النخبُ الأكاديمية والسياسية والثقافية على تنوعها في أغلب مجتمعات أمتنا الإسلامية لا تمتلك عقلاً استراتيجياً منذ قرنين من الزمان تقريباً؛ أي من بدايات تكوينها في العصر الحديث. بدليل غير قابل للدحض، وهو: أن القضايا الكبرى التي واجهتها أمتنا منذ ذلك الحين مثل الهوية، والتحرر، والنهضة، وحقوق الإنسان، وموقع الدين في المجال العام، وغيرها؛ لم تفلح تلك النُّخب في حلِّها إلا بشكل جزئي هزيل. وبدليل أنَّ جلَّ ما قدمته تلك النخب من أفكار وأطروحات لم تسفر عن إجماع، أو شبه إجماع، يتبناه تيار قوي ويضمن استمراره، مثلما فعلت نظائرها من النخب في الأمم الأخرى.

ولسائل أن يسألَ: كيف يصحُّ هذا القول ولدينا عددٌ كبيرٌ من مراكز بحوث الاستراتيجية والأمن القومي في مختلف بلدان أمتنا الإسلامية شرقها وغربها، شمالها وجنوبها؟

وهذه حجة وجيهة من الناحية الشكلية فعلاً، ولكنها فارغة من المضمون أو تكاد. فمنذ بداية ظهور تلك المراكز في بلادنا قبل نصف قرن تقريباً، زادت معهاـ باضطراد -ويا للهول- أعمال استباحة أمننا القومي والعدوان عليه والنيل منه؛ حتى وصل الحال إلى ما يشبه «اللا أمن قومي» على الصعيد العربي كله؛ إن لم يكن على الصعيد الإسلامي كله.

ولستُ أدري ما سر العلاقة العكسية بين تزايد هذه «المراكز البحثية» وتدهور أوضاع هذا الأمن واستراتيجياته على كل المستويات؟!

لا أعتقد أن ثمة إجابة قاطعة على هذا السؤال. كل ما هو شائع ومعروف هو أن أغلب التقارير والأبحاث التي تصدرها تلك المراكز لا يكاد يطَّلِعُ عليها أحد، أو يصبرُ على قراءتها مسئول؛ ليس لكونها «سرية»، أو لأنها عويصة في لغتها؛ وإنما لأسباب أخرى تتعلق بتواضع قيمتها، وضآلة جدواها التطبيقية. وربما كان بسبب الإعراض عنها هو طولها حيث يجب أن تكون قصيرة، أو قصرها حيث يجب أن تكون طويلة.

وأسبق من هذا وذاك أنها ليست نبتاً أصيلاً، بل مجرد محاولة «تقليد» لما ينتجه الآخر على نحو باهت. و«الآخر» هذا ليس كياناً مستأنساً أو وديعاً، أو صديقاً حميماً؛ وإنما هو العدو التاريخي والحضاري لأمتنا. هذا حالنا، بينما حال الآخر على الضد منه؛ فمؤسسة «راند» الأمريكية –مثلاً- تفتخر بأن بحوثها ودراساتها متاحة للجمهور، مثلما هي متاحة لصناع القرار وكبار القادة العسكريين والأمنيين والعلماء؛ رغم حساسية موضوعاتها في كثير من الأحيان، بدليل أن هذه البحوث موضوعة على شبكة الإنترنت، ويتم تنزيلها بمعدل 5.4 مليون مرة سنوياً.

المفروض أن هذه المراكز بمثابة المُخُّ من الجسد؛ حيث تختص في إنتاج الأفكار المستقبلية تحديداً، والرؤى المتعمقة المتأنية، والاجتهادات المبدعة في كل ما يتعلق بالمصالح الكبرى للدولة، وللأمة في عمومها. وبعض المراكز الأمريكية تزعم أنها تعمل لصالح البشرية جمعاء.

«المستقبل»، وليس الماضي ولا الحاضر، هو كلمةُ سر أي بحوث تحمل صفة «الاستراتيجية»، ومن باب أولى: أي بحوث تخص «الأمن قومي»، أو «الأمن العالمي». وعادة ما تضمُّ مراكز البحث بدول الصف الأول صفوة العقول من كبار صناع السياسات العامة بعد خروجهم من مناصبهم ليكونوا متحررين من قيود الوظيفة، ومعهم كبار الخبراء والمتخصصين، وعادةً ما تكون تخصصاتهم متنوعة وجامعة بين علوم السياسة والإدارة والطب والأمن والرياضيات والاقتصاد والتكنولوجيا.

خذ مثالاً على ذلك مركز «راند» RAND الأمريكي، الذي تأسس سنة 1946، أو 1948، تجد أنَّه يجتذب أرقى المواهب البحثية من 48 شعب من شعوب العالم (يعني أن الباحثين فيه ليسوا أمريكان فقط، رغم أن بعض أبحاثهم عسكرية وأمنية بالكامل). وتجد أن لهذا المركز فروعاً في 50 دولة، ويصدرُ 1000 بحث كل سنة واحدة، بمتوسط 83.3 بحث شهرياً. وأكثر من نصف خبرائه البالغ عددهم 1889 يجيدون عدة لغات (منها العربية بالمناسبة) ويحملون أكثر من شهادة دكتوراه (بجد مش كده وكده)، ولديهم قدرات علمية تمكنهم من ابتسار المستقبل، وليس توقعه، والابتسار يعني حصول الشيء قبل أوانه (ومنه: الأطفال المبتسرين) وجعله على بساط البحث وفي مركز وعي صناع القرار اليوم وليس غداً.

بحوث مثل هذه المراكز تجد طريقها بيسر وسهولة إلى صناع القرار ومتخذيه على نحو منظم ودائم هناك في بلاد الآخر. ولكن «أشباه» هذه المراكز بلاد أمتنا حالها على العكس من ذلك، باستثناءات نادرة ومؤقتة ولا يقاس عليها.

مراكز البحوث في الغرب بدأت في الظهور منذ ما يقرب من قرنين من الزمان؛ إذ نشأ أول معهد للدراسات الاستراتيجية في العالم على يد السياسي والعسكري البريطاني الدوق «ولينجتون» في سنة 1831. وقد وضع في هذا المعهد عصارةَ فكره العسكري بشكل مؤسسي، وهو الفكر الذي حقّق النصر لجيش الإمبراطورية البريطانية في معركة «واترلو» التي جرت قرب العاصمة «بروكسل» في سنة 1815 بين الجيش الفرنسي والجيش الإنجليزي، وقد مُني فيها نابليون بهزيمة غير متوقعة، أدت إلى إنهاء دوره على المسرح الأوربي، ومن ثَمَّ تمَّ نفيه إلى جزيرة «سانت هيلانة» في المحيط الأطلسي التابعة للتاج البريطاني آنذاك، حيث توفي هناك في سنة 1821.

كانت كلمة السر في هذا الانتصار الإنجليزي المدوي، أو تلك الهزيمة الفرنسية المنكرة، هي: الاعتماد على نمط «التفكير الاستراتيجي» بعيد المدى، وهو ما برع فيه الدوق «ولنجتون».

هذا النمط من التفكير كان ولا يزال مفتاح التحولات الكبرى في مختلف مجالات الحياة المعاصرة، وأضحى جزءاً لا يتجزأ من المشهد العام في الإدارة العامة والحكم. وعندما أدركته ودخلت فيه بعض النخب في بلادنا بعد 150 سنة من ظهوره في الغرب؛ دخلته بقوة على أمل اللحاق بالنموذج الغربي لتلك المراكز، ولكن سرعان ما تبيّن أن هذه النخب «الحداثوية» دخلته بطريقة مقلوبة. إذ لم يمض وقت طويل على البدايات القوية؛ حتى أخذت في التدهور والتراجع، وأضحت بمرور الأيام موئلاً للوجاهة، أو الاسترزاق، أو للأمرين معاً.

في دول الغرب: تطورت مراكز البحوث بفعل الانتظام المؤسسي الطويل، والتراكم المعرفي، وأجواء الحرية، والاستقلال المالي والإداري. وازدهرت واكتسبت شرعيتها بفضل التفاعل الجاد مع ما تنتجه من بحوث ودراسات من مختلف مستويات صنع القرار واتخاذه.

لقد نشأ هذا النمط الفاعل من مراكز البحث أولاً في الدول التي توصف بأنها «كبرى» على مستوى النظام الدولي (دول الصف الأول). ثم قلّدتها دول توصف أيضاً بأنها «كبرى» ولكن على مستوى النظم الإقليمية الفرعية (دول الصف الثاني)، ثم قلّدتها دول ودويلات الهوامش والأطراف (دول الصف الأخير) لأغراض «المظهرة» لا أكثر ولا أقل في أغلب الأحوال.

في دول الصفين الأول والثاني يحرصُ صناع القرار ومتخذوه -قدر المستطاع- على أن تظلَّ هذه المراكز مستقلة في جميع أعمالها استقلالاً تاماً عن المنافسات السياسية الداخلية، وبعيدة عن المناكفات الحزبية.

والسؤال العملي هنا هو: كيف يحققون هذه الاستقلالية، أو تلك الحيادية؟

إحدى وسائل تحقيقها هو «التمويل» غير المشروط، الذي يأخذ صيغاً متنوعة منها صيغة «الوقف» أو Endowment، وهو نظام مقتبس من تراثنا الإسلامي؛ فالوقف الخيري يوفر مصدراً تمويلياً مستقلاً ومستمراً ومستقراً يتمثل في ريع الأموال التي يتم تثبيت أصولها واستثمارها وإنفاق عوائدها، وهو ما تعتمد عليه كبريات الجامعات الأمريكية والأوروبية ومراكز الأبحاث فيها إلى اليوم. وليس أضمن من هذا الأسلوب لضمان استقلالية مراكز البحث لتكون عقلاً يفكر باسم المصلحة القومية العليا ومدافعاً علمياً عنها، وناصحاً أميناً بما يجب فعله من أجل صونها والتنبيه المبكر بالأخطار التي تهددها. ودون هذه الاستقلالية في التمويل تصبح هذه المراكز مجرد صوت ينطق بإرادة من بيده إعطاء الرواتب والمكافآت ومن بيده منعها؛ على نحو ما يحدث عادة في أغلب دول «الصف الأخير». ويعز علينا أن نقول إن بلدان أمتنا في أغلبها من هذا النوع.

يحرص صناع القرار ومتخذوه، في دول الصف الأول، على تنظيم قنوات اتصال دائمة وسريعة مع «مراكز البحوث» الوطنية، ويرحبون بإنتاجها العلمي، ويجيدون الإنصات إلى ما توصي به. وأسعد يوم عند صناع القرار ومتخذيه في تلك الدول هو اليوم الذي يتلقون فيه بحثاً، أو تقريراً، أو كتاباً، أو مقالةً رصينة من إعداد هذا المركز أو ذاك، أو يحضرون ندوة، أو مناقشة مع الخبراء والباحثين في أجواء حرة. ويغمرهم الشعور بالامتنان عندما يشاركهم خبراء تلك المراكز مناقشاتهم وحواراتهم (لجان الاستماع في الكونجرس الأمريكي مثلاً) قبل اتخاذ قرارات تتعلق بالمصالح القومية التي تهم بلدهم.

أمّا في دول الصف الأخير ودويلات الهوامش والأطراف، فإن مراكزها المسماة تجاوزاً «استراتيجية»، عادة ما تكون هي المغمورة بالسعادة إن سألها سائلٌ، أو استمع إليها مستمعٌ ولو من حواشي صناع القرار ومتخذيه. ونادراً ما يَمُنُّ هؤلاء بغمر أولئك بمثل هذه السعادة المعكوسة.

أكبر عدد من مراكز الدراسات الاستراتيجية وأبحاث الأمن القومي وأكفأها موجود -كما قلت- في الدول الكبرى عالمياً وإقليمياً. وتشير أحدث الإحصاءات إلى أن إجمالي عددها على مستوى العالم وصل إلى 6846 مركزاً. نصيب: الولايات المتحدة الأمريكية وحدها منها 1931 بنسبة 28.2%، تليها دول الاتحاد الأوربي مجتمعة 1770 مركزاً بنسبة 25.9%، ثم دول آسيا مجتمعة 1262 بنسبة 14.8% وأخيراً 398 مركزاً للدول العربية مجتمعة بنسبة 5.8% (وسكانها يزيدون حوالي 100 مليون نسمة عن سكان الولايات المتحدة). وكل هذه النسب من الإجمالي العالمي (6846) مركزاً.

هناك ما يجمع -ولا يُوحِّدُ بطبيعة الحال- بين دول الصفين الأول والثاني عالمياً وإقليمياً، وهناك ما يفرق بينها ويفسر لماذا تنتشر في تلك الدول المراكز الاستراتيجية والأمنية الجادة وذات الفاعلية، ولا تنتشر بنفس الكثافة والكفاءة في غيرها من دول الصف الأخير.

يجمعُ دولَ الصفين الأول والثاني أن أغلَبَها -وليس كلها طبعاً- ديمقراطي سياسياً، ومتطور اقتصادياً. ويجمعها كذلك أن كل واحدة منها، وبخاصة من دول الصف الأول، لها إرث استعماري، قديم أو حديث أو معاصر (واقع فعلاً أو محتمل). ويُضاف إلى ذلك أن كلاً منها يتمتعُ بقدر كبير من القوة العسكرية، والنووية تحديداً، أو لديها رغبة على الأقل لامتلاك هذه القوة، إلى جانب القوة العلمية والاقتصادية.

ولكن تفرقُ بين دول هذين الصفين الأول والثاني: المصالحُ المتعارضةُ، والصراعات على مناطق النفوذ، ومحاولات بسط الهيمنة خارجَ حدودها، والسعي لتأمين أكبر قدر ممكن من القوة التي تؤثر في مسارات السياسات العالمية أو الإقليمية على نحو يخدم المصالح القومية لكل دولةٍ كبرى من دول ذينك الصَّفين.

إذن؛ هناك أكثر من سبب يفسر انتشار تلك المراكز في الدول المشار إليها: الإرث الاستعماري. القوة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية. النظم الديمقراطية والضمانات القانونية والمؤسسية لحرية التفكير والتعبير عن الرأي، إلى جانب القدرات والمهارات البحثية والعلمية والفلسفية التي يتكون منها العقل الاستراتيجي، وكذلك العمق الحضاري، والتنوع الثقافي. ونحن لا ينقصنا شيء من ذلك، فلماذا حالنا على هذا الحال؟

هذا هو السؤال الذي يحتاج لأكثر من مقال.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.