قليلة هي المرات التي يظهر فيها محقق خاص، قادرٌ بلحظة، على أسر مخيلة الجمهور. إليكم أحد هؤلاء.

هذا ما قالته صحيفة «Daily Mail» البريطانية عن «كورموران سترايك»، بطل السلسلة الجديدة التي بدأت الروائية الأشهر «جوان رولينغ» نشرها منذ عام 2013، وافتتحتها برواية «The Cuckoo’s Calling»، والتي صدرت ترجمتها العربية عن دار نوفل- هاشيت أنطوان، تحت عنوان «نداء الكوكو».

كانت جوان رولينغ بعد انتهائها من كتابة سلسلة هاري بوتر، قد قررت الانتقال للكتابة للبالغين، فخاضت أولًا تجربة كتابة الرواية الاجتماعية، حيث أصدرت رواية واحدة عام 2012 بعنوان «The Casual Vacancy» أو «منصب شاغر». لكنها بعد ذلك أعلنت أن الأدب البوليسي لطالما جذبها، وهكذا انتهى الصبي الساحر هاري بوتر، وحلّ محله المحقق كورموران سترايك، محاولًا أن يفسح لنفسه مكانًا بين سيل من المحققين شغلوا مخيلة القراء على امتداد عمر الرواية البوليسية.

جوان رولينغ اختارت أن تصدر سلسلتها الجديدة تحت اسم مستعار هو روبرت غالبريث. وبعد صدور روايتين أخريين في نفس السلسة، وهما «The SilkWorm» و«Career Of Evil» على التوالي، أعلنت قناة بي بي سي البريطانية، عن نيتها تحويل السلسلة إلى مسلسل تلفزيوني. وهكذا أصبح عشاق كورموران سترايك على موعد مع رؤية بطلهم يتجسد على الشاشة، حيث طُرحت العديد من الأسئلة نفسها: من هو الممثل الذي سيقوم بدور سترايك، هل سيشبهه في الشكل؟ وكيف سيأتون بممثل ذي ساق مقطوعة؟

وفي السابع والعشرين من أغسطس/ آب 2017، خرجت الحلقة الأولى من المسلسل إلى النور، حيث تم اختيار الممثل Tom Burke ليلعب دور المحقق، والممثلة Holiday Grainger في دور مساعدته الشابة، وتناوب على إخراج الحلقات مخرجون مختلفون. عرضت من المسلسل سبع حلقات حتى الآن، وطُرحت للبيع في الأسواق على أقراص دي ڤي دي.

منذ الظهور الأول للبطل/ المحقق في الحلقة الأولى، يشعر القارئ/ المشاهد بنفور مبدئي، فالممثل مختلف جدًا عما رسمه في مخيلته، حيث يرد في وصف سترايك في رواية «نداء الكوكو»:

لم يبدُ الانعكاس الظاهر في المرآة وسيمًا. كان سترايك ذا جبهة عريضة منتفخة، وأنف عريض، وحاجبين كثيفين شبيهين بحاجبَي بيتهوفن. شاب اعتاد الملاكمة، وهو انطباع يعزّزه تورّم عينه واسودادها. أما شعره الكثيف الأجعد المتراصّ مثل السجادة، فقد ضمن أن يكون «رأس العانة» من بين الألقاب العديدة التي أطلقت عليه في شبابه. بدا أكبر من عمره البالغ خمسة وثلاثين عامًا.

لكننا في المسلسل، نرى رجلًا وسيمًا بشعر ناعم، وعينين ملونتين، ولا يماثل سترايك المرسوم في أذهاننا إلا في ضخامة الحجم. على أي حال ينجح Tom Burke في خلق علاقة جميلة بينه وبين المشاهد، إذ يأسرنا بتقمصه شخصية سترايك، البارد حينًا والفظ أحيانًا، والذكي اللماح دائمًا. كما ينجح بكسب تعاطفنا بسبب تألمه معظم الوقت من ساقه الاصطناعية. وبالطبع تمت الاستعانة بالمؤثرات والخدع البصرية في المشاهد التي ظهر فيها سترايك بساق مقطوعة.

لعل أكثر ما يلفت النظر منذ الحلقة الأولى، بعيدًا عن مجريات سير التحقيق في الجريمة والسعي لاكتشاف القاتل، هو المشاهد التي تظهر معاناة سترايك مع ساقه. فمنذ البداية يظهر الممثل بمشية مميزة تختلف عن مشية الرجل العادي، ثم نراه في أحد المشاهد بلقطات مقربة يفك ساقه الاصطناعية، حيث يبدع الممثل في إظهار مشاعر الألم، ولا يقل مصمم الغرافكس عنه إبداعًا في المشهد الذي تظهر فيه صورة كاملة للبطل بساق محمرة ومتورمة.

سينما, سترايك
في الحلقة الرابعة كنا على موعد مع مفاجأة. فمن قرأ رواية «دودة الحرير» يعرف أن إحدى الشخصيات هي من ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث ورد في وصفها:
فُتح الباب فوجد سترايك نفسه أمام فتاة طويلة ونحيلة. كانت ذات بشرة شاحبة، وشعر سميك أجعد بلون كستنائي فاتح، وعينين واسعتين خضراوين شديدتَي التباعد، وفم عريض، وتعابير ساذجة. كانت ترتدي جوربين زغبيين زهريين، وتضم إلى صدرها المسطّح، دمية على شكل قرد.

وكانت المفاجأة أن الدور أسند إلى ممثلة مصابة بمتلازمة داون بالفعل، هي Sarah Gordy. في عام 2018 حصلت سارة على وسام الإمبراطورية البريطانية، لتصبح أول امرأة مصابة بمتلازمة داون تحصل على هذا الوسام. بعدها بشهر نالت سارة شهادة الدكتوراه الفخرية في الحقوق من جامعة نوتنغهام، لتصبح أيضًا أول شخص مصاب بمتلازمة داون يُمنح شهادة فخرية من جامعة بريطانية.

أما عن التمثيل، فأمها هي مدربتها الخاصة، وهي التي تسافر معها وتساعدها على حفظ دورها.تقول أمها:

الممتع في سارة أنها لا تمثل، فهي لا يمكنها افتعال التعابير بوجهها، وعوضًا عن ذلك فهي تصدّق الشخصية تمامًا وتقوم بدورها.

لعل الاختلاف بين الروايات الأصلية والمسلسلات المأخوذة عنها أصبح مألوفًا. نحن في الرواية نعيش المونولوجات الداخلية للشخصيات، نسمع صوت تفكيرها قبل كل جملة تنطقها، ونقرأ أدق تفاصيل إحساسها تجاه ما حولها من شخصيات وأحداث. لكن مشاهدة المسلسل بالطبع تضيف الكثير من المتع بعد القراءة، فسماع اللهجة البريطانية منطوقة يزيد من تعرّفنا على الشخصيات كما كتبها مؤلفها، ومشاهدة شوارع لندن ومبانيها ومحلاتها التجارية ووسائل مواصلاتها هو شيء أجمل من محاولة تخيلها.

وتزامنًا مع طرح الروائية جوان رولينغ روايتها الرابعة من هذه السلسلة بعنوان «Lethal White»، أعلنت بي بي سي نيتها استكمال المسلسل بأربع حلقات جديدة خلال العام الجاري، لكن موعد بث الحلقات لم يُعلن بعد. وهكذا ما زال لدى عشاق سترايك الوقت الكافي لقراءة الرواية، ليقرروا بأنفسهم: هل نجح سترايك على الشاشة كما نجح على الورق؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.