كثيرًا ما نُعجب بما وصل إليه شخص ما من نجاح في حياته، ونحلم أن نصل إلى إنجاز مشابه بنفس الكيفية وفي فترة زمنية مماثلة، غافلين عن إجابة سؤال هام جدًا، بل قد يكون الأهم وهو: من أين بدأ هذا الشخص حتى يصل إلى هذه المكانة؟، وكيف بدأ؟، وما هي العوامل التي صاحبت إنجازه أو التي كان لها الفضل الأكبر في تحقيق ذلك النجاح؟

أحاول من خلال السطور التالية عرض بعض الأمثلة لشخصيات عربية، حققت إنجازات في عملها، وأجيب عن الأسئلة السابقة من خلال ما رَوَوه لي خلال حواراتي معهم، ويمكنك الاستماع إلى كافة الحوارات كاملة من هنا.

أستعين في تحليلي لهذه الإنجازات وروايات أصحابها، بإطار فكري مستمد من قراءتي لكتاب «Outliers» للكاتب الإنجليزي مالكوم جلادويل، والذي يقدم من خلاله دراسة للعوامل والمناخ الذي ساعد على نجاح مجموعة من أشهر النماذج على مستوى العالم في مجالات مختلفة، مثل بيل جيتس وستيف جوبز وفرقة «The Beatles» وغيرهم.

فأقول إني أقدم تحليلًا موجزًا، من خلال هذا المقال، مشابهًا لما قدمه مالكوم جلادويل، مستعينًا بنفس إطار العمل، فأبحث في الظروف والعوامل التي ساعدت ضيوفي على تحقيق هذه الإنجازات في عملهم.


الأفضلية غير المكتسبة

وأقصد بها فرصًا أعطت لصاحبها أفضلية عن بقية أقرانه، وجعلته يبدأ مشواره من مكان أفضل من حيثما بدأوا. فهو لم يبذل جهدًا حتى يحصل على هذه الأفضلية، فهي هِبَة من الله ميّزه بها عن الآخرين.

أثناء حواري مع عماد المسعودي، رائد الأعمال اليمني ومؤسس «عقار ماب»، محرك البحث العقاري وضمن الشركات الناشئة الأسرع نموًا في الوطن العربي، ذكر لي عددًا من الأفضليات التي أتاحت له فرصًا مختلفة للتقدم، لم تكن متاحة لكثير من مواطنيه اليمنيين.

فـهو مولود في الولايات المتحدة الأمريكية وحامل لجنسيتها، ومن أسرة من الطبقة فوق المتوسطة -على حد تعبيره-؛ وهذان العاملان أتاحا له أن يكمل دراسته الجامعية في واحدة من أكبر الجامعات الأمريكية وهي جامعة واشنطن، دون منحة متحملًا كافة تكاليف الدراسة. ذلك في الوقت الذي وجد فيه عدد كبير من اليمنيين صعوبة في الحصول على تأشيرة دخول بعض الدول العربية، كما ذكر في حواره معي.

هذا بجانب امتلاكه لحاسوب في المنزل في فترة مبكرة من ظهور الإنترنت ونظام التشغيل ويندوز؛ الأمر الذي أتاح له دراية باستخدام هذا الجهاز، واستطاع بعد ذلك بناء مهاراته في تصميم المواقع، من خلال الذهاب إلى مقهى للإنترنت -والذي كان يشرف عليه أحد أصدقائه فأتاح له استخدام الأجهزة والاتصال بالإنترنت- وقضاء ساعات طويلة في تعلّم تصميم المواقع.

وتستطيع الاستماع إلى حديث عماد المسعودي عن الفرص التي أعطته أفضلية في حياته من هنا.


العمل المُجدي

ما هي احتمالية أن تطمح وتعمل على تأسيس شركتك الخاصة، إذا كان والدك نفسه يمتلك مشروعه الخاص؟

هذا ما حدث مع مصطفى النحوي، أحد مؤسسي «INCA & CO»، وهي شركة مصرية ناشئة تعمل في صناعة الأقمشة بروح شبابية. في فترة طفولته، كان والد مصطفى حريصًا على اصطحابه معه إلى مصنعه الصغير، فرأى واختبر مراحل تقدم والده في عمله، وعاين المجهود الذي يبذله والاستقلالية التي ينعم بها والده في عمله، فهو يحصد ما يزرع من جهد وتعب. كذلك القدر الكبير من التعقيد المصاحب للعمل، فإدارة المصنع تتطلب مهارات عديدة تتخطى إتقان صناعة النسيج إلى مهارات في قيادة عدد من الموظفين والعاملين بالمصنع، كما تتطلب تمكّنًا من فنون تسويق المنتجات وبيعها، وغيرها من المهام التي تتطلب مهارات مختلفة.

كل ذلك أدركه مصطفى منذ صغره، وشهد معه العائد المجزي لذلك النوع من العمل المُجدي. فعند وصوله لمرحلة الشباب، تحول مصنع والده الصغير بالمحلة الكبرى إلى مصنع أكبر بمدينة العاشر من رمضان، وانتقلت الأسرة لتسكن في أحد أرقى أحياء القاهرة الجديدة. كبر مصطفى وهو يحلم بأن يصير نموذجًا شبيهًا لوالده، فليس من الغريب أن أسس هو الآخر مشروعه الخاص. ويمكنك الاستماع لحديثه عن تأثره بوالده من هنا.


العقبة المميِّزة

قد تنتهي بنا أصعب الظروف والتجارب التي نمر بها في حياتنا إالى مكان أفضل بكثير مما تخيلنا، وتعمل في النهاية لمصلحتنا عكس ما توقعنا.

قبل أن يعمل محمد جمال على تأسيس مشروعه المتميز والرائد «كتبنا»، منصة النشر الشخصي الأولى في مصر والوطن العربي، كان يمر بفترة صعبة من حياته عانى فيها من مشكلات في جوانب عديدة من حياته، ووصل معها إلى حالة نفسية شديدة السوء بعد تعرضه لحادث سيارة خطير، نجا منه بفضل الله. وفي الوقت الذي واجه فيه تحديات صعبة على مختلف الأصعدة، كانت الكتابة ملاذًا له، ووجد فيها متعة كبيرة، وشعر براحة نفسية كلما ألقى همومه على الورق.

انشغل محمد بعد ذلك بمشكلة النشر الكتابي في مصر، عندما واجه هو شخصيًا كثيرًا من العقبات أثناء محاولاته لنشر مجموعته القصصية، وظل يبحث عن حلول لهذه الأزمة بدراسة نماذج لشركات أجنبية تقوم بالنشر الإلكتروني، حتى انتهى إلى تأسيس «كتبنا» التي تساهم بدور هام في صناعة النشر في مصر والوطن العربي.

فالبداية كانت عقبة، واتضح بعد ذلك أنها عقبة مميِّزة. فلو لم يمر محمد بهذه التحديات والعقبات؛ ربما لم يكن ليجد الدافع الكافي للتصدي لمشكلة النشر وتأسيس شركته الخاصة وتحقيق إنجازات كبيرة في حياته.

يمكنك الاستماع إلى محمد وهو يحكي عن العوامل التي أدت به إلى تأسيس «كتبنا» من هنا.

هل الأمثلة السابقة تعني أن النجاح هو حكر لطبقة معينة أو أنه شيء من قبيل الصدفة لا يد لنا فيه؟. أثق أن إحساسك الداخلي يخبرك أن الإجابة هي بالطبع لا. المصادفة والحظ يلعبان دورًا هامًا بالتأكيد، لكنه ليس الدور الأكبر. فهؤلاء الأشخاص عانَوا واجتهدوا حتى يصلوا إلى ما هم فيه. الفكرة هي أنهم استثمروا مجهودهم في الاتجاه الصحيح واستغلوا أفضلية أو فرصة مميِّزة في حياتهم.


الأفضلية للجميع

أنا أؤمن أن الله أعطى لكل منا أفضلية عن الآخر لكن بشكل مختلف. فقد تُولَد أنت في أسرة ثرية توفر لك تعليمًا راقيًا، وتساعدك على تأسيس مشروعك الخاص. ولكن أمتلك أنا موهبة فطرية أكبر منك في مجال ما؛ تمكنني من الترقّي بشكل سريع وتحقيق حلمي. وانطلاقًا من هذا الاعتقاد، يجدر بنا أن نفتش في حياتنا عن هذه الأفضلية، فقد تكون بداخلنا أو بالخارج في بيئة أو ظروف معينة، لكننا على يقين أنها موجودة وأننا لم ندركها بعد.

ابحث عن أفضليتك

قد تكون الأفضلية في أن تدخل سوقاً ما أو تعمل في مجال معين في فترة نشأته، وعندما تتمكن من المهارات التي يتطلبها هذا التخصص، يصبح أحد أهم التخصصات أو مجالات العمل المطلوبة وتكون معه من أهم الكفاءات العاملة في هذا المجال. وهذا ما حدث مع محمد جمال والعديد من رواد الأعمال، فبعد تخرجه من كلية الهندسة، عمل في عدد من الشركات الناشئة، ذلك في وقت لم تكن فيه ريادة الأعمال شائعة بين الشباب، الأمر الذي أعطاه أفضلية كبيرة عند تأسيس «كتبنا». فهو يمتلك دراية وخبرة بالشركات الناشئة وأسلوب إدارتها وتطوير نماذج العمل الخاصة بها.

فابحث واقرأ وكن دائم الاطلاع على كل ما هو جديد في تخصصك أو المجال الذي تود الالتحاق به، واعمل على اكتساب المهارات اللازمة لهذا المجال من البداية، حتى تكون واحدًا من الأفضل والأكثر خبرة عندما يصير تخصصك مطلوبًا.

كن قدوة لأبنائك في العمل المُجدي

كن نموذجًا ينظر له أبناؤه نظرة مصطفى النحوي لوالده، فجميعنا يعلم تأثير الأب والأم كقدوة لأولادهم. فإن لم يكن والداك قدوة لك في العمل المُجدي –هذا بالطبع لا يعني تقصيرًا منهما ولا يعتبر أيضًا عذرًا لك ومبررًا للاستسلام لما هو سائد– فكن أنت التغيير الذي حلمت بأن تجده في حياتك.

اسعَ واعمل واجتهد؛ يكافئك الله بما يقابل تعبك من عائد مادي ومعنوي، ويحلم أولادك بأن يصيروا مثلك، يعملون عملًا مجديًا يتطلب مهارات متعددة، طامعين في عائد مجزٍ مثل الذي حصلت عليه، وهذا ما نتمناه جميعًا لأولادنا، لكن في النهاية قليلون هم من يعملون على تحقيقه.

كل الظروف تعمل لصالحك

كل الظروف تعمل لصالحك إذا استطعت رؤيتها كذلك، أعلم أن هذا الأمر يَسْهُل قوله ويصعب تنفيذه، لكن في النهاية نعرف أنا وأنت أنه ليس مستحيلًا.

إذا كنت تمر بفترة صعبة أو تحدٍ في جانب من جوانب حياتك، فحاول الابتعاد قليلًا –ولو لدقائق معدودة– وقم بأي فعل آخر تهواه وتجد نفسك فيه، مثلما لجأ محمد جمال إلى الكتابة. بالتأكيد لن تُحل مشكلتك بالابتعاد عنها، لكن هذه الدقائق القليلة التي تقضيها بعيدًا عن المشكلة ستساعدك على رؤيتها على حقيقتها وبحجمها الطبيعي، ومن ثَمّ يمكنك التعامل معها بالطريقة المناسبة، كما أن هذا سيساعدك على استعادة ثقتك بنفسك، التي قد تهتز في مواجهة تحديات كبيرة، فقد نحتاج إلى تحقيق نجاحات أو نتائج إيجابية في جانب آخر من حياتنا، تساعدنا على تخطي الصعاب التي نواجهها.

والآن بعدما اتضحت الصورة أمامك، ما هي الأفضلية التي تميزك عن الباقين؟، وما هي العقبة التي تدفعك إلى الأمام؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.