«سترونج إندبندنت وومن»… هو تعريب لنفس المصطلح باللغة الإنجليزية (Strong Independent Woman)، والذي أصبح يُستخدم في غالب الأمر للسخرية من موجة الفتيات/السيدات المستقلات استقلالاً مادياً واجتماعياً في المجتمعات العربية، وفي مصر على وجه الخصوص، وذلك على الرغم من وجاهة المصطلح الذي يعني «امرأة قوية مستقلة» ومدلولاته الإيجابية في سياق الخطاب العالمي عن استقلالية المرأة ودورها الفاعل في مجتمعها.

وهذا هو نفس المصير الذي لاقاه مصطلح «فيمينيست» الذي أصبح يُستخدم بتعريب لفظه الانجليزي (Feminist) ليحمل هو الآخر قدراً من التنمر والسخرية تجاه الحركة والأفكار النسوية، لدرجة ظهور بعض الصفحات (لنساء) على مواقع التواصل وغيرها لرفض المصطلح.

فهل كانت المجتمعات العربية بحاجة فعلاً إلى مصطلحات أو حركات أو مفاهيم حداثية أو ما بعد حداثية لتأطير العمل النسوي أو الاهتمام بقضايا المرأة؟ وهل نجحت تلك المصطلحات أو الأطر المفاهيمية في سد الفجوة بين النظرية والممارسة في مجتمع ما زالت التقاليد والموروثات والثقافة فيه تلقي بظلال شاسعة على جهود المرأة الحقيقية ودورها؟ وهل أسهمت الحركات النسوية في مصر في رفع المعاناة بمختلف أشكالها عن كاهل النساء في مصر، شأنهن شأن النساء في العالم الثالث كله؟ أم أن تلك الموجات ما بعد الحداثية، وإن كانت قد أجبرت السياسات على التغير لتعديل أوضاع المرأة تشريعياً، قد تسببت في تدني نظرة المجتمع الذكوري الطابع إلى كفاح المرأة المصرية لتحسين وضعها عموماً؟

يحاول هذا المقال الاشتباك مع بعض هذه الأسئلة عبر تناول موضوع ربما يربطها معاً، ألا وهو مدى تمثيل الحركة (أو الحركات) النسوية المصرية لمعاناة المرأة في المجتمع وهمومها المنسية، التي قد يغفلها الخطاب النسوي المنمق الذي يتحدث عن حرية العمل والزواج والاستقلال وحرية المرأة بشكل عام.

رأيي أن معظم النسويات في مصر، أو على الاقل من يتصدرن المشهد الخطابي النسوي، لا يعبرن عن القضايا والهموم الأساسية شديدة التعقيد التي ما زالت المرأة المصرية بحاجة ماسة لتناولها بشكل ينصف المرأة بالفعل، ومن ثَمَّ يعالج الخلل في الواقع الاجتماعي المصري ككل.

هذا لا يعني بحال أن القضايا التي تتصدر الخطاب النسوي البارز، مثل دعم الاستقلال ومكافحة الزواج القسري وختان الإناث والتحرش الجنسي، ليست ذات أهمية، بل الغرض هنا هو تسليط الضوء على جوانب القصور في الخطاب النسوي، الذي يجعل المصطلحات المشار إليها في صدر هذا المقال تلقى هذا القدر من السخرية.

فما الأسباب التي تجعل الخطاب النسوي المصري «غير معبر» عن المرأة المصرية؟

هناك عدة أسباب رئيسية تسببت في هذا الوضع غير الصحي للخطاب النسوي:

1. الانفصال بين الخطاب والواقع

أكثر ما يميز الموقف النسوي الحالي في مصر هو انفصال خطابه الأعلى صوتاً عن واقع المرأة المصرية، فيبدو كما لو كان يتجاهل قضاياها واهتماماتها الأهم في مقابل التركيز على قضايا، هي بالفعل مهمة، ولكنها ليست ذات أولوية للسواد الأعظم من النساء في مصر، كالتركيز على المشاركة السياسية مثلاً.

حيث نجد المجلس القومي للمرأة يشيد بالمشاركة الإيجابية للمرأة المصرية في العملية السياسية ومنها الانتخابات البرلمانية الجارية، بينما يغض الطرف بشكل فج عن معاناة ملايين النساء المعيلات في كافة محافظات مصر نتيجة لتبعات وباء كورونا خلال العام الحالي، وهو ما يجعل الأمر يبدو مسألة نخبوية، وكأن الخطاب موجه لنخب معينة من المجتمع دون غيرها، حتى وإن كانت غيرها هي الأغلبية.

هذا الانفصال بين النظرية والممارسة سمة تميز الحركات النسوية عموماً، وإن كان من الممكن التغلب عليها بسهولة في المجتمعات الغربية، التي تتبنى بالفعل تشريعات منصفة للنساء. [1]

2. استدعاء المصطلحات من الغرب

هذه المشكلة تعاني منها جميع الحركات النسوية في العالم الثالث تقريباً، تلك الحركات التي تحاول إدخال مفاهيم تقدمية للغاية في مجتمعات ذكورية شمولية محافظة بالأساس، حيث تواجه المصطلحات والمفاهيم معارضة مبدئية كونها قادمة أو منقولة (بطريق الترجمة أو التعريب) عن الحركات النسوية الغربية، حيث تواجه تصورات عن الغرب الكافر من ناحية الإسلاميين أو الغرب المستعمر (الإمبريالي) من ناحية القوميين. بل ويجعل النضال من أجل حقوق المرأة يبدو وكأنه محاولة لتغريب المجتمع المصري وتهديد لقيم الأسرة التقليدية.

ومن ثَمَّ، فإن الإصرار على استخدام ذات المصطلحات، دون محاولة تمصيرها أو صبغتها بصبغة محلية، يضمن قصور الخطاب عن التعبير عن فئات مختلفة من المجتمع، والتي تجد غضاضة واضحة في الاصطفاف تحت مسميات غربية بالأساس. هذا فضلاً عن أن مدلولات تلك المصطلحات تحمل في كثير من الأحيان نُذر تغيير اجتماعي-أخلاقي يجده كثيرون مناقضاً للثقافة الشرقية والمحلية، مثل مصطلحات «الجندر» و«الترانسجندر» وغيرها.

3. الانفصال بين الناشطات المستقلات والمؤسسات النسوية التقليدية

كما هو الحال مع معظم الحركات النسوية عالمياً، عادة ما كان هناك انفصال بين طريقة عمل المنظمات أو المؤسسات التقليدية وطريقة عمل النسويات المستقلات، فالمستقلات يملن أكثر إلى تطبيق المبادئ التي يؤمنَّ بها في حياتهم اليومية والترويج لها بين دوائرهم الصغيرة، مبتعدين عن التنظير الذي تتبناه في الغالب المنظمات أو حتى الحركات بمفهومها الأوسع.

ويمكننا هنا أن نستشهد برأي الناقدة الفنية رانيا عوض، التي ترى أن الحركات النسوية في مصر منذ عام 2005 كان لها دوراً كبيراً إلا أنه لا يزيد عن التنظير ولا يخدم قضايا المرأة، وهي ترى أن المنظمات النسوية في مصر هي «مؤسسات نظرية ولا تُطبِّق فكرها على الأرض… وهذا لا يفيد… فهي لا تخدم قضية المرأة في الشارع».

وهكذا نجد أنه حتى داخل المعسكر النسوي ذاته خطاب المستقلات يكون أكثر مصداقية في الدوائر الصغيرة (الحقيقية) على عكس الخطاب النسوي الرسمي أو المؤسسي، الذي ربما يكون مسموعاً ولكنه غير مجد.

4. نخبوية التركيز على القضايا

دأب الخطاب النسوي في مصر في العقدين الأخيرين على الترويج لعدد من القضايا التي تعكس اهتمام النساء من طبقات أو فئات معينة في المجتمع، وبطرق تعكس أيضاً طريقة تناول تلك الفئات، مثل قضايا التحول الجنسي وقضايا المستقلات والحرية الجنسية ومقاومة التحرش وختان الإناث، وهي قضايا جديرة بالاهتمام تماماً وبعضها عام (وخاصة مقاومة التحرش الجنسي وختان الإناث)، إلا أن التركيز عليها دون غيرها من القضايا الأساسية مثل إتاحة وتوفير التعليم لكل النساء في كل أنحاء مصر، والتأكد من توافر سبل الحياة الكريمة للنساء المعيلات، وضمانات الرعية الصحية والاجتماعية وغيرها، يثير حفيظة مجتمعية (مرة أخرى من المجتمع الذكوري الأبوي) ضد تلك القضايا الانتقائية، ويعطي لمعارضة تلك القضايا زخماً قد يكون كافياً أحياناً للحيلولة دون تحقيق الحركة النسوية لنجاحات كبيرة.

صحيح أنه في العقود الأخيرة، مثلاً، أصبحت ظاهرة استباحة جسد النساء أكثر وضوحاً، إلا أن هذا لا يعني اقتصار التركيز على حركة مقاومة العنف الجنسي كما حدث في الفترة التي سبقت ثورة يناير والسنوات التي تلتها. فإذا كان الخطاب النسوي في مصر متوازناً في طرح قضايا المرأة، لكانت تلك القضايا قد لقيت دعماً من فئات مختلفة من المجتمع هي الآن تقف منها موقف المتفرج على أفضل تقدير، مثل مسائل ضحايا الاغتصاب والأم العزباء (التي لا تعترف السلطات باسم أب أولادها رسمياً، نظراً لقصور التشريعات)، إن لم تكن تعارضها كما هو الحال في مسألة مثل ختان الإناث، وغيرها.

5. تدجين الحركات النسائية في مراكز قومية

من بين الأسباب التي تسهم في الوضع القائم أن يتم تدجين الحركات النسوية في مراكز قومية منفصلة هي الأخرى- في مقارها الفخمة- عن معاناة المرأة المصرية المكافحة. تلك المرأة التي لم تكن في حسبان التشريعات قبل ثورة يناير 2011، وقد أُجبرت طوال تاريخها على القيام بأدوار غاية في الصعوبة في ظل ظروف مادية واقتصادية واجتماعية متدنية بالفعل، خاصة عندما تصبح فجأة «امرأة معيلة» حسب المصطلح الدارج استخدامه في الخطاب الرسمي.

و«المرأة المعيلة» في أبسط تعريف هي تلك التي فقدت عائل الأسرة– سواء بالموت أو الطلاق أو هجران الزوج أو مرضه أو بطالته– وأصبحت هي التي تعول نفسها وأبناءها (وزوجها في حالات مرض أو بطالة الزوج). وهؤلاء يبلغن في مصر 12 مليون امرأة. وللتدليل على مدى هشاشة التناول الرسمي لاحتياجات المرأة المعيلة، نذكر فقط أن برامج التمكين الاقتصادي للمرأة المعيلة التابعة للمجلس القومي للمرأة (بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) في مشروعين رسميين هما «المنح الصغيرة» و«مشروع معاونة المرأة المعيلة» قد خدمت خلال السنوات العشر الأخيرة 13 ألف امرأة معيلة فقط، وهو عدد لا يُذكر إطلاقاً مقارنةً بعدد السيدات المعيلات في مصر.

الخلاصة

ربما تكون هذه الأسباب الخمس هي ما تسبَّب في قصور الخطاب النسوي في مصر عن التعبير عن آلام المرأة المصرية وآمالها، ومن ثَمَّ عدم تحقيق الحركات النسوية للنجاح الذي حققته حركات مماثلة في بلدان العالم الثالث التي بدأت نهضتها النسوية بعد مصر.

وربما يكون تسليط الضوء عليها هنا مدعاة للنظر في كيفية تغيير طرح الخطاب النسوي بشكل يضمن له المزيد من القبول والتأثير داخل الدوائر النسائية وداخل المجتمع ككل. ذلك لأن أي حركة تنفصل عن موضوعها الرئيس (وهو المرأة المصرية في هذه الحالة) سوف يكون مصيرها الاندثار.

ومن المُسلَّم به أن أي تراجع للحركة والأفكار النسوية في مصر يعني بالفعل خسارة فادحة ستلحق بالنساء، ومن ثَمَّ ستزيد من عدم التوازن في البناء الاجتماعي الذي يعاني بالفعل. فهل تتجه النسويات إلى دراسة محتوى الخطاب النسوي وتوجهاته لإعادة ضبط بوصلته؟

المراجع
  1. Elizabeth M. Schneider, “Particularity and Generality: Challenges of Feminist Theory and Practice in Work on Woman-Abuse”, 67 N.Y.U. L. Rev. 520 (1992). Pp. 521-522.