من اللحظة الأولى من إعلان النجم السينمائي المصري محمد رمضان الأخير لشبكة اتصالات «أقوى كارت في مصر»، تستحوذ كلمات موال المطربة الشعبية أمينة انتباه المستمع حين تقول: «الدنيا دي مدرسة وناظرها كان غايب».

بعد مشاهدة الإعلان في نسخته الكاملة حتى لحظة الختام التي تنتهي بعبارة «البقاء للأقوى»، تدرك في الأخير أنك أمام أكثر من مجرد إعلان عادي، لتسأل نفسك العديد من الأسئلة عن فحوى ما رأيته للتو، وماذا تحمل من معنى كل تلك المشاهد والكلمات التي رأيتها الآن.


إله أرسطو والمجتمع الدارويني

أول ما يقفز إلى الذهن بعد سماع مطلع الموال الشعبي في بداية الإعلان الذي يقول: «الدنيا دي مدرسة وناظرها كان غايب»، هو تصور الفيلسوف اليوناني أرسطو عن الإله، حيث تصوّر الأخير أن الإله خَلَق العالم ثم تخلّى عنه، وكأن الكون يعمل كآلة ضخمة تعمل بشكل ميكانيكي بموجب القوانين التي وضعها صانعه، دون تدخل أو رعاية مباشرة منه.

يترتب على هذا التصور الأرسطي الكثير من التداعيات الفلسفية واللاهوتية التي تحدد موقف الإنسان في ذلك العالم الذي ليس له إله، هذا الفراغ يضع الكرة في ملعب الإنسان ليملأ هذا الفراغ ويضع حدًا للفوضى والتسيب في هذا العالم من خلال جلوسه على عرش الإله الفارغ.

هذه المعاني لا تبخل علينا بها كلمات الموال الذي ينتهي بجملة: «راجع لها ولحتته يلم اللي كان سايب»، يلي ذلك على الفور صوت محمد رمضان الذي يقول: «كورة ومن الليلة دي في ملعبه، فورة الناهية فيها مكسبه»، وكأن العالم/الكرة الأرضية صارت كرة في ملعبه وبين يديه من الآن وصاعدًا، بعد تحقيق انتصاره النهائي في لعبة الحظ والصدفة المسماة بالوجود، وصيرورته ملكًا جالسًا فوق عرشه.

على خط المعنى، يدخل عرض شركة اتصالات الجديد الذي تصفه بـ «الكارت الأقوى في مصر»، مستخدمة نموذج الشخصية الأقوى في المخيلة الشعبية المصرية في الوقت الراهن، الممثل محمد رمضان الذي تجسد أدواره السينمائية والدرامية ذلك المعنى الذي يُراد توظيفه في الإعلان.

أجواء التباهي بالثروة والقوة التي تسود الإعلان، بداية من سيارة الليموزين الفارهة التي ينزل منها رمضان، مرورًا بالحمام المذهب والعرش الذي تحيط به الحسناوات، إلى آخر تلك المظاهر التي يحفل بها الإعلان في كل لقطة من لقطاته، تتسق مع الكلمات من قبيل: «الساحة دي بتاعتي وأنا اللي شاكمها»، وتتسق مع الشعار الذي يظهر في النهاية، ألا وهو شعار «البقاء للأقوى»، و«أيقنة» بطل الإعلان لنفسه معبودًا من قبل الجماهير بقوله عن نفسه: «شعبية إلهية وعمري في يوم ما أسيبها».

كل هذا يتسق في النهاية مع المضمون المعرفي لكون أرسطو الذي لا يحكمه إله، ويتحول إلى كون تحكمه القوانين التطورية الداروينية ومبدأ «البقاء للأقوى»، حيث لا مكان هنالك لرحمة أو قيم أو أخلاق تكفل البقاء، فالقوة وحدها هي ما يكفل ذلك.

القوة التي يجسدها بطل الإعلان الذي يرتدي الفراء لا كمظهر للثراء وحسب كمطربي الراب في الولايات المتحدة الأمريكية، بل كمظهر لكونه صيادًا لا طريدة، صيادًا متفردًا تخضع له حتى الضواري المفترسة، كما يتراءى لنا في المشهد الأخير من الإعلان الذي يداعب فيه رمضان أنثى الأسد التي تجلس تحت عرشه الذهبي.


دفاعًا عن الإنسان

في مقدمة كتابه «دفاع عن الإنسان: دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة»، يقول د. عبد الوهاب المسيري إن هنالك من يرى أن الإنسان كظاهرة لا يوجد ما يميزها عن العالم والطبيعة، حيث تسري عليه القوانين ذاتها التي تسري على مختلف الظواهر المادية والطبيعية، ويمكن دراسته من خلال نفس المناهج التي تستخدم لدراسة المادة والطبيعة [3].

النموذج المعرفي الذي يتحدث عنه المسيري هو النموذج المعرفي ذاته الذي نتحدث عنه هاهنا، أي نموذج «الداروينية الاجتماعية»، الذي يحاول أن يطبق قوانين الاصطفاء الطبيعي في نظرية التطور التي قدمها عالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين في القرن التاسع عشر على مجال العلوم الاجتماعية.

يعتقد الفيلسوف البريطاني هربرت سبينسر، أحد أبرز المنظرين للداروينية الاجتماعية، أن بعض المجتمعات البشرية قد استطاعت بالفعل أن تتكيف وتتطور اقتصاديًا وعلميًا مقارنة بالمجتمعات الأخرى التي بقيت متخلفة، ولهذا السبب فإن استعمار المجتمعات المتقدمة للمجتمعات المتخلفة هو أمر مباح، بل قانون طبيعي لا يمكن تجاوزه، كما أن اندثار المجتمعات المتخلفة هو أمر مبرَّر ولا مفر منه.

في مجتمع نيوليبرالي بامتياز كالمجتمع المصري الراهن نستطيع أن نستخدم النموذج ذاته ليعبر لنا عن واقع استعباد الأفراد المنتمين للطبقات الأعلى للأفراد المنتمين للطبقات الأقل، وعن حتمية فناء الفئات الأضعف والأقل تكيفًا وقدرة على المنافسة في ظل نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي من هذا النوع.

الداروينية الاجتماعية هي عنوان النموذج الذي يحتويه إعلان شركة اتصالات، والذي يعبر عن المنحى الخاص بتحولات المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، الذي صار خير تعبير عنه هو هذا اللون من الغناء المهرجاني الذي يمجد التباهي بمظاهر القوة والبطش التي لا ترحم، وهي تحولات يبدو أنها تحتاج اليوم إلى عالم اجتماع أو مفكر مصري كجلال أمين يكتب لنا للمرة الثانية كتابًا آخر عن: «ماذا حدث للمصريين؟».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. صبحي محمد قنوص، دراسات في علم الاجتماع، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ص 104-105
  2. في عالم عبد الوهاب المسيري : حوار نقدى حضاري، مجموعة مؤلفين،دار الشروق، ج1،ص 21
  3. عبد الوهاب المسيري، دفاع عن الإنسان: دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، دارالشروق، ص7