في أواخر عام 2016، كان فريق ليفربول يواجه نظيره ساندرلاند في مباراة بدت أنها ستنتهي بالتعادل السلبي. استنزفت كتيبة «يورجن كلوب – Jürgen Klopp» كثيرًا من المحاولات الهجومية دون إحراز هدف التقدم، وهو ما وضع لاعبي الريدز تحت ضغط كبير دفع قائد الفريق «جوردان هيندرسون» لإرسال تمريرة خاطئة بشكل غريب، وعندها أطلق بعض جمهور ليفربول صافرات الاستهجان اعتراضًا على ما فعله قائد ليفربول.

لم يمر سوى بضع ثوانِ، وكان وجه كلوب تحول لقطعة من اللهب، وقد ترك مجلسه وتحرك مندفعًا بغضب شديد يواجه تلك الجماهير التي توبخ لاعبيه في وقت حرج من عمر المباراة، حيث أظهرت كاميرا الملعب المدرب الألماني وهو يصرخ في الحضور لأجل مساندة لاعبيه والإيمان بحظوظهم بدلًا من تشتيت أفكارهم. 7 دقائق أخرى وكان النورمال وان يحتفل بهدف فريقه الأول!

جمهور بورسيا دورتموند يعرفون جيدًا أن ذلك المشهد ليس غريبًا على كلوب، بل هو أقرب ليكون نمط عمل امتاز به الأخير داخل بلاده وخارجها. فنادرًا ما يجلس «يورجن كلوب» هادئًا على مقاعد البدلاء، بل يطغى حضوره دومًا على المشهد بردود أفعال صاخبة على أهداف فريقه، وأخرى غاضبة حين يستقبل فريقه هدفًا مضادًا.

وبسبب الحضور الطاغي لكلوب، لم يلتفت كثيرون لمساعده الأبرز «زيليكو بوفاتش – Zeljko Buvac» بالرغم من العلاقة الطويلة التي تجمع الثنائي عبر ما يفوق العشرين عامًا. وذلك لأن زيليكو، بخلاف كلوب، شخص هادئ للغاية، لا يفارق الدكة أغلب الوقت، لا يظهر بلقاءات صحفية، ولا يتفاعل مع هتافات الجمهور، وبالطبع لا يعترض على التحكيم.

لكن الرجل الثاني خالف ما هو معروف عنه مساء 29 إبريل، وفجر مفاجأة كبرى لم تكن على بال أحد، عندما أعلن عبر تويتر انفصاله عن الإدارة الفنية للنادي الإنجليزي حتى نهاية الموسم، ورحيله عن المقعد المجاور لرفيق عمره كلوب دون إبداء أسباب واضحة.

أثار هذا الإعلان المفاجئ جدلًا واسعًا، وتبارت كبرى وسائل الإعلام في تفسير أسباب استقالة زيليكو، خاصة أنها جاءت قبل صعود الريدز لنهائي دوري الأبطال والاقتراب من تحقيق حلم تاريخي. فلماذا أقدم الرجل الثاني على تلك الخطوة؟ هل بالفعل هي نتيجة لخلافات حادة مع كلوب، أم أنه يسعى لارتداء ثوب الرجل الأول في قلعة أخرى؟ أرسنال مثلًا؟


أول الحكاية: ماينز

زيليكو بوفاتش, مدرب ألماني, كرة القدم, كرة القدم العالمية, ماينز
المدرب الألماني يورجن كلوب وبدايته في ماينز مع مساعده زيليكو بوفاتش
هو أفضل صفقة حصلت عليها بمسيرتي.
«يورجن كلوب» متحدثًا عن مساعده «زيليكوبوفاتش».

كثيرًا ما سخر يورجن كلوب من مستواه السيئ عندما كان لاعبًا، حتى أنه لعب بأكثر من مركز في صفوف نادي ماينز دون علامة مميزة في أدائه، لكن هناك تكونت أفكاره التكتيكية وتراكمت خبراته، وقرر أنه سيتجه للتدريب عقب اعتزاله اللعب، كما قابل هناك للمرة الأولى زيليكو بوفاتش!

انضم صانع الألعاب البوسني زيليكو لصفوف ماينز عام 1992. تعرف إلى يورجن، وتكونت بينهما صداقة تحولت مع الوقت لاشتراك في الرؤية حول اللعبة والتكتيك، وعقد الثنائي اتفاقًا ضمنيًا بتشكيل طاقم تدريبي سويًا يشغل فيه أحدهم منصب المدير الفني ويتولى الآخر مساعدته. رحل بوفاتش عن صفوف ماينز في 95، واستمر كلوب يدافع عن ألوان النادي الألماني، وبقي الاتفاق بينهما ساريًا.

عام 2001، قررت إدارة نادي ماينز، الذي كان يقبع حينها بالدرجات الدنيا، إسناد المهام الفنية ليورجن كلوب قائد الفريق الذي اعتزل للتو وأبدى استعداده لتولي المهمة الجديدة. لم ينسَ كلوب صديقه زيليكو، فكان أول ما فعله هو استدعاء رفيق رحلته التي كانت على وشك البدء. وصل بوفاتش من البوسنة متحمسًا، ليجد أن يورجن يفوقه حماسًا ونشاطًا وتغمره رغبة في تحقيق الهدف المجنون الذي حدده بنفسه: الصعود بماينز للبوندزليجا في أسرع وقت ممكن!

بالطبع كان ذلك الهدف مجنونًا، حيث إن ماينز كان يمتلك إحدى أقل الميزانيات وأضعف الإمكانيات وأصغر الملاعب بين كل المتنافسين على الصعود للدرجة الأولى، لكن الثنائي الذي اكتسب ثقة ومحبة استثنائية من فريقه، وأدخل تعديلات فنية كثيرة على الأداء، وقام بتغيير نمط التدريبات، تمكن من مطاردة هذا الهدف مبكرًا للغاية.

كان ماينز على وشك الصعود بالموسم الأول لكلوب رفقة زيليكو لكنهما فشلا، ثم كررا الأمر ثانية في الموسم التالي، قبل أن يتحقق لهما النجاح المستحق بالعام الثالث، ويتحول النادي الصغير منذ ذلك الوقت لقوة تنمو تدريجيًا بالبوندزليجا.

في 23 مايو/أيار عام 2008، كان كلوب يقف إلى جوار زيليكو بملعب ماينز في لحظة عاطفية جدًا، انهمر البوسني في البكاء، بينما فشل كلوب في الإمساك ببعض دموعه وهما يودعان ماينز في حضور 20 ألف من جمهور النادي، أتوا جميعًا لشكر يورجن ورفيقه على تلك المسيرة الحافلة، المسيرة التي بدأت بحلم الصعود للدرجة الأولى، وانتهت بماينز وهو يحظى بمركز أوروبي، ويمتلك ميزانية أضخم وملعبًا أكبر وقاعدة ناشئين تُطمئن.


التوأم يغزو العالم

تصريح سابق للاعب «نوري شاهين».

بعد أمسية وداع ماينز، اتجه الرجلان صوب دورتموند لأجل مغامرة شيقة جديدة. كانا حينها يمتلكان خبرة وثقة وأدوات أكثر من ذي قبل، وقد انضم لجهازهما التدريبي هناك عنصر ثالث كمساعد إضافي هو «بيتر كراويتز»، والتقيا في بروسيا كذلك بـ«سفين ميسلنتات» الذي شغل منصب كبير كشافي النادي الألماني، لتبدأ من لحظة تكوين هذا الفريق الرباعي ثورة استهدفت عرش البوندزليجا؛ صحيح أن دورتموند كان يقبع بمراكز وسط الجدول، لكن طموحات كلوب وبوفاتش كانت تناطح السحاب.

بمرور الوقت، برز أسلوب اللعب الذي ابتكره الرجلان في ماينز وتميزا به في دورتموند والمعروف بالـ«gegen pressing»، الأسلوب الذي يعتمد على الضغط العالي ومحاصرة الخصم بوسط ملعبه والاستعانة بالارتداد الهجومي الخاطف، كما تمكنا معًا من تطوير أداء حفنة من أبرز لاعبي تلك الفترة كـ«هوميلز، محمد زيدان، نوري شاهين، كاجاوا، ليفاندوفسكي، جوتزة، رويس» وآخرين، حتى بات عمل الثنائي مع اللاعبين على الصعيد النفسي والفني ميزة كبرى لكلوب وبوفاتش.

حققا المركز السادس مع الفريق الأصفر بموسمهما الأول، ثم نجحا في ضمان مقعد أوروبي بالموسم الثاني، أما في الثالث فكانا قد أبهرا العالم بصدارة البوندزليجا والفوز بها قبل جولتين من النهاية، لكن في موسم 2011/2012 كانا على موعد تاريخي أكبر عندما أضافا الكأس الألمانية إلى جوار بوندزليجا جديدة لخزائن دورتموند في أول ثنائية محلية يفوز بها أسود فيستفاليا!

يقول كلوب إنه بدون بوفاتش وبيتر لا يساوي شيئًا، فيما يرد الثنائي الأخير بأنهما مجرد مساعدين جيدين لقائد كبير، ويرى الإعلام الألماني بأن كلوب يبني كاريزما وشخصية الفريق، فيما يلعب بوفاتش دور العقل الذي يحسب تحركات لاعبيه ويحلل أداء الخصوم، بينما بيتر هو العين التي تلاحظ واليد التي تدون ما يحدث على أرضية الملعب.

لكن التعبير الذي صاغه لاعب الوسط نوري شاهين للتعبير عن علاقة الثنائي يبدو معبرًا أكثر، الثنائي كان على درجة استثنائية من التفاهم والتعاون، هما يمتلكان رؤية واحدة ويشتركان في المزايا والعيوب، غير أن كل واحد منهما يقوم بوظيفة مختلفة من أجل تحقيق أهداف معينة تخدم الرؤية المشتركة. تذكر أن الأشقاء قد يمتهنون وظائف ويلعبون أدوارًا مختلفة، لكنهم يظلون أشقاء، أو ربما توأم!


قبل خط النهاية

كنت أعتقد أن كلوب وبوفاتش توأم! فالرجلان يملكان نظرة متطابقة عن كرة القدم.
أتمنى التوفيق لليفربول، حان وقت بداية فصل جديد.

هذا هو نص التغريدة التي أطلقها بوفاتش عبر تويتر مساء 29 إبريل/نيسان دون أي سابق إنذار، وبلا أي مقدمات أعلن البوسني رحيله عن النادي الإنجليزي حتى نهاية الموسم. الغريب أن الرجل لم يوضح أي أسباب قادته لهذا القرار واحتفظ ليفربول بمنصبه دون تعيين أحد، وجاءت أيضًا تصريحات كلوب عن الأمر متحفظة، لكن الأغرب أن الإعلان أكد على رحيل زيليكو حتى نهاية الموسم فقط وهو ما يفتح الباب أمام عودته مرة أخرى الموسم القادم!

يُعد توقيت الرحيل أيضًا علامة استفهام كبيرة. فليفربول أمام خيارات حادة في المتبقي من الموسم، قد يتمكن الفريق من تحقيق المفاجأة الكبرى ويوقف قطار الميرنجي بنهائي دوري الأبطال ويتحول هذا العام لموسم تاريخي سواء للريدز أو للثنائي، كما قد يخسر كل شيء سواء بالإخفاق في النهائي أو في تأمين مقعد مؤهل للتشامبيونزليج بعد الخسارة الأخيرة من تشيلسي، والشاهد أن الفريق أمام ظروف لم تكن تقتضي سوى مزيد من التكاتف في الملعب وعلى الدكة.

زيليكو بوفاتش, كرة القدم العالمية, رسوم
البوسني زيليكو بوفاتش.

لهذه الظروف الصعبة، لا يمكن إرجاع أمر رحيل زيليكو المفاجئ إلا لسبب كبير جدًا، موقع جول أعلن مبكرًا للغاية أن ثمة خلافات كبيرة على الأدوار بينه وبين كلوب، بينما أشار الجارديان أن بوفاتش طلب الرحيل لأنه يمر بفترة من التخبط والإرهاق الذهني وخاف أن يؤثر ذلك على الفريق، لكن الصحفي المؤسس بموقع «anfieldhq» والمقرب من جهاز ليفربول التدريبي «أوليفر بوند» فجر مفاجأة لا تقل عن خبر الرحيل نفسه!

كشف بوند عبر تويتر أن اسم بوفاتش مطروح على مائدة أرسنال لخلافة الفرنسي «أرسين فينجر»، ويحظى بدعم ميسلنتات صديقه القديم في دورتموند الذي يتولى نفس المهمة في أرسنال، كلوب على الجانب الآخر طلب من زيليكو البقاء كمساعد وتأجيل فكرة الرحيل لوقت لاحق، وبين الخيارين استبد الضغط بالمدرب البوسني فآثر الرحيل عن قلعة ليفربول ولو بشكل مؤقت!

لاحقًا أشارت صحف الصن والمترو أن نادي اينتراخت فرانكفورت الألماني هو الآخر مهتم بالحصول على خدمات بوفاتش بداية من الموسم القادم. أغلب الظن أن زيليكو فضل الرحيل لأجل خوض تجربة جديدة يكون فيها هو البطل وليس المساعد، البوسني يرى أنه يحظى بالإمكانيات الكافية لتولي منصب المدير الفني في مكان آخر، ولهذا فقد ضحى بفرصة تحقيق المجد الأوروبي مع ليفربول هذا الموسم.

يصعب أن نصدق أن الخلافات بين البوسني والألماني كانت السبب خلف رحيل الأول، فعلاقة الرجلين وما مرا به عبر سنوات طويلة، بالإضافة لطبيعة كلوب وزيليكو وما جاء على لسان الثنائي كل هذا لا يقودنا أبدًا لهذا الاستنتاج.

الأسابيع القادمة ستكون كاشفة جدًا، كلوب سيكون أمام اختبار صعب للغاية بعد خسارة ساعده الأيمن وسيواجه الضغط في الدوري والتشامبيونزليج وحيدًا، وبوفاتش هو الآخر سيكون أمام طريق وعر في إثبات ذاته والخروج من عباءة الرجل الثاني؛ الشيء المؤسف الوحيد لكل من تأثر وأُعجِب بنجاح الثنائي أن فرص نجاح كلوب وحيدًا وبوفاتش وحيدًا تبدو أقل من وجودهما سويًا.