محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2018/08/28
الكاتب
ميا توكوميتسو
ينطوي النضال من أجل «عدد ساعات عمل أقل» على نضالٍ من أجل التحرر أيضًا، تحرر فردي وجماعي.

أطلقت أكبر نقابات ألمانيا، نقابة «آي جي ميتال» في شهر سبتمبر/ أيلول 2017 حملةً ذات جذور تاريخية عميقة. تفاوضت النقابة -التي تمثّل 2.3 مليون عامل في مجال التصنيع- حول الأجور السنوية، للدعوة إلى تخفيض عدد ساعات العمل الأسبوعية المُعتادة، من 35 ساعة إلى 26 ساعة، مما سيسمح للعاملين بفعل أمورٍ مختلفة من بينها رعاية الأطفال والأقارب المسنّين.

وبهذه المبادرة، أحيت النقابة واحدة من أكثر قضايا الحركة النقابية قداسةً -والتي لطالما كانت ناجحة على نحوٍ تقليديّ- وهي: عدد ساعات العمل. تُجادل نقابة «آي جي» بأنَّ وقت الفراغ ضروري لحفظ أبسط أشكال الكرامة الإنسانية؛ إذ كي نرعى أنفسنا ومجتمعاتنا فنحن بحاجة إلى وقتٍ غير ذلك الذي نعمل فيه لتوليد الربح لأرباب العمل.

وعلى نفس القدر من الأهمية، فنحن بحاجةٍ أيضًا إلى تحقيقِ إمكاناتنا البشرية التي تتمثل في أشياءٍ مثل قدرتنا على التفكير بشكلٍ مستقل، وخوضنا لتجارب رومانسية، ورعايتنا لصداقاتنا، وسعينا وراء شغفنا وما يحرّك فضولنا، فكل هذا يتطلّب وقتًا هو ملك لنا وحدنا لا لرؤسائنا ولا لأسواقنا. إذ تتمحور الحملة التي تطالب بتخفيض عدد الساعات في جوهرها حول التحرّر، فرديًا وجماعيًا.

والمثير للدهشة، أنَّه ومنذ زمنٍ طويل لم تعد المنصّات السياسية الأمريكية، حتى اليسارية منها، تتشدّق بهذه القضية. فالأمر لم يكن كذلك دائمًا، إذ يقول المؤرّخون العمّاليون:

كانت عدد ساعات العمل اليومية، تاريخيًا، هي القضية المركزية التي أثارتها الحركة العمّالية الأمريكية خلال فترات حراكها التنظيمي الأكثر نشاطًا.

وقد ناضل من راحوا ضحايا حادث «هايماركت» المأساوي بشيكاغو من أجل إدراك مطلب يوم الثماني ساعات، فكذلك كان الشعار في تلك السنوات «ثماني ساعات للعمل وثماني ساعات للراحة وثماني ساعات لما نريد فعله».

بينما بُذلت محاولة على المستوى الاتحادي خلال فترة الكساد الكبير ووسط الصراع العمالي الهائل، لم يُكتب لها النجاح لتقليل عدد ساعات العمل الأسبوعية إلى 30 ساعة. وعلى مدى عقودٍ شهدت العِمالة الأمريكية أنَّ النضال من أجل عدد ساعات عمل أقل هو المطلب الذي من شأنهِ أن يوحّد بين العمّال الماهريين والعمّال الأقل مهارة وكذلك العاملين وغير العاملين.

واليوم ينبغي لنا أن نستعيد هذا التراث، إذ إنَّ تقليل ساعات العمل مع رفع مستويات المعيشة يجب أن يكون إحدى القضايا المركزيّة التوجيهية لليسار. فهناك العديد من الأسباب المُعقّدة التي جعلت من مطلب تقليل ساعات العمل مطلبًا هامشيًا.

إذ يشير المؤرّخ بنجامين «كلاين هونيكوت» إلى أنَّ أشياءً مثل ثقافة المستهلكين في فترة ما بعد الحرب وطرد الراديكاليين من النقابات وتبنّي العمل لنموذج النمو الاقتصادي كمحرك للازدهار، قد عارضت بوضوح فكرة التحقق من سياسة الوقت.

غير أنَّ صعود النيوليبرالية الذي أعاق ذلك أيضًا أدّى إلى استنتاج أجيال من العمّال أنَّ الأساسيات المُعبّرة عن إنسانيتنا يمكن تأجيلها أو شراؤها، وأنَّ العمل بكدٍ ولفتراتٍ أطول هو التذكَرة لحياةٍ مُرضية.

ثابر على مطحنة تحديّات العمل وسيمكنك (بشكلٍ فردي) تحمُّل نفقات الرعاية المميّزة لطفلك، كما سيمكنك التفاوض لقضاء وقت عطلة، ثم تقاعد مبكرًا واستثمر في العقارات الخاصة بك لتترك شيئًا لورثتك.

وقد اعتنقت العديد من النقابات هذا الموقف الجديد؛ فلا يزال العديد منهم يدافعون عن زيادة الساعات بدلاً من مطالبة أرباب العمل بتعويض العاملين عن ساعات العمل.

ومع ذلك، نرى كثيرًا من الناس ولا سيما أولئك الذين في بداية حياتهم العملية، وتأثراً بما نشهده في وقتنا الحالي من أجورٍ خطّية لا تزيد بشكلٍ مُناسب وتوظيفٍ تأصّل فيه غياب الاستقرار، قد كفروا بالكدح تحت شعار الوهم القائل بأن بذل المزيد من الوقت هو مفتاح الكرامة والسعادة.

وكيف يمكن أن يؤمنوا بذلك، في ظل حقيقة أنَّ المعاشات اللائقة قد أصبحت شيئًا من الماضي السحيق، وأنَّ رسم خطٍ فاصل بين ساعات العمل وساعات الراحة يتطلب تفاوضًا مستمرًا، بل وفي ظل الشك الذي يحوم حول جدوى العمل لأوقاتٍ أطول: هل عليّ أن أُقلّ المزيد من الزبائن في سيارة الأجرة الخاصة بي؟ هل عليّ أن أسجّل مناوبةً إضافية في المستشفى الذي أعمل به؟ هل عليّ أن أضع علامات لحفنة إضافية من أوراق امتحانات علم النفس في عطلة نهاية الأسبوع؟

وفي هذا السياق يهتم بعض اليساريين بمناقشات حول الوقت والوقتيّة، وبغض النظر عن أهمية وقيمة هذه الخطابات، ولكن نظرًا لأن الأهداف الفعليّة من هذه المناقشات كثيرًا ما تظل في نطاق تجريدي أو بعيد، في المستقبل البعيد، فإن هذه الخطابات، من تلقاء نفسها، لا توفّر أدوات كافية لتهييج الحراك.

وعلاوة على ذلك، نظرًا لأن هذه الأفكار تنحصر في الأوساط الأكاديمية وغيرها من الدوائر الصغيرة، فإنها غالبًا ما تتجاوز معظم الناس العاملين، بغض النظر عن مدى جاذبية الأفكار نفسها. وبعبارة أخرى، فإنَّ هذين المفهومين القديمين المثيرين للحيرةِ، النظرية والممارسة، مثل توأمين صغيرين يجري كلٌ منهما في اتجاهٍ معاكس للآخر، وفي حاجةٍ لأن يُعد لمّ شملهما.

على المدى القريب ينبغي لنا أن نناضل من أجل أشياءٍ مثل ساعات عمل أقل، ومقابل أعلى لساعات العمل الإضافية، وسن تقاعد أصغر، وضمان اجتماعي ذي نطاق أوسع، وإجازات عائلية، وإجازات مدفوعة الأجر، وإجازات مرضية مدفوعة الأجر، وبدلات للأطفال، وإجازات تفرّغ.

إذ يهدف كل ذلك بشكلٍ مباشر إلى تخفيضِ ساعات العمل ذات الدوافع الربحية، والتأكيد على حرية إرادة العمال وتحسين ظروفهم المادية، وهي أهداف ملموسة يمكن تحقيقها كما يمكن البناء عليها، فتلك الأهداف لها قدرة على الجمع بين العاملين وغير العاملين.

فعلى سبيل المثال بإمكاننا تحقيق العمالة الكاملة من خلال تقليل ساعات العمل وتوزيعها على المزيد من العمال، كما يمكننا توحيد الرعاية الصحية بين العاملين والمتقاعدين من خلال توسيع نطاق الضمان الاجتماعي.

على الجانب النظري، هناك معركة كلامية ضخمة يجب أن نخوضها حول المفهوم القائل بأن العمل هو مصدر المعنى. مما يستوجب علينا التفكير بشكلٍ أعمق في وقتِ الفراغ، كما علينا التفكير في كيفية قضاء حيواتنا في مجتمعٍ عدد ساعات العمل فيه أقل بكثير.

إذ غالبًا ما يمثّل وقت الفراغ عقابًا في ظل تغوّل الرأسمالية العالمية؛ فالكثيرون لديهم بالفعل أوقات فراغ وافرة؛ من سكان المخيمات إلى العاطلين عن العمل. ومن ناحيةٍ أُخرى تُظهِر أزمات إدمان أنواع الأفيون المختلفة أنَّ وقت الفراغ من شأنه أن يقف في تضاد مع مسعى التحرّر في ظل غياب الموارد المناسبة والشبكات الاجتماعية.

ولكن المال في ذاته ليس هو الحل، إذ يحتاج المرء فقط إلى مشاهدة فيديو «كيم دوتكوم» «الحياة الجيدة» أو «مذكرات المال» ليرى قصة ذاك الشخص الذي وصل راتبه لـ1.250.000 $ في لوس أنجلوس، وليشهد على كم الفراغ العقلي الذي يعاني منه أولئك الذين يبددون أوقاتهم فقط في استهلاك مختلف السلع. وفي الوقت ذاته كانت الرأسمالية ماكرة في الطريقة التي ملأت بها أوقات فراغنا المحدودة بنفس ضروريات الإنتاج والقياس التي ترتبط ببيئة العمل.

من الواضح إذن أنَّه لا يزال من الضروري صياغة رؤية إيجابية لما يمكن أن يكون عليه وقت الفراغ وكيف يمكن استغلاله. وستصل الحركات العمّالية لطريقٍ مسدود دون إدراك رؤية مُقنعة لمستقبلٍ أفضل، إذ إنَّ بناء هذه الرؤية لن يتحقق إلا من خلال التقاء النظرية والممارسة معاً.

وفي هذا الصدد، يمكننا أن نستلهم من التجارب الأجنبية، أنه ليس من قبيل المصادفة أنَّ نقابة «آي جي ميتال» تشعر بشجاعة في المطالبة بتقليل عدد ساعات العمل – فقد كانت هذه النقابة نفسها هي التي حددت عدد ساعات العمل الـ 35 الأسبوعية.

ولكن سنكون قد جانبنا الصواب إن افترضنا أنَّ معركتها معركة أوروبية بشكلٍ خاص. فقد ناضلت الحركة العمالية الأمريكية مرارًا وتكرارًا لتقليل عدد ساعات العمل الأسبوعية ونيل حريّة العمّال.

وقد أدركت الحركة قوة المُطالبة، ليست فقط المُطالبة القادرة على تصوّر عالم يتمتع فيه الناس بقدرٍ أكبر من التحكّم في حياتهم، بل أيضًا القادرة على بناء روابط تضامن من خلال توحيد مصالح كل من العمال والعاطلين عن العمل، والمتمرّسين والمبتدئين والأجانب والسكّان الأصليين.

ها هي اللحظة الحاسمة قد حانت مرة أخرى للحشد وللمطالبة بأن نحظى بأكبر قدر ممكن من وقتنا الفاني لأنفسنا.