بيعيد تكوين العالم *** أطفال بيدا حجارة

قد يتذكر البعض هذا البيت من المقطع الذي غنَّته الفنانة اللبنانية ديانا حداد من أوبريت الحلم العربي، الذي شارك فيه قبل أكثر من ربع قرن كوكبة من الفنانين العرب من بلدانٍ مختلفة، وكان مداره هو الوحدة العربية من أجل تحرير فلسطين وإعادة الحقوق العربية المسلوبة. ويبدو أن كاتب كلمات هذا المقطع كان من أصحاب البصيرة، فبالفعل قد شهدنا في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2023، كيف أن أطفال الحجارة الذين كبروا واشتدّ عودهم، يُعيدون تفكيك وتركيب توازنات المنطقة والعالم الجيوسياسية، بعد أن أصبحت الحجارة التي حملوها في أيديهم صغاراً، صواريخ وقذائف ورشاشات ومُسيَّرات ومظلات طائرة، ونجح 1200 مقاتلٍ منهم في إغراق الكيان الصهيوني في طوفان الأقصى.

في مقاله على موقع مدى مصر، يصف الباحث «محمود هدهود» بالتفصيل حجم الضربة العسكرية والمعلوماتية التي تلقّتها إسرائيل، باجتياح العشرات من المواقع العسكرية الإسرائيلية التي تُطوِّقُ قطاعَ غزّة، وبعضها مواقع شديدة التحصين، ومواقع إستخباراتية سرية، والخسائر اللامعقولة التي تعرّضت لها قوات الاحتلال من القتلى والأسرى (حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، اعترف إسرائيل بمقتل ما يقارب 280 جندياً وضابطاً، وأسر 120 آخرين). وقد أشار الباحث الفلسطيني «ساري عرابي» في تدوينة له على موقع X، إلى الخسارة النوعية المتمثلة في تشتيت فرقة غزة الإسرائيلية ذات الخبرة والتراكم المعرفي والميداني الكبير من العمل ضد المقاومة في غزة.

إذاً، فلا مراء أن ما فعلته المقاومة الفلسطينية في غزة بزعامة كتائب الشهيد عز الدين القسام، كان نقلةً تكتيكية في مسار الصراع العربي-الإسرائيلي، لكن ماذا عن المستوى الإستراتيجي بعيد المدى والتأثير؟

للأسف، إنّ الخبرة السابقة مُقلِقة، وقد نجدُ أن هذا العمل العظيم الذي يمثل العمل الفلسطيني الفدائي الأكبر في التاريخ ضد العمق الإسرائيلي المُحتَل، قد ينتهي كسوابقه من معارك غزة العظيمة والمؤلمة دون مكسبٍ إستراتيجي، يُغيِّر مسار القضية ككل.

«سيف القدس» نموذجاً

في العاشر من مايو/ أيار 2021، اندلعت واحدةٌ من أخطر حروب غزة قبل «طوفان الأقصى» (ومن البديهيّ، أنَّ ما قبل طوفان الأقصى من المفترض أن يكون غير ما بعده)، وهي معركة «سيف القدس»، والتي أخذت المقاومة فيها زمام المبادرة لأول مرة، حيث أعطت إنذاراً للاحتلال للجم الاعتداءات ضد الأقصى والمصلين فيه، ومنع المتطرفين الإسرائيليين من اقتحامه، وكذلك إيقاف تهجير سكان حي الشيخ جرّاح بالقدس، فلما لم يستجبْ، أطلقت كتائب القسّام ستة صواريخ بعيدة المدى على القدس، فانطلقت صافرات الإنذار، وفشلت مظاهرة الاقتحام، واشتعلت المعركة.

على مدار الـ11 يوماً التالية من القصف المتبادل (مع الفارق المهول بالقطع في قوة النيران) ، سقط مئات الشهداء في غزة نتيجة القصف الجوي الإسرائيلي المُكثف، من بينهم بعض القادة العسكريين الجوهريين في المقاومة مثل مُطوّر صواريخ القسّام البروفسور «جمال الزبدة»، وقائد لواء غزة في الكتائب «باسم عيسى»، وتعرَّضت مئات الأبراج والمباني السكنية والبُنى التحتية في قطاع غزة للتدمير جزئياً أو كلياً. بينما قُتِل وأُصيب العشرات من الإسرائيليين بنيران صواريخ المقاومة التي استهدفت تل أبيب مراتٍ عديدة، ولم تقتصر على المدن المحتلة الأقرب للقطاع مثل عسقلان وأسدود وبئر السبع.

كانت «سيفُ القدس» نموذجاً على حرمان المقاومة في غزة وحاضنتها الشعبية، من ترجمة تضحياتها إلى مُنجَزٍ حقيقيٍّ على الأرض يُغيِّر المعادلات القائمة. فبينما تحقَّقَ أثناء المعركة حدثٌ استثنائي بتحرك كافة الساحات الفلسطينية معاً ضد الكيان المحتل، حيث شهدت الضفة والداخل المحتل اشتباكات واسعة بين الفلسطينيين من جانب، وقوات الكيان ومستوطنيه من جانب، وكانت وحدة الساحات تلك، مكسباً خطيراً يمكن أن يؤثر كثيراً على الصلابة الظاهرية لدولة الاحتلال الهشَّة لو طالت المعركة، ويضعها تحت ضغطٍ شديد، وقد يُفسد ترتيبات التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.

لكن فجأة، استجابت فصائل المقاومة للضغط المصري والقطري المدعوم دولياً، وأوقفت إطلاق النار وفق قاعدة «تهدئة مقابل تهدئة»، وانفرط عقد تلاحم الساحات، واستمر الحصار مفروضاً على غزة كما كان قبلها، وكذلك الانفصام بين سلطتيْ رام الله وغزة، ولم يتوقف خلال الشهور التالية الاعتداءات على المسجد الأقصى ولا الاستيطان في الضفة الغربية.

واقتصر أهم ما ربحته المقاومة من تلك المعركة على المكسب المعتاد بالنجاح في الحفاظ على السيطرة على القطاع كمنطقة مُحرّرة عجز العدو عن الشروع في اجتياحٍ بري له للقضاء على المقاومة، والاحتفاظ بمعظم مُقدّرات المقاومة، إلى جانب المكاسب المعنوية مثل الصمود، والقدرة على مواصلة إطلاق الصواريخ على كافة مستوطنات جنوب ووسط الأراضي المحتلة حتى اللحظة الأخيرة، رغم القصف الإسرائيلي الجنوني الذي من المفترض أنه يستهدف تدمير البنية التحتية للمقاومة، لا سيّما قدراتها الصاروخية.

ما بعد الطوفان: النصر والتهجير والمكسب الإستراتيجي

على مدار أسبوعٍ بعد عملية طوفان الأقصى التاريخية، أعملت آلة القتل الإسرائيلية انتقامها الدموي الهستيري في أهالي غزة، بقصف بيوتهم فوقَ ساكنيها بشكلٍ عمدي، في غيابِ أي بنك أهدافٍ عسكري معتاد كاغتيالات لقادة المقاومة، كما دأبت إسرائيل في الحروب السابقة. وقد بلغ عدد شهداء غزة حتى نهاية يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول، ما يُقارب 2300 شهيد (وهو يتجاوز عدد شهداء غزة في أطول وأشرس الحروب السابقة ضد القطاع المحاصَر، في صيف 2014، والذي بلغ 2200 شهيداً في أكثر من 50 يوماً).

أشغلت تلك الجرائم الانتقامية الوحشية، وضريبتها البشرية والمادية الفاجعة، الكثيرين عن عملية «طوفان الأقصى» نفسها، وتصاعدتْ في كل مكان حُمّى الحديث عن تهجير سكان غزة إلى سيناء، وهو ما يمثل نكبة جديدة توازي ما حدث في 1948، وكفيلٌ بإنهاء القضية الفلسطينية، بل وبدأ البعض في لوم المقاومة على ما تجرَّأت وفعلته، ونسيَ أو تناسى الكثيرون أن المقاومة في غزة، التي أقدمت على هذا الفعل الجريء الاستثنائي، تتوقع ولا شكّ ردّ الفعل الدموي الأهوج هذا وما هو أشد، وأنه لو كان ضربة طوفان الأقصى أقل قسوة، لردت إسرائيل بنفس الطريقة تقريباً، لأنَّ قتل وأسر 10 أو 20 إسرائيلياً، هو في نظر الكيان خرق نوعي يستحق عقاباً موجعاً، ولأنَّ تصفية غزة أو إلقاءها في البحر، والتخلص من تلك الكتلة البشرية المناوئة للاحتلال، هو حلمُ يراود الساسة الإسرائيليين منذ عقود.

من الواجب هنا، ألا تشغلنا الجرائم الإسرائيلية عن حراسة النصر الأوّلي الذي تمثل في أخذ زمام المُبادأة، وإلحاق خسائر تاريخية بالعدو، ووضعه في خياراتٍ أحلاها شديد المرارة، فإمّا الاكتفاء بالقصف الجوي وارتكاب المذابح لبضعة أسابيع، دون أن يحقق لنفسه انتقاماً استراتيجياً بضرب المقاومة في مقتل، وسيمثل هذا سقوطاً مدوياً لمنظومة الحكم اليمينية المتطرفة الحالية، وهزة سياسية ومعنوية للكيان، وأخطار وجودية تتمثل في فقدان مئات الآلاف من المستوطنين للشعور بالأمن والثقة في المستقبل. وإمّا الإقدام على اجتياح بري كلي أو جزئي لغزة، تكاد تُجمع التحليلات العسكرية والإستراتيجية الموالية والمعادية لإسرائيل، أنه سيكون كارثة استنزافية للقوات الإسرائيلية، إلى جانب الكلفة البشرية الباهظة على سكان قطاع غزة، التي بدأ الرأي العام العالمي في التململ تدريجيًا منها منذ الآن ونحن ما زلنا في اليوم الثامن من المعركة.

وحراسة النصر العظيم لا تكون إلا بحسن استثماره في تحقيق مكسب إستراتيجي يُغيِّر من واقع الصراع ومآلاته، ويحقق مقابلاً لائقاً بما قدّمه الفلسطينيون لا سيَّما في غزة من تضحياتٍ جِسام، وأثمانٍ غير معقولة، سواءً من الحصار الغاشم، أو من الضربات العسكرية الإسرائيلية المتكررة. يجب هذه المرة ألا تستجيب المقاومة -قدر استطاعتها بالطبع- لأية ضغوط عربية أو دولية لإيقاف العمليات في الوقت الذي تريده إسرائيل، فكما فرضت المقاومة تاريخ بدء تلك المعركة، يجب أن تفرض هي موعد انتهائها.

هذه العملية هي إن جاز التعبير، المقامرة باستخدام الورقة الأخطر في تاريخ المقاومة الفلسطينية منذ ظهور نسختها الإسلامية قبل 4 عقود، وينبغي الاستثمار فيها بكل ثمن، وإن بتقديم فصائل المقاومة وأهل غزة لآلاف الشهداء -وهم قدّموا ويقدّمون وسيقدّمون إن استمرَّ الاحتلال والفصل العنصري الإسرائيلي- حتى يتحقق لهم مكسب حقيقي إستراتيجي أقله رفع الحصار الخانق عن القطاع، فهذا سيعصم دماءهم حقاً، ويعطي القضية الدفعة التي تستحقها، ويوفر آلاف الأرواح التي تُزهق نتيجة الأوضاع غير الإنسانية التي سببها ويسببها الحصار.

ولن يتحقّق أي مكسبٍ إستراتيجي للمقاومة، وللقضية الفلسطينية في العموم، عبر بوابة طوفان الأقصى، إلا إذا وضع الاحتلال تحت الضغط الذي لا يُحتَمل بالنسبة إليه بحربٍ طويلة تستمر لأسابيع عديدة أو لشهور إن لزم الأمر، يستمر خلالها الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية بصواريخ المقاومة، وبتوابيت الجنود والضباط الإسرائيليين المتوغلين في غزة أو المحشودين حولها. وبالطبع إن حدث توسُّع للمواجهة مع الاحتلال في الضفة الغربية والداخل المحتل وأية ساحات أخرى كجنوبي لبنان، فهذا سيمنح جهد المقاومة في غزة تأثيراً أسرع وأعمق، ويجعل كلفة تحقيق المكاسب الإستراتيجية من الوقت والأعمار والأثمان، أقل بكثير.

ونعود الآن إلى السؤال المؤرِّق للكثيرين، الذي يحول بينهم وبين التفكير في النصر ومآلاته: ما الذي يمكن بواقعية أن يمنع سيناريو تهجير غزة المرعب بالقصف والنيران، والذي قد يمثل نكبة فلسطينية جديدة، هذه المرة في 2023؟

ثلاثة عوامل أساسية في رأيي هي ما يمكن أن تعرقل حدوث هذا، شريطة أن تحدث متضامنة، أو على الأقل اثنيْن منها:

1. صمود أهل غزة وإصرارهم على ألا يغادروا القطاع:

شهدنا خلال الساعات الماضية إعلانات عفوية عديدة من الكثيرين من أهل غزة أنهم باقون في أرضهم، ولن يقبلوا التهجير، وكذلك وفي كلمةٍ له يوم السبت 14 أكتوبر/تشرين الأول، أكّد «إسماعيل هنية» رئيس المكتب السياسي لحماس على أنه لا هجرة من غزة إلى مصر، وأنَّ أهل غزة والمقاومة متمسكون بأرضهم ومنازلهم. واستمرار المقاومة في الحفاظ على قدرتها على إرباك الجبهة الداخلية الإسرائيلية بصواريخها يومياً، وتركيز الرجمات على مناطق معينة مثل عسقلان تحت عنوان تهجير بتهجير، من أهم ما يُعزِّز صمود القطاع ككل، ويقصر أمد المعركة، لأنه يجعل العدو يدفع ثمناً -وإن كان بالطبع أقل- لجرائمه.

2. العدد المهول من الأسرى بحوزة المقاومة:

تشير التقديرات المتحفظة حتى لحظة كتابة هذا الكلمات أن عدد الأسرى لن يقل عن 100-150 أسيراً، من بينهم ضباط من رتبٍ مختلفة. والذين سيؤدي استمرار القصف الوحشي وحدوث الاجتياح البري إلى قتل العشرات منهم، وبالفعل أعلنت المقاومة حتى نهار 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أنه قد قُتِلَ منهم 26 على الأقل نتيجة القصف العشوائي الإسرائيلي، وأنَّ هناك العديد من الإصابات الخطِرة التي يتعذر علاجُها بشكلٍ لائق بسبب الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على القطاع.

ولخطورة ورقة الأسرى، وحساسيتها في المجتمع الإسرائيلي، فقد شهد نفس اليوم، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مظاهرةً لعائلات الأسرى وداعميهم أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية، مندِّدَةً برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وهذا تطور كبير، يمثل ضغطاً سلبياً على الحكومة الإسرائيلية المتشنجة، والتي تريد أن تقدم على مغامرة مجنونة بخوض حرب مدنٍ في غزة للملمة ما تبعثر من سمعة الكيان وقدرته على الردع.

3. التدخل الإقليمي بفتح جبهة واحدة أخرى على الأقل:

لا سيّما جبهة لبنان، والتي تدل الاشتباكات اليومية فيها على جدية استعداد حزب الله للدخول بقوة إلى المعركة على نطاقٍ واسع، إذا شعرت قيادته بخطرٍ حقيقي على المقاومة في غزة في الأيام التالية، لأن خسارة ورقة غزة، يُضعِف الحزب، وحليفته إيران، استراتيجياً، بشكلٍ خطير. ويبدو أن الولايات المتحدة، حليف إسرائيل، وراعيها، قد استشعرت خطورة تلك الورقة الإقليمية الحاسمة، وحرّكت حاملتيْ طائرات إلى المنطقة.

أمّا الحديث عن دورٍ فعّال على المستوييْن العربي أو الغربي، إن وُجِدْ، فهو لن يُحدث فارقًا من منظور تلك المسألة الحسّاسة، بل قد يقومٍ بأدوارٍ سلبية ضاغطة على المقاومة من بوابة الأوضاع الإنسانية في غزة، لكي يدفعها إلى إيقاف إطلاق النار، على القاعدة القديمة، تهدئة مقابل تهدئة، يعقبها حصارٌ، وحالة من اللاسلم واللاحرب، وهي تلك الحالة التي تذهب بكثير من ثمار التضحيات.

خاتمة

على مدار 16 عاماً، صمدت غزةُ صموداً أسطورياً تحت وطأة حصارٍ جعلها، كما تقول عديد من المنظمات الحقوقية، أكبر سجنٍ مفتوح في العالم، تخلّلته خمس حروبٍ كبرى، وعشرات التصعيدات العسكرية، والتي راح ضحيتها الآلاف من الشهداء، وعشرات الآلاف من المصابين، وتدمير مناطق واسعة من القطاع، وبناه التحتية. ويحق لغزة ولمقاومتِها الباسلة، لا سيّما بعدَ مبادرتِها باهظة الثمن التي خرقتْ كافة الحدود والقواعد التكتيكية والإستراتيجية، أن تحصل هذه المرة لنفسها وللقضية على مكسب أكثر استدامة، لا أقلَّ من رفع الحصار الجائر على غزة، وتنظيف السجون الإسرائيلية من الأسرى، وضمان دولي حقيقي لعدم الاعتداء على الأقصى، وطبعاً الحفاظ على سلاح المقاومة، فهذا هو المبدأ والمُنتهَى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.