يمكنك قتل الوحش فقط إذا استطعت أن تضربه في القلب. كل ما عدا ذلك لا يتجاوز كونه محاولات منهكة لك وله. البحر أكبر وحش عرفه الإنسان. في البداية كان البحر هو نهاية العالم بالنسبة للبشر. لكن بتقدم الزمن وغزوات البشر المتتالية للبحار، أصبحت البحار كنزًا إستراتيجيًا يتنافس الجميع لامتلاكه.

حاولت البشرية منذ عقود ترويض وحش البحار بضربات في القلب عبر أساطيلها الضخمة. ثم جاء العصر الحديث بمحاولات شتى لتجنب المآسي التي تخلفها الحروب. فتم تقسيم المياه، بعضها دولي مباح للجميع، وآخر إقليمي مباح لدولة دون أخرى.

لم يستسلم الإنسان لفكرة السِلم والتقسيم. وإذا أصبحت المعارك أمرًا قديمًا، فلا أقل من طوق حول عنق الوحش نروضه به، فيسمح بمرور من نشاء، ويضيق على سفن من لا نشاء. وأفضل نقطة يمكن للدولة أن تضع حولها الطوق هي «المضيق»؛ قناة مائية تصل بين مسطحين مائيين كبيرين، تحاط من الجانبين بمساحة ضخمة من اليابسة، ولولاه لفصلت اليابسة بين المائين.

أينما وجد المضيق فهو الممر الوحيد للسفينة بين المنطقتين الواصل بينهما. صنعت سيطرة الدول على المضائق نقاطًا أشد ضيقًا اسمها «نقاط الاختناق». يمتلئ العالم بالعديد من نقاط الاختناق. كل نقطة تؤثر على العالم كاملًا أيًا كان موقعها. لكن هنا ننظر إلى ما يؤثر على محيط تواجدنا.


«هرمز»: وسيلة إيران لتدمير نفسها

مضيق «هرمز»
مضيق «هرمز»

يربط الخليج العربي وبحر العرب، يقع بين عمان وإيران، أحد أهم الممرات المائية في العالم، وأكبر ممر في العالم، عرضه 10 كيلو مترات، تعبره الناقلات التي يتجاوز وزنها 150 ألف طن. تعبر منه ناقلة كل 6 دقائق. يتجاوز حجم البترول الذي يعبره 35% من إجمالي النفط المنقول بحرًا، و20% من تجارة النفط في العالم.

إغلاقه من قبل إيران يعني كارثةً على العالم عامةً والخليج خاصةً. السعودية تصدر 88% من نفطها من خلاله. ولما أرادت الأمان أنشأت خط «بترول لاين». 757 ميلًا من الأنابيب تربط حقل «أبقيق» بميناء «ينبع» على البحر الأحمر. الإمارات تصدر 99% من إنتاجها مرورًا به، ثم تنبهت هي الأخرى إلى نفس الخطر، فقامت أبو ظبي بإنشاء خط أنانبيب يصل حقول «حبشان» بمرفأ «الفجيرة» على خليج عمان. هذا الخط يمكّنها من تصدير 70% من نفطها دون المرور بمضيق هرمز حال إغلاقه.

كذلك تطمح دول الخليج إلى مد 400 كيلو متر جديدة من الأنابيب. تصل الأنابيب الجديدة بين صحراء الربع الخالي في السعودية، وميناء «المكلا» في محافظة حضرموت اليمنية. هذه الخطط الثانوية لم تجعل الإمارات أو إيران تنسيان حقيقة أن المضيق يضم الجزر الإماراتية الثلاث المتنازع عليها «طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبو موسى».

بينما تحاول الإمارات الالتفاف حول المضيق، لا تمل إيران من محاولات امتلاكه عبر امتلاك الجزر. وإيران إن كانت ترى أن تهديدها بإغلاق المضيق أمرًا صعبًا، فلا أقل من أن تظل تردد تهديدها لكي تظهر بمظر المتحكم في العالم أمام شعبها. كيف تهدد بغلق ما لا تملك إذا فقدت الجزر؟

إغلاق المضيق لا يعني خسارة الخليج فقط، الخاسر الأكبر هي إيران.إن أغلقته فلن تصدّر نفطها إلى الصين أكبر المستوردين منها. كذلك ستعاني دول مثل إيطاليا، وإسبانيا، واليونان لاعتمادهم على النفط الإيراني بعد أن حرمتهم روسيا من نفطها. معاناة الدول الثلاث تساوي معاناة إيران أيضًا لفقدانها الربح الضخم.


«المندب»: من يفوز بخليج الموت؟

مضيق «باب المندب»
مضيق «باب المندب»

خليج الدموع، المكان المفضل للبحارة لـ«ندب» أحبائهم. كثيرون هلكوا على أعتابه لكثرة المخاطر المحيطة به. يصل بين آسيا وأفريقيا. يربط البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب. يقع بين اليمن، وإريتريا، وجيبوتي. يتبع إداريًا محافظة «تعز اليمنية».

يمر به 10% من إنتاج النفط العالمي. الممر المفضل للسفن العالمية؛ لقصره وسهولة المرور فيه. تمر به 21 ألف سفينة سنويًا. من يحكمه يحكم قناة السويس. إن أُغلق فالسفن ستحجم عن دخول قناة السويس، ما يحرم مصر من عائداتها. تقدسه دول الخليج، نظرًا لما يمر به من نفط أولًا، ولارتباطه بمضيق هرمز ثانيًا.

أغلقته اليمن في حرب أكتوبر/تشرين 1973. وعت إسرائيل والولايات المتحدة الدرس، وتعهدا أن لا يتكرر.نسقت الأولى مع جيبوتي وإثيوبيا، لمزاحمة التواجد اليمني به. كما زرعت جنودها في أرخبيل «دهلك» الإريتري. وصعدت نحو السماء فأنشأت محطة تنصت على جبل «الأمبيا»، أعلى قمة في إريتريا.

اقرأ أيضًا:موانئ دبي: الاغتيال الاقتصادي للأمم

والأخيرة عملت على التواجد عسكريًا في محيطه. لها في جيبوتي قاعدة تضم 4000 جندي، وتطلق منها طائرات بدون طيار. ولم يفت إيران أن تزرع الحوثيين علها تفوز به. كما أنشأت قاعدةً عسكريةً في ميناء «عصب» الإريتري المطل عليه.

الإمارات هي الأخرى شاركت في المسابقة تحت مظلة «التحالف العربي». استطاعت الإمارات أن تبسط نفوذها بقوة على جزيرة «سقطرى». فالجزيرة يمنية الاسم والموقع، لكنها صارت إماراتية التبعية والمناخ. سقطرى تؤدي إلى خليج عدن، وخليج عدن يُسلمك إلى باب المندب.

هكذا هيأت الإمارات لنفسها موطئ قدم شرقي باب المندب، فماذا عن الغرب؟

سُمح للإمارات أن تشترى عقد إيجار لمدة ثلاثين عامًا. تبني بموجبه قاعدة عسكرية متاخمة للقاعدة العسكرية الإسرائيلية الموجودة في ميناء «عصب» الإريتري. إذن، صار الصراع على «باب المندب» محسومًا. النتيجة التي رغبتها الولايات المتحدة بشدة أن لا يكون إيرانيًا، وأن يكون رئةً تتنفس منها التجارة العالمية حال إغلاق إيران لمضيق «هرمز».


«تيران»: المصلحة لا تجامل الشعوب

مضيق «تيران» يصل بين مصر والسعودية، يشرف على الحد الفاصل بين خليج العقبة والبحر الأحمر، الرئة الوحيدة التي تتنفس منها الأردن، وصاحب الأهمية القصوى لفسلطين المحتلة؛ إذ يربطها بالبحر الأحمر، ثم تنطلق من البحر الأحمر إلى آسيا وأفريقيا وأستراليًا عبر ميناء «إيلات».

أغلقته مصر عام 1967؛ لتمنع مرور البواخر إلى «إيلات». أعلنت إسرائيل حربها الكبرى واحتلت جزيرتي «تيران» و«صنافير». عام 1968 عادت الجزر إلى السيادة المصرية بموجب اتفاقية «كامب ديفيد»، لكن كان الشرط أن لا تتواجد مصر في أي منهما عسكريًا.

في 2017 تخلت الحكومة المصرية عن جزيرتي «تيران» و«صنافير». أعطتهما، والمضيق بالتبعية، للحكومة السعودية؛ ما يعطي السعودية مزيدًا من القوة الإقليمية. ويمنح إسرائيل، صديقة السعودية، ميزة التساوي مع مصر. فكلاهما الآن يطل على البحرين الأبيض والأحمر، ويمكنها إنشاء قناة تربط البحرين كما تفعل قناة السويس.

قناة السويس أحد أهم الممرات المائية في العالم، تختصر الطريق المؤدي إلى آسيا والسواحل الغربية، توفر الوقت والمال إذا قورنت بالطريق المار بـ «رأس الرجاء الصالح». تصارعت عليها فرنسا وبريطانيا سنوات طوال، بدءًا من حملة «نابليون بونابرت» عام 1798، حتى الاحتلال البريطاني عام 1882. كذلك حاولت تركيا الاستيلاء عليها عام 1916.

يوليو/تموز 1956 الرئيس المصري «جمال عبد الناصر» يعلن تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية. أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام يتحالف الغريمان فرنسا وبريطانيا مع إسرائيل لشن العدوان الثلاثي. بعد كل الصراعات الماضية، ينذر امتلاك السعودية لمضيق «تيران» باحتمالية سلب مكانة قناة السويس منها، وحلول القناة الإسرائيلية الجديدة مكانها.


لا تغلق ما لا تملك

الصراعات على الممرات المائية المختلفة قديم، لكن الخوف ليس من صراعات الدول. صراعات الدول يحكمها قوانين دولية، وأعراف دبلوماسية، ومصالح اقتصادية. المخيف هو الجماعات المسلحة غير التابعة لدولة بعينها؛ كـ «أنصار بيت المقدس» الموجودة في سيناء المصرية، نشروا مقاطع فيديو في 2013 لجنودهم وهم يطلقون «الآر بي جي» تجاه السفن المارة في القناة.

سفينة غارقة واحدة تغلق القناة لعدة أسابيع. يتبع الإغلاق التفاف للسفن للمرور برأس الرجاء الصالح ما يعني 4000 كيلو متر إضافية. تؤدي إلى زيادة تكاليف المنتجات، نظرًا لارتفاع تكلفة الشحن. لذا فبينما تهدد الدولة بغلق ممراتها المائية، عليها أولًا أن تحكم سيطرتها عليها أمام المُهدِدين من الداخل.

المذكورون أعلاه ليسوا نهاية المطاف. كثيرون غيرهم يتحكمون في مصير العالم. ينعكس تأثيرهم بلا شك على العالم العربي، وتدور حولهم صراعات هادئة يصعب إدراكها بالنظرة إلى الحاضر فقط، دون ربط للماضي وأحداثه بالمستقبل ومتطلباته. نستعرضهم وما يدور حولهم تباعًا في سلسلتنا.