أتى إعلان وزيرة الهجرة والمهجرين العراقية، إيفان فائق، في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن إغلاق جميع مخيمات النازحين في جميع المحافظات باستثناء مخيمات إقليم كردستان، ليطرح تساؤلات عن مصير سكان تلك المخيمات وحقيقة أوضاعهم.

فالمفترض أن يُشيع الإعلان عن غلق المخيمات روح التفاؤل بحل الأزمة وانتفاء سبب بقاء تلك المخيمات المؤقتة، لكن العكس هو الصحيح؛ فالنزوح لم ينتهِ وأسبابه لم تـُحَل، صحيح أنه تم غلق سوى الأماكن التي كانت تئويهم، لكن ملف القضية ما زال مفتوحًا؛ لأن أعدادهم كبيرة جدًّا وأوضاعهم في غاية السوء؛ إذ يفتقرون إلى الخدمات الأساسية، وكثير منهم لا يحمل أوراق هوية ولا يستطيع المطالبة بأية حقوق.

فبدلًا من إنهاء مبررات النزوح أقدمت السلطات على إنهاء وجود المخيمات التي تعد شاهدًا ودليلًا على استمرار المأساة، دون توفير بدائل مناسبة لمن شردتهم ميليشيات الحشد الشعبي، ومنهم أسر كثيرة تعيش بلا عائل لها أو مصدر للدخل يمكِّنها من الحصول على مأوى، في بلد وصفته منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» عام 2017 بأنه يضم أعلى نسبة أيتام في العالم بسبب الحروب والنزاعات الداخلية.

ووفقًا لمرصد «آفاد» الحقوقي العراقي فإن الحكومة مارست ضغوطًا على المنظمات الخيرية التي أنشأت المخيمات لغلقها، ولذلك لجأت العشائر العربية المنكوبة إلى مخيمات عشوائية تمتد على مناطق شاسعة معظمها عبارة عن خيام بالية عمرها 6 أعوام تقريبًا لا تقي المحتمين بها من لفحات حر الصيف أو الأمطار الغزيرة في الشتاء.

ووثَّق المرصد انهيار الوضع الصحي والاجتماعي بسبب رفض الحكومة تقديم الدعم الطبي لهم، ورفضها إدراجهم ضمن المستحقين للدعم التمويني.

ومع ذلك تسعى الحكومة إلى الضغط على إقليم كردستان لغلق المخيمات التي يأوي إليها المهجَّرون على أراضيه، وأعلنت وزيرة الهجرة والمهجرين العراقية أن وزارتها تسعى للتواصل من أجل إخلاء تلك المخيمات في دهوك وأربيل والسليمانية؛ لأنها ليست لها سلطة عليها.

وتضم مخيمات إقليم كردستان العراق مئات الآلاف، يتوزَّعون على أكثر من عشرين مخيمًا، لكن الأدهى أن هناك تقديرات – غير رسمية بالطبع – تذهب إلى أن العدد الفعلي للنازحين قد يصل إلى خمسة ملايين.

جدير بالذكر أن الفرق بين «النازح» و«اللاجئ» أن الأول يعيش داخل حدود بلاده والثاني خارجها، لكن كليهما فر من دياره للنجاة من خطر يتهدَّده في بلده.

ويؤكِّد المحلل السياسي العراقي حازم العبيدي أن الخمسة الملايين عدد لا يحمل أية مبالغة، فقد تم توثيق تلك الأعداد من قِبل منظمات العراقية ومراكز دراسات في أربيل ومنظمات خارج البلاد، مبينًا أن هناك أعدادًا هائلة لم يكونوا داخل المخيمات، بل لجئوا إلى مناطق أخرى، مبينًا أنه تم تهجير مناطق كاملة وإخلاؤها من قاطنيها من الطائفة السنية ولم يعودوا حتى اليوم، ولا يُسمح لهم بالعودة إلى مناطقهم، وهناك من عادوا فوجدوا أنفسهم يعيشون تحت رقابة شديدة داخل أسلاك شائكة كمعسكرات النازيين، ولم تُتَحْ إمكانية التصويت في الانتخابات للنازحين في المخيمات أو الذين انتقلوا إلى مدن أخرى؛ لذا لم يكونوا محسوبين في عمليات التصويت لأنهم لا يملكون بطاقات انتخابية.

ويضيف في حديثه لـ «إضاءات» أن عدد المُهجرين أكبر من ذلك؛ لأن الكثيرين سافروا إلى دول عربية أو أجنبية كتركيا مثلًا ولم يستطيعوا تسجيل أنفسهم كلاجئين لدى مفوضية الأمم المتحدة التي رفضت قبولهم بسبب عدم وجود إمكانيات مادية تكفي للإنفاق على كل هذه الأعداد من اللاجئين، بل تم حذف بعض من كانوا مسجلين في دول عربية؛ ولذلك يواجه العديد منهم أوضاعًا مؤلمة في الخارج.

وقد سجلت منظمة الهجرة الدولية نحو ستة ملايين عراقي على قوائم النزوح، وأفادت مؤخرًا بعودة معظمهم، لكن تجدر الإشارة إلى أن الحكومة تبالغ في أعداد العائدين للإيحاء بقرب انتهاء المشكلة رغم إقرارها بأن هناك مناطق كاملة لم تتم تهيئتها لاستقبال هؤلاء المهجرين، كما أن كثيرًا من الهاربين من جحيم المعارك كانوا لا يجدون مكانًا في المخيمات من شدة اكتظاظها خلال فترة الحرب مع داعش، مما اضطرهم إلى التفكير في اللجوء إلى مناطق أخرى.

وكانت قضية عودة اللاجئين محل مزايدة من قِبل القيادات السنية المتنافسة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، خاصة في ناحية جرف الصخر الواقعة جنوب بغداد، إذ استولت عليها ميليشيات مسلحة موالية لإيران قبل نحو سنوات بحجة محاربة تنظيم داعش الإرهابي وحوَّلتها إلى مقر لقوات الحشد الشعبي وقاعدة صاروخية إيرانية متقدمة ومعسكرات لميليشيات «النجباء» و«سيد الشهداء» من كتائب «حزب الله» العراقي، بينما مُـنع سكانها من العودة، وتم تغيير اسمها إلى «جرف النصر»، وتواصل وجهاء من العشائر العربية مع قادة إيرانيين من أجل إعادة المنطقة إلى أهلها دون جدوى.

النزيف مستمر

تعد قضية التهجير الطائفي إحدى أكثر القضايا التي تثير فزع أبناء المكون السني خصوصًا في مناطق حزام بغداد والموصل وصلاح الدين، فالمناطق ذات الأغلبية العربية السنية هي المستهدفة، لذا نجد النازحين ينتمون غالبًا إلى تلك المناطق، ورغم المبادرات الحكومية المعلنة حيال هذه القضية، إلا أن نزيف النزوح لم يتوقف، فكل فترة يتم تهجير منطقة سنية جديدة تحت ذرائع مختلفة.

فعلى سبيل المثال أعلنت السلطات العراقية منذ عدة أشهر مصادرة مساحات كبيرة من أخصب الأراضي الزراعية التي يسكنها قرويون في منطقة اللطيفية التي تعد رئة خضراء لمنطقة جنوب بغداد، بالقرب من مدينة جرف الصخر، من أجل تجريفها لإقامة مشاريع سكنية لمنتسبي وزارة الدفاع، وتوجَّه بعض العسكريين إلى السكان وطلبوا من أكثر من ألفي عائلة سرعة إخلاء بيوتهم التي توارثوها عن أجدادهم منذ حقبة الحكم العثماني تاركين مساحات صحراوية شاسعة تصلح لإقامة تلك المشاريع السكنية المفترضة.

ومؤخرًا أقدمت كتائب «حزب الله» على قتل وتهجير آلاف من سكان القرى السنية في محافظة ديالى شرق بغداد، تحت سمع وبصر الحكومة ولم تتدخل قوات مكافحة الإرهاب في تلك الأحداث إلا بتوفير وسائل مواصلات مجانية لتهجير القرويين الذين نجوا من القتل ونقلهم إلى مخيمات نزوح ما لبثت الحكومة أن أعلنت عن إغلاقها بعد نقلهم إليها بقليل.