هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمَّنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًّا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أُفرِّق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مُكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

حزن العينين

انتهت انتخابات مجلس الشعب من زمان، ولم يتبقَّ من ذلك الصخب واللافتات المعلقة التي تهتز مع نسمات الهواء في منتصف شارع الحلو، غير بعض صور «سهير المغربي» على جدران البيوت وفي مداخل الشوارع والحارات. بمرور الوقت تراكمت عليها الأتربة والوسخ وتمزقت أجزاء منها، ولم يعد معروفًا لمن هذه الصور، وانتهت حياتها العادية بسبب رغبتها الجامحة في الترشح للانتخابات. شقتها مُغلقة النوافذ، تراكم عليها التراب، والقصاري على سياج الشرفة نشف الزرع فيها.

ذات مساء في مدخل شارع صدقي لفت نظر شاب صورة من صور الانتخابات، مُعلقة على حائط بيت قديم. كان الشاب في طريقه لزيارة جدته بعد أن رجع من سفر إلى المدينة لعدة أيام. الصورة مقطوع جزؤها الأسفل وبقي منها الجزء العلوي؛ الجبهة العريضة، والحواجب المستقيمة وشعيرات ناعمة نافرة من تحت طرحة الحجاب، وعينان لوزيتان واسعتان تفيضان بالبريق. عرف على الفور أنها صورة «سهير المغربي»، التي كانت تسكن البيت المقابل لبيت عائلته قبل أن يترك المدينة.

ما لفت نظره وجعله يتوقف على الرصيف المقابل، أمام نصف الصورة، أن حزن العينين يخالف تصوره عن وجه «سهير المغربي» الجميل المشرق ومرحها، وخامره الشك في أن تكون تلك الصورة هي صورتها. كان يعرفها ويعرف الخلافات التي دبت بينها وبين زوجها بسبب ترشحها في الانتخابات، والتي أدت إلى أن يتقوض البيت، وترحل لتسكن في بيت أهلها وزوجها يسافر ليعمل في البحر الأحمر.

قام بزيارة جدته، وعندما رجع كانت الشمس تغرب، وتملأ نهر شارع صدقي وتلمع على الأسفلت. توقف مرة أخرى أمام نصف الوجه وبدأ يشعر برغبة في التأكد من أن هاتين العينين تخصان وجه سهير، لأن الفوارق لا تُصدَّق؛ من الصعب أن ينطبق تعبير العينين في الصورة المقطوعة على تصوره عن «سهير المغربي» بكل جمالها وصخبها وطموحها.

مشى شاردًا في شارع الحلو ثم عاد مرة أخرى يتطلع إلى الصورة. فكَّر أن حزن العينين ربما قد ظهر عندما فُصل نصف الوجه الأسفل، فأصبحت العينان مركز التعبير، مثل عيون المُنتقبات، تركز ملامح الوجه في نظرة العينين، وتفقد الكثير من حضورها عندما ينكشف غطاء الوجه، كأن ملامح الوجه وجماع الشخصية يظهر بقوة في تعبير العينين عندما تُحجب باقي الملامح.

في شارع حسن رضوان بجانب مدخل عمارة قديمة وجد صورة كاملة. تغاضى عن وقفته على الرصيف شاردًا وراح يتأمل الصورة. تأكد أن العينين تخصان وجه سهير، لكن ذلك دعاه أن يختبر الفكرة، مندهشًا أن يكون خياله قد أضفى أحزانًا متخيلة لعيني المرأة الجميلة. راح يتأمل الوجه بدقة ويفكر أن الأحزان هنا مُخفَّفه بسبب جمال الملامح والابتسامة المشرقة، التي تُظهِر بروز الخدين، وعندما تمكَّن – عن طريق الخيال – من عزل نصف الوجه بدا له أن العينين لا تحملان نفس الأحزان العميقة التي ظهرت في صورة شارع صدقي. عندها خشي أن تكون الأوهام قد تلبَّسته؛ فجمال الوجه ظل باقيًا في ذهنه يؤثر على تعبير العينين ويخففه. شعر بشيء من الاضطراب ووقع تحت نفس الوساوس القديمة التي كان يبعثها وجودها عندما يرى إشراقة الوجه ويقف ليتحدث معها قليلًا على الناصية قبل أن تدخل بيتها. وقتها كان يتعجب من أين يأتي الجمال الذي يشعه الوجه؟

اقترب من الصورة ومدَّ يده ومزق نصفها السفلي. تراجع لينظر إلى بقية الوجه. الآن ظهر الحزن في العينين جليًّا واستعادت «سهير المغربي» صورة مخالفة لما ترسَّب في قلب الشاب سنوات طويلة. عيناها يشع منهما حزن عميق، كان مختبئًا تحت ملامح الوجه والإشراقة التي تظهر بها والمرح الذي قضت به أيامها. كان الحزن يفط من عينيها ويُوجع بقسوة قلب المحب القديم.

انتظار

ترقد على الفراش في الغرفة الداخلية، منتظرة أن تسمع صوت مفتاح الباب. تترك لها «سهام» ابنتها «القصرية» بجانبها وتعاني كلما أرادت أن تفرغ ماء المثانة، وفي الليل تعاني حتى تفرغ ما في الأمعاء من بقايا الطعام.

أخيرًا سمعت صوت المفتاح، وصوت مفصلات الباب، وهبت نسمة خفيفة حرَّكت ستائر الغرفة.

– صباح الخير يا ماما.

قالت «سهام» وألقت حرامها الأسود الذي تطرحه على ظهرها في أيام البرد، على ظهر الكرسي، بجانب الباب، وعبرت الصالة إلى الحمام.

ارتجفت الثلاجة وفصلت وكف الطنين الموتر.

قالت الأم:

– الثلاجة فصلت ثلاث عشرة مرة منذ الفجر.

قالت «سهام» وهي تمسح يدها بالفوطة عند باب الحمام:

– بتعدي فصل الثلاجة؟

قالت الأم:

– فيه حد ضرب جرس الباب الساعة سبعة وثلاث دقائق.

– وطبعًا افتكرتي أنه جاء ليطمئن عليك.

قالت الأم:

– أيوه، وبعدين افتكرت أن معه مفتاح.

أخذت سهام «القصرية» وأفرغتها في الحمام وشطَّفتها، وحملت أمها ووضعتها فوقها، ثم غسلت لها وجهها، ومسحت تحت إبطها بالكولونيا، وجهزت الزبادي والعسل.

في النور الضعيف لغرفة النوم كانت تأكل في صمت، ثم قالت:

– أكيد عنده ظروف.

قالت سهام:

– فعلًا عنده ظروف. سامحيه، سامحيه.

أحضرت علب الدواء وبدأت تحسب الأقراص وتضعها في كفها، وراحت الأم تأخذ حبة حبة تضعها في فمها وتشرب بعدها جرعة ماء، حتى أنهت دواء اليوم. رقدت على الفراش وغطَّتها سهام:

– ماما لازم ألحق الشغل، عندي تفتيش.

وقبل أن تعبر من باب الغرفة قالت:

– خلِّي التليفون جنبك.

قالت «سهام» لنفسها وهي تغلق الباب: كيف تتحمل الليل وحدها؟ وكيف يتحمل هو النوم بعيدًا عنها؟ لا قلب له، ثم راجعت نفسها، لكنني أيضًا أنام في وسط أولادي وأنام مع زوجي، يعني لا قلب لي مثله. شعرت بعبء ثقيل ورغبت في البكاء، متخيلة أنها في يوم من الأيام يمكن أن ترقد نفس رقدة أمها، ولا تضمن أن يعتني بها أحد، لكن الخاطر تلاشى بسرعة، ونزلت السلم متعجلة، يجب أن ترتب الملفات لأن عندها تفتيشًا.

سوف تكتمل القصة في يوم ما

سافر إلى الكويت في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ليعمل مهندس بترول، وترك في مدينة قصة حب، ظن أن فصولها لم تكتمل. هناك فصل ناقص سوف يكتمل في يوم ما. سافر إلى بلاد كثيرة ليتعاقد مع الشركات ويتفق على معدات الحفر والتنقيب، وظلت «جيهان» حبه الذي لا يموت، أما هي فتزوجت من تاجر سيارات وعملت مدرسة في مدرسة البنات.

بعد ثلاثة أعوام عاد إلى المدينة، قابلها صدفة في بيت أخته (صديقة الطفولة) قالت غاضبة:

– سفرك هو السبب، لو كنت موجودًا لتحملت ضغط أبي الذي ظل يحاصرني مُصرًّا على أنه عريس لا يمكن رفضه.

سافر مرة أخرى يشعر بالغدر، ورغم ذلك لم يكف عن حبها.

الحكاية لم تكتمل، فيها فصل ناقص، سوف تكتمل في يوم من الأيام. عاش على هذا الحلم مُدركًا – كلما تقدم في العمر – أنها هواه العميق؛ المرأة التي تمناها، وهي عاشت حياة عادية تربي أبناءها الثلاثة. كلما عاد إلى المدينة في زيارة سريعة يتصيَّد أخبارها من أخته. عرف أنها تعيش حياة تعيسة، وتمرض أحيانًا بالشهور، وتظل راقدة على فراش في غرفة مظلمة. يرحل إلى عمله في البلاد وفي كل مرة يشعر بأن القصة لم تكتمل، حالته كانت تجسيدًا لرومانسية الثمانينيات.

بعد عشرين عامًا عاد في زيارة طويلة، رآها، وهو جالس في محل الغرباوي صديقه، الذي رفض التعيين وفتح محل تصليح أجهزة كهربائية، رآها تنزل من سيارة التاكسي. وجد نفسه يقف أمام المحل. نزلت من التاكسي وأقبلت عليه تكاد أن تضمه، غير عابئة بالشرفات والنوافذ المفتوحة. كان الحب يفط من عينيها، كأنها اكتشفت – عبر الزواج – أنها لم تحب غيره.

تراجع قليلًا على الرصيف، خائفًا أن تحتضنه في الشارع. ونظر بخجل إلى الشرفات والناس وعرف أنه أصبح عجوزًا، أما هي فكانت قادرة مرة أخرى على إثارة دهشته، رغم التقدم في العمر لا تزال تمتلك اندفاعًا وتهور الفتاة المراهقة، ذلك الحس الطازج بالحياة الذي أسره.

طلبت من سائق التاكسي أن ينتظر، وشدته من ذراعه، لكي يركبا معًا ويذهبا إلى مكانهما القديم في الفندق العتيق، ويتناولا الغداء ويتحدثا، لكنه رأى أن هذا لا يصح، قال لسائق التاكسي:

– اطلع يا أسطى.

وقفت على الرصيف حزينة خائبة الرجاء وهو كذلك. حاول أن يلطف الموقف وسار معها حتى بيت أسرتها، الذي عرف قصة الحب العاصفة، وقبل أن تدخل البيت اعتذر وطلب رقمها لكي يكلمها في عيد ميلادها.

حاول الاتصال بها طويلًا من خارج البلاد لكنها لم ترد.

كان حزينًا يشعر بأنه لا بد أن يلقاها في يوم ما. وفي غمرة سفرياته اتصلت به أخته وقالت له إن جيهان رحلت، عانت لثلاثة أشهر من سرطان الرحم ورحلت. كان في كييف، بعيدًا جدًّا. لم يصدق ما قالته أخته وبحث عن رحلة طيران تعيده إلى بلدته، لكن ظروف عمله لم تمكنه. ظل عدة أيام يعاني من أرق وعدم تصديق، ثم انشغل مرة أخرى، لكنه ظل على يقين بأن حكايتهما لم تكتمل، وأنهما سوف يلتقيان مرة أخرى، بشكل ما.

حتى الآن يعيش هذه الفكرة، لا على أنها حلم يقظة، بل رؤيا سوف تتحقق، رغم المسافات والبعد والموت، كلما ركب طائرة أو تُرك شاردًا في انتظار اجتماع في قاعة من قاعات المدن الكبيرة حول العالم، تأكد أنه سوف يلقاها في يوم من الأيام، ويُكفِّر عن ذنبه لأنه لم يطاوعها ويركب التاكسي ويتناول الغداء معها في الفندق العتيق.

الحواس

وقف الدكتور «عمر فاروق» في قاعة جمعية محبي الفنون الجميلة وأدار جهاز البروجيكتور وحلَّل بعض صور أساتذة فن التصوير. توقف طويلًا عند لوحات «محمود سعيد» للنساء العاريات، وتحدث عن اللمسة الحسية والألوان البرونزية في رسم اللوحات، كأن الفنان أراد نحت النساء السمراوات أصل الأنوثة ومصدرها الخصيب. قال كلامًا لا يمكن نسيانه عن الجسد وكيف أنه متعة حاسة البصر. البصر هو كل شيء، ثم استطرد بأن التاريخ الطبيعي لتطور العين كان حاسمًا في تطور الكائنات الحية.

في ركن القاعة هناك فتاة صغيرة لها عينيان سوداوان وشعر طويل تلمه في كعكة خلف رأسها، طلبت الكلمة، وقالت وهي تبتسم، كأنها تعرف سرًّا لا يعرفه غيرها:

– إن اللمس هو الحاسة الأساسية للكائنات الحية، وهو موغل في القدم ويمكن اعتباره أقدم الحواس، وأكثرها حسمًا في تطور الكائنات، أمَّا البصر ورغم أن ظهور العين فعلًا كان طفرة في طريق التطور، فإنه من الصعب مقارنته بحاسة اللمس. متعة البصر متعة نظرية أمَّا اللمس فهو متعة الانغماس في العالم؛ متعة الشعور بالمناخ والأجواء المحيطة بك، حاسة اللمس تستخدم كل أعضاء الإنسان، ولا تقتصر على عضو واحد مثل بقية الحواس.

صمتت الفتاة قليلًا ونظرت إليه نظرة بها لمحة من السخرية وقالت:

– البصر متعة نظرية، متعة العاجز، أمَّا اللمس – وقبضت كفها كأنها تعصر شيئًا في يدها – فإنه متعة الاتصال.

انفجرت في القاعة مناقشة ساخنة لفكرة الاتصال؛ الاتصال بالإشارة والأصوات والألوان وغيرها، لكن الفتاة لم تسمح للموضوع أن يتحول عن غايته، وقالت بتصميم وهي تنظر في عيني الأستاذ هذه المرة بجدية:

– الحواس نوافذ تنقل لنا معلومات عن البيئة المحيطة بنا، البصر والسمع والشم تسمح بمسافة بين الشيء المدرك وبين من يدركه، لكن التذوق واللمس حواس تحب الانخراط في موضوعها. حاسة التذوق مدخل لالتهام العالم وتحويله إلى جزء من كياننا، أمَّا اللمس فهو مُخصص من أجل الارتباط بكيان آخر خارجك، الحاسة المُخصصة من أجل الآخر، فلا يمكنك أن تستمتع بلمس نفسك، متعة اللمس تأتي من لمس العالم الخارجي.

عادت ابتسامتها لتشرق وهي توجه كلامها للأستاذ:

– هل يمكنك أن تستمتع بتقبيل نفسك؟ حتى إن تولدت متعة من لمس النفس واحتضانها فهي متعة نظرية، ليست مشبعة مثلها مثل متعة لمس الغير، والشعور به.

وأكدت بثقة:

– متعة البصر هي متعة العاجز.

ترك الدكتور «عمر فاروق» البروجيكتور مُثبَّت على لوحة لـ «محمود سعيد»، ووقف مكانه منتبهًا، بحرج، إلى ما قالته الفتاة بثقة باسمة وتلقائية، وخطر له أنها تطل على أعماقه، وتملك فطنة تمكنها من معرفة مراميه الخفية.

عقد بيع

نزلت أبحث عن مكتبة، أشتري منها عقد بيع، حتى ننهي مسألة بيت شارع شريف لأسافر، ربما إلى الأبد هذه المرة. رأيت «عم مصطفى» صاحب المكتبة التي كنَّا نشتري منها الأقلام والمساطر في الابتدائي. رؤية الرجل العجوز محت عني قليلًا الحس بالغربة التي شعرت بها في مدنيتي.

كان يقف في مقدمة المكتبة، نحيلًا، متيقظ النظر، جامد الوجه، له شارب وصلعة خفيفة، يرتدي قميصًا نظيفًا، وينظر إلى الشارع، بنفس الطريقة، كأن الزمن لم يمر عليه. عندما رآني ظهرت ابتسامة بالكاد على وجهه. ابتسامة صغيرة هي أقصى ما يمكن أن يمنحه وجهه الجامد. تعبيرات الوجه لا تبدل ملامحه كثيرًا. الصرامة هي الملمح الأساسي لوجهه وإن تبدل إلى ترحاب أو تعجب، أو حتى وصل إلى الغضب، تظل الملامح على جديتها وتترك مساحة صغيرة للتعبير الجديد أن يظهر.

كانت ابتسامته خالصة وهو يرد تحيتي فاتحًا عينيه، وقال بصراحة أدهشتني:

– كأني رأيت المرحوم والدك.

عم مصطفى صديق أبي. كانا من موظفي التعليم. عقدت صداقة قوية بينهما بحكم السكن في نفس المنطقة. أصر على رفع الكرسي المدور الصغير، لكي أجلس على الرصيف قليلًا، كما كان يفعل أبي بعد سن المعاش. كان يمر عليه في الصباح يجلس على نفس المقعد يتحدثان حتى أذان الظهر، ويبدأ خروج الأولاد من المدارس القريبة من المكتبة، يتكوَّمون أمام باب المكتبة، كما كنا نفعل.

سألني عن أحوالي وعمَّا حدث للعائلة. أخبرته بأننا نبيع البيت. أخواتي البنات يردن الميراث، ولم تعد لديَّ رغبة أن أرجع لأعيش في المدينة. استمع إليَّ بانتباه، مُتفرسًا في وجهي، كأنه يبعد عن ذهنه أنه يرى رفيق عمره، وقد عاد حيًّا.

قال:

– خسارة، لقد أصر الوالد عليه رحمة الله أن يترك لكم البيت كما تركه له الجد.

– لكن الزمن تغيَّر.

قلت مُخففًا من لهجته الجادة الحزينة:

– هذا الزمن مثل الإعصار، يُغيِّر كل شيء.

قال عم مصطفى:

– صحيح، رياح شديدة، لكن كان لا بد من التفاهم.

وبصراحته المعتادة أكمل:

– أنت في مقام ابني، والمرحوم كان أخي. أعرف أن الله قد فتح عليك، لمَ لا تشتري نصيب أخواتك البنات وتُرمِّم البيت الذي تركه لكم؟

قلت مبتسمًا:

– والله يا عم مصطفى كان نفسي، ولكن كما ترى، لا أعيش في مكان واحد، من بلاد الخليج إلى أوروبا، وبصراحة لا أنوي الاستقرار.

ثم قلت مداعبًا:

– الاستقرار كان زمانكم، أمَّا الزمن القادم فهو زمن التجول، مثل الدوامة.

أعجبته فكرة الدوامة، وقال:

– طول عمرك مناكف. أتعبت المرحوم حتى تخرَّجت في كلية الهندسة.

قلت:

– كنت أبحث عن نفسي، حتى وجدتها. لن أشترى مكانًا. سوف أعيش طول الوقت في شقق مفروشة، إيجار مؤقت، لن أعيش تلك الحياة الراسخة.

قلت ذلك بدعابة وبحس المرح، لكن وجه عم مصطفى غام، وقال:

– الخير في الاستقرار، الحياة مصيرها الاستقرار، حتى لو حدثت دوامة فسوف تستقر الأمور. طبائع الأشياء. التبدل السريع ضد طبائع الأشياء؛ ولذا لن يستمر طويلًا.

كان عم مصطفى يقول ما يظنه حقًّا. هو نفسه شاهد على قوله. صمتنا لأن الموضوع أخذ سمة جدية، لكنه عاد وأكمل خواطره:

– حتى الإنسان، حياته العاصفة تنتهي إلى الاستقرار، وتزول بكاملها، ولو قارنت ما يعيشه المرء على وجه الأرض، مع استقراره هناك في العالم الآخر، فستجده قصيرًا جدًّا، الإنسان مصيره الاستقرار في قبره الصغير.

سكت مُشفقًا عليه من تلك الهزة، التي أثارها حوارنا، في الجسد النحيل للرجل الصامت، الذي تعلَّم الحياة من علاقته بأطفال المدارس المحيطة بمكتبته على مر الزمان.

شكرت استضافته فحاول أن يزيل من ملامحه علامات التفكر الجاد، وقال مبتسمًا:

– شرَّفتنا يا بشمهندس.

سألته بمرح، أما زال يبيع مطبوعات مطبعة الشناوي من الأوراق الرسمية. ابتسم قائلًا:

– الحال لم يتغير.

قلت:

– هات لي عقد بيع.

دخل إلى أغوار مكتبته وعاد وفي يده دفتر العقود. أعطاني اثنين وأصر على ألا يأخذ نقودًا، وشيَّعني بتعبيرات حزينة كأنه يشيع نفسه:

– الله يرحم الوالد.