل له، ويوافق فيصل على تمويل المشروع مقابل حماية باكستانية للسعودية، ويتكفَّل بتغطية التكاليف اللازمة في حال فرضت الولايات المتحدة عقوباتها على باكستان.

تمرُّ السنون، وتشتعل ثورة في إيران، ويثبِّت الخميني حكمه، لتتجه بوصلة السعودية نحوها مباشرةً. وفي أغسطس (آب) 2002، كشف مجلس المقاومة الوطني الإيراني مُخطَّطًا لمُنشأة ضخمة لتخصيب اليورانيوم شمال أصفهان، ليتحسَّس الحُكَّام السعوديون رقابهم ويبدؤوا لاحقًا مساعيهم الجادَّة لامتلاك سلاحٍ نوويٍّ.

في هذا التقرير، سنتعرَّف على قصة حلم امتلاك السعودية السلاح النووي، وسنطَّلع على جهود السعودية في واشنطن خلال العقد الماضي، واستئجارها شركات الضغط السياسي لتحقيق مرادها.

الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، والزعيم الليبي معمر القذافي، إلى جانبهما ذو الفقار بوتو رئيس وزراء باكستان، ومجيب الرحمن مؤسس بنجلاديش، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مؤتمر لاهور 1974 – مصدر الصورة.

عام 2011: عام المرارة: ثوراتٌ عربية وبداية اتفاق أمريكي مع إيران

مرَّ عام 2011 على المملكة السعودية كأنَّه قرن. ليس فقط بسبب تمدُّد موجة الربيع العربي في المنطقة وما حملته من شعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ إذ قبل أربعة أيام فقط من ثورة 25 يناير (كانون الثاني) في مصر، اجتمعت مجموعة الدول الخمسة الدائمة في الأمم المتحدة «P5+1» مع إيران في إسطنبول؛ لاستئناف محادثاتها بشأن مشروع إيران النووي، المحادثات التي انطلقت مع إدارة الرئيس الأمريكي أوباما في فبراير (شباط) 2009.

وفي يوم استئناف المحادثات مع إيران، وقَّع هاشم عبد الله يماني، رئيس مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، اتفاقية تعاون نووي سلمي مع فرنسا، تسمح بنقل «المعرفة» لبناء البرامج النووية السلمية، وكان الرئيس الفرنسي، نيكولاس ساركوزي، قد اقترح هذه الخطوة على الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز عام 2007، وأسِّست مدينة الملك عبد الله عام 2010 بهدف الإشراف على المشروع النووي السعودي.

كانت الجهود السعودية في بناء برنامجها النووي ما تزال في بداياتها، ولم يكن من الممكن تطوير برنامجها بهذه السهولة والسرعة، لتتجه السعودية نحو استراتيجية أخرى: التخريب على العدو. وفي مساعي الرياض لتعطيل الاتفاقية النووية الإيرانية؛ وقعت السفارة السعودية عقدًا مع الشركة الأمريكية «باتون بوجز- Patton Boggs» في فبراير 2011، لتقدم خدمات ضغط سياسي وإعلامية لتعطيل الاتفاقية.

تواصلت الشركة أثناء فترة التعاقد بشكل مكثف مع السيناتور الديمقراطي، بوب مينينديز، عضو لجنة العلاقات الخارجية، وكان مينينديز من أشد المعارضين للاتفاقية النووية الإيرانية، نظرًا إلى ولائه شبه المطلق لإسرائيل، وقدم السيناتور تعديلًا على قانون إقرار الدفاع الوطني، والذي عُرف بـ«Menendez-Kirk Amendment» الذي بموجبه تُفرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني، وتمنع أي مؤسسة مالية أمريكية من التعامل مع البنك المركزي. وتواصلت الشركة بموجب هذا التعديل مع أعضاء مجلس الشيوخ للضغط عليهم للموافقة عليه، واستمر الضغط حتى نهاية عام 2011.

ووفقًا لوثائق الشركة على موقع وزارة العدل الأمريكية التابع لقانون تسجيل الوكلاء الأجانب «فارا»؛ استمرت الشركة بالضغط لتمرير تعديل السيناتور مينينديز خلال عام 2012، وكانت الشركة تقدم تقارير للسعوديين عما يحصل في دوائر الساسة في ملف العقوبات والاتفاقية النووية. ووصلت المدفوعات للشركة منذ 2011 وحتى منتصف 2015 إلى مليون و92 ألف دولار أمريكي.

وفي هذه الفترة أيضًا وجَّهت السعودية معظم شركات الضغط المستأجرة لتضغط لتعطيل الاتفاقية الإيرانية، إلا أنَّ ملايين الدولارات التي دُفعت لم تحقِّق هدفها في نهاية المطاف؛ ففي أبريل (نيسان) 2015، أعلنت إيران والدول الخمسة التوصُّل للصيغة العامة للاتفاقية النووية، وانتهى عقد السعودية مع شركة «باتون بوجز» في يونيو (حزيران) 2015، بعد ما أصبح التوقيع على الاتفاقية مسألة وقت لا أكثر.

وفي عام 2013، صرَّح أموس يالدين، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، بأنَّه إذا امتلكت إيران سلاحًا نوويًّا فإنَّ السعودية «لن تصبر شهرًا واحدًا؛ فقد مولت سلاحها النووي مسبقًا وسيلزم الأمر فقط عملية إحضاره من باكستان». ومنذ عام 2009 حذَّر الملك عبد الله آل سعود من أن امتلاك إيران للسلاح النووي يعني امتلاك السعودية لسلاحها فورًا.

لم تكن جهود السعودية في واشنطن أثناء هذه السنوات مقتصرة فقط على تعطيل الاتفاق النووي، بل سعت لتأسيس وتطوير برنامجها النووي الخاص، ففي يوليو (تموز) 2011 سجَّلت مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة عقدًا مع شركة المحاماة «بيلسبري وينثروب شو بيتمان- Pillsbury Winthrop Shaw Pittman»، ووقع على العقد الدكتور وليد بن حسين أبو الفرج، نائب رئيس مدينة الملك عبد الله، وقدمت شركة «بيلسبري» خدمات استشارية قانونية لعقد اتفاق نووي سلمي مع الولايات المتحدة بموجب «المادة 123» من قانون الطاقة الذرية لعام 1954، القانون الذي يلزم الدول الموقعة على الاتفاقية الالتزام بالمبادئ والمعايير الأمريكية لتطوير برامجها النووية السلمية، وتلزم هذه الدول بالتخلِّي عن حقها في تحويل قدراتها النووية لسلاح، أو استعمالها أي غاية غير سلمية، ما له أثر مباشر في سيادة هذه الدول على استخدامها قدراتها ومنشآتها النووية.

وقدمت شركة «بيلسبري» برنامجًا تدريبيًّا لمجموعة من السعوديين في المجال القانوني، والمسائل القانونية المتعلقة بالطاقة النووية، وانتهى العقد في 23 يناير 2015، في يوم مبايعة الملك سلمان على العرش السعودي، وبلغت المدفوعات للشركة 13 مليونًا و981 ألف دولار بين 2011- 2015، ولم تذكر أي أنشطة ضغط سياسي في ملفات الشركة خلال سنوات التعاقد، وقد يعني هذا أن أنشطتها اقتصرت على العمل القانوني.

بعد شهرين تمامًا من انتهاء العقد الأول مع بيلسبري، سجَّلت السعودية عقدًا آخر مع الشركة في مارس (آذار) 2015، ولكن هذه المرة بواسطة سفارتها في واشنطن، على أن تُقدِّم هذه المرة خدمات قانونية وسياسية.

بدأت الشركة ضغطها ضد الاتفاق النووي الإيراني، وتواصلت بشكلٍ خاص مع الشيخين الديمقراطيين، إدوارد ماركي، وبن كاردين. وللسيناتور ماركي تصريحاتٍ عارض فيها المطامح السعودية النووية، وأشار فيها إلى أن رغبة السعودية بامتلاك الطاقة النووية السلمية هدفه تطوير سلاحٍ نووي، وحاولت الشركة تنسيق زيارات للشيخين للسعودية.

من وثائق شركة «بيلسبري» العاملة لصالح اللوبي السعودي، ويظهر عملها على تنسيق زيارات لمجموعة شيوخ في الكونجرس الأمريكي. المصدر: موقع وزارة العدل الأمريكية.

كما أنّ السيناتور ماركي عضو في لجنة العلاقات الخارجية، وعضو في اللجنة الفرعية فيها لشؤون الطاقة والسياسات البيئية، وعضو في لجنة فرعية عن نقاء الجو والأمن النووي التابعة للجنة الأشغال العامة، وهو رئيس لمنتدى «برلمانيون لمنع الانتشار النووي ونزع السلاح» الذي يهدف ويسعى إلى نزع السلاح النووي، ومن أهم الأصوات في الكونجرس التي تعمل في قوانين لتقليل الموازنات الخاصة بتطوير السلاح النووي وتوجيه هذه الأموال لقطاعات مثل التعليم أو ملف التغيُّر المناخي، ويُعرف ماركي بأنَّه من أشد الناقدين للتدخُّل السعودي في اليمن ومساعدة أمريكا العسكرية والاستخباراتية للسعودية في حربها هناك.

واستمر هذا التعاقد مع «بيلسبري» لمدة سنة واحدة، وانتهى في مارس (آذار) 2016، ودفعت السفارة السعودية مقابل خدماتها 142 ألف دولار.

اطلبوا النووي ولو في الصين!

انشغلت السعودية بعد عام 2016 في عدة ملفات، فقد كانت حرب اليمن على أشدها، وفي البيت الأبيض دونالد ترامب، رئيس جديد وغير متوقع، وانطلقت معركة تطهير داخل بيت آل سعود التي شغلت الملك سلمان ونجله محمد. وبعد ضمانة ولاية العهد لابن سلمان بإقصاء ابن عمّه محمد بن نايف، عاد ملف البرنامج النووي ليتصدر أجندة السعودية مرة أخرى.

وصرَّح ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عام 2018 بما سبق ووعد به الملك السعودي السابق عبد الله: إذا امتلكت إيران قنبلةً نووية، فبالتأكيد ستسعى السعودية لامتلاك واحدة فورًا.

وفي فترة التصريح نفسها، سجَّلت السعودية عِدَّة عقود ضغط سياسي، ولكن هذه المرة عن طريق وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية السعودية. وقد سجَّلت وزارة الطاقة عقدًا آخر مع شركة «بيلسبري» في فبراير 2018، وذُكر في وثيقة العقد اسم «ديفيد كولتجين»، وهو محامٍ أمريكي سنأتي على ذكره.

اجتمعت الشركة مع موظَّفين من وزارة الطاقة، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي لنقاش المادة 123 التي تمنع تحويل الطاقة النووية السلمية لسلاح نووي، إضافة للاجتماع مع النائبين الديمقراطيين، جريجوري ميكس، وألجي هاستينجز.

وبعد ثلاثة أيام من تصريح ابن سلمان، عقدت اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس النواب جلسة استماع؛ لدراسة تداعيات التعاون النووي بين الولايات المتحدة والسعودية في الشرق الأوسط، والنائب جريجوري ميكس هو أحد أعضاء هذه اللجنة. وذكر في تقرير الجلسة أن هنالك خطرًا من امتلاك السعودية لبرنامج نووي مع وجود إصرار سعودي لتخصيب اليورانيوم.

وجُدد العقد مع شركة «بيلسبري» في يناير 2019، وفيه أسماء لأفراد ممثلين عن الحكومة السعودية، منهم محمد القروان، مدير مكتب الرقابة للمشروع الوطني للطاقة الذرية، ومحمد الشبرمي، مستشار قانوني.

وسجَّلت وزارة الطاقة أيضًا عقدًا في فبراير 2018 مع شركة «كينج آند سبالدينج- King & Spalding» لتقدِّم خدمات قانونية فيما يتعلق بالبرنامج النووي السعودي، ولم تذكر الشركة أي أنشطة أو مدفوعات في وثائقها، ولكن ذكر في العقد أنَّ الوزارة ستدفع 450 ألف دولار مقابل خدمات الشركة لمدة 30 يومًا.

وفي مارس من العام نفسه سجَّلت الوزارة عقدًا آخر مع شركة «جولينج دبليو إل إف- Gowling WLF» مقابل خدمات قانونية، واستمر العقد لمدة عام وبلغت المدفوعات 16 ألف دولار.

وفي فبراير 2018، سجَّلت وزارة الطاقة عقدًا آخر مع مكتب محاماة «ديفيد كولتجين- David B. Kultgen»، الصديق الوفي للأموال السعودية، فقد بدأ كولتجين مشواره في «أرامكو» السعودية عام 1973، وعُيِّن في إدارة الشؤون القانونية لشركة «أرامكو» في الولايات المتحدة إلى عام 1989، بعدها عاد إلى السعودية ليشغل منصب مستشار قانوني وتدرج حتى أصبح المستشار القانوني (General Counsel) لشركة «أرامكو» السعودية من عام 2010 إلى 2016. وبعد تقاعده عاد كولتجين إلى ولايته تكساس، وأسس مكتبًا للمحاماة، وقدم من خلال هذا المكتب خدماته للسعودية، ونشر عام 2014 ورقةً عن التاريخ والتحديات القانونية لشركة «أرامكو» منذ نشأتها.

ويقدم «كولتجين» للسعودية خدمات استشارية قانونية لبرنامجها النووي مع الولايات المتحدة، وبلغت المدفوعات لـ«كولتجين» منذ بداية العقد 682 ألف دولار، العقد الذي ما زال مستمرًّا حتى اليوم.

لقطة من حفلة وداعية لديفيد كولتجين بعد 40 عامًا من العمل مع شركة «أرامكو»  السعودية. مصدر الصورة

واجهت الحملة السعودية لعقد اتفاقية نووية رفضًا من بعض أعضاء الكونجرس، فقد قَدَّمَ النائب الديمقراطي، براد شيرمان، مشروع قانون برعاية 12 نائبًا، منهم ألجي هاستينجز، الذي تواصل السعوديون معه سابقًا لدعم الاتفاقية. وباختصار، يطالب القانون بإشرافٍ مباشر من الكونجرس قبل دخول الولايات المتحدة في أي اتفاق نووي سلمي مع السعودية.

وبدأت المفاوضات على شروط بناء برنامج نووي مدني من الأيام الأولى لإدارة ترامب، ولكنَّ السعودية لم توافق على الشروط الملزمة من قبل الطرف الأمريكي، التي تضمن التزام السعودية بعدم بناء قدرات تمكنها من إنتاج الوقود النووي، والذي سيمكِّنها بعد ذلك من إنتاج القنابل، وعليه توقفت المحادثات العام الماضي.

وفي مارس عام 2019  نشر موقع «رويترز» عن موافقات أعطاها وزير الطاقة الأمريكية، ريك بيري، لست شركات لبيع تكنولوجيا الطاقة النووية لمساعدة السعودية، باتفاق مع إدارة ترامب، وكان السيناتور ماركي من أشد المعارضين لأيِّ تعاون نووي مع السعودية، خاصةً بعد اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي.

ويبدو أنَّ السعودية لا تعتمد في مساعيها النووية فقط على الولايات المتحدة، فقد ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن الاستخبارات الأمريكية تعمل على تحقيق حول جهود السعودية لإنتاج الوقود النووي بالتعاون مع الصين، كاشفةً عن موقع مُشتبهٍ به في بلدة العيينة في السعودية، توجد فيه منشأة نووية. وبحسب التقرير، شُيدت المنشأة بين أعوام 2013 و2018 بمساعدة صينية. ولدى الاستخبارات تخوفٌ من وجود جهود بين الطرفين لمعالجة اليورانيوم لتخصيبه.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.