وكأن السودان لا تكفيه مشكلاته المزمنة الكثيرة، وما فاقمته الأوضاع الاقتصادية الصعبة من أزمات، إضافة إلى موجات العنف القبلي، وغيرها من التحديات، ليشتعل صراع عسكري بين جيشين كليهما من أبناء ذات الوطن وذات الانتماء.

فقد وصلت الخلافات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى مرحلة الاقتتال المسلح في شوارع العاصمة، وأصبحت مقرات الحكم والمعكسرات أهدافًا للقصف والتدمير في فتنة تهدد بإشعال الوطن كله.

جذور الأزمة

تتبع قوات الدعم السريع لمحمد حمدان دقلو، الشهير باسم «حميدتي»، وتتكون من ميليشيات قبلية كانت تساند الحكومة في محاربة التمرد في إقليم دارفور غرب البلاد، وأقدم الرئيس المخلوع عمر البشير على تأطير هؤلاء المسلحين في شكل نظامي بعض الشيء، فتم إنشاء قوات الدعم السريع لتضم هؤلاء المقاتلين عام 2013.

وفي عام 2017 تم إقرار قانون الدعم السريع ليجعلها تحت إمرة رئيس الجمهورية، رغم نص هذا القانون على تبعيتها للجيش، لكنها صارت تابعة بشكل مباشر لرئيس الجمهورية باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة.

اشتهرت قوات الدعم السريع بانتهاكات حقوق الإنسان في دارفور وفي المناطق التي تدخلت بها، وبعد إزاحة البشير عن السلطة في أبريل/نيسان عام 2019، أصبح عبدالفتاح البرهان رئيسًا فعليًا للدولة بصفته رئيسًا للمجلس العسكري الانتقالي، فطالب المحتجون بنقل السلطة للمدنيين ونظموا اعتصامًا أمام مقر القيادة العامة للجيش في 3 حزيران/ يونيو 2019، فتدخلت قوات الدعم السريع وفضت الاعتصام بالقوة وقُتل العشرات، ومارست القوات عمليات اغتصاب جماعي للمتظاهرين رجالًا ونساء، وطالت هذه الانتهاكات الطبيبات والممرضات في المستشفيات القريبة من الاعتصام.

وعقب احتجاجات واسعة تم الاتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير المعارضة على تشكيل مجلس السيادة المكون من مدنيين وعسكريين، وعيّن المجلس عبد الله حمدوك رئيسًا للوزراء خلال الفترة الانتقالية، وأدى اليمين في 21 أغسطس/آب 2019.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021 نفذ الجيش وقوات الدعم السريع انقلابًا على الحكومة المدنية وتم احتجاز حمدوك، وتم إلغاء ترتيبات التحول المدني الديمقراطي، لكن بعد احتجاجات شعبية عارمة عاد رئيس الوزراء إلى منصبه بعد شهر من الواقعة، واعتذر حميدتي عن مشاركته في هذا الانقلاب.

وفي يناير 2022 استقال رئيس الوزراء، واستمرت السجالات السياسية بين المدنيين والعسكريين حتى تم التوصل إلى الاتفاق الإطاري فى 5 ديسمبر/كانون الأول الماضى، حيث وقع حميدتي والبرهان اتفاقًا مع عدد من أحزاب قوى الحرية والتغيير من أجل تشكيل حكومة مدنية.

ونص الاتفاق الإطاري كذلك على ترتيبات تهدف للنأي بالجيش عن السياسة والاقتصاد، ودمج قوات الدعم السريع به، وإطلاق عملية صناعة الدستور بمشاركة كل أقاليم السودان، وتنظيم عملية انتخابية شاملة حرة ونزيهة في نهاية فترة انتقالية مدتها سنتان.

أزمة الدمج

ظلت أزمة دمج الدعم السريع في الجيش عصية على الحل، وظل حميدتي يتلكأ في تحديد موعد نهائي واضح لدمج قواته.

وفي 15 مارس/آذار تم توقيع ورقة المبادئ والأسس لإصلاح القطاع الأمني والعسكري، وضعت أسسًا لحل قضايا الإصلاح السياسي والدمج، وتم الاتفاق على عقد ورشة الإصلاح الأمني والعسكري لمناقشة ما تم التوصل إليه في ورقة المبادئ.

وانعقدت الورشة بعدها بأيام وشارك فيها 300 ممثل عن كل من الجيش، والدعم السريع، والشرطة، والمخابرات، وحركات الكفاح المسلح، والقوى السياسية الموقعة وغير الموقعة على الاتفاق الإطاري.

لكن بسبب تلكؤ حميدتي في تحديد موقع لدمج قوات الدعم السريع في المؤسسة العسكرية انسحب ممثلو الجيش فجأة من الورشة قبيل ساعات قليلة من الجلسة الختامية المخصصة لتلاوة التوصيات النهائية التي توصل إليها المشاركون بخصوص عملية الإصلاح الأمني والعسكري، وبذلك اختتمت آخر مؤتمرات المرحلة النهائية للاتفاق السياسي في البلاد، من دون التوصل لتوصيات نهائية.

وكان مقررًا التوقيع على الاتفاق النهائي في الأول من أبريل/ نيسان الجاري، والتوقيع على مسودة الدستور الانتقالي بعد ذلك بخمسة أيام، والبدء في تشكيل السلطة الانتقالية بحلول 11 من الشهر ذاته، وفقًا لما توافقت عليه الأطراف المدنية والعسكرية، لكن عقبة الدمج عطلت هذه الترتيبات فقد أعلن تحالف قوى الحرية والتغيير، فصيل المعارضة الرئيسي في البلاد، إرجاء التوقيع على الاتفاق الإطاري النهائي، بسبب استئناف المباحثات الفنية بين الأطراف العسكرية، ودعا التحالف إلى الخروج في مظاهرات سلمية، مطالبًا الأجهزة الأمنية بحمايتها، إذ تم إحصاء مقتل ما مجموعه 125 متظاهرًا منذ وقوع انقلاب 2021.

تطورات الأزمة

لم يكتف حميدتي بالتلكؤ في إعطاء موعد محدد لدمج قواته بل كثف وتيرة عملية التجنيد لتضخيم تعداد قواته وجعلها عصية على الاستيعاب والدمج داخل المؤسسة العسكرية، فوصل عددها إلى قرابة المائة ألف، وتم تطوير أسلحتها ومدها بكميات كبيرة من العتاد الحربي في ما بدا كتحضير للمعركة الفاصلة مع الجيش السوداني.

وصارت المواجهة بين الطرفين مجرد مسألة وقت بسبب تسارع التحشيد العسكري للدعم السريع في الخرطوم، وتسارعت وتيرة الأحداث بشكل مخيف منذ الأربعاء الماضي، عقب إرسال حميدتي تعزيزات عسكرية كبيرة إلى مدينة مروي شمال البلاد، فاعترضها الجيش ومنع تقدمها من محيط مطار المدينة الدولي، وقيل إن الجيش منح الدعم السريع مهلة 24 ساعة للانسحاب من المدينة، وهو ما لم يحدث، بل استمر زحف الآليات التابعة للدعم السريع من دارفور في طريقها إلى وسط الخرطوم.

وحذر الجيش السوداني، الأربعاء، في بيان حاد اللغة، مما سماه تزايد المخاطر من انتشار الدعم السريع داخل العاصمة وبعض المدن دون التنسيق مع القوات المسلحة، فردت قوات الدعم السريع في بيان، إلى أنها تعمل بتنسيق مع الجيش وأن وجودها في مروي يأتي في إطار تأدية واجباتها التي تمتد حتى الصحراء.

وتصاعدت حِدة التوتر بين الجيش وقوات الدعم السريع يومي الخميس والجمعة، وتوالت تحركات القوات من كلا الطرفين في الخرطوم ومروي، وشُوهدت عربات مسلَّحة، تابعة للدعم السريع، تدخل الخرطوم، وعزز الجيش وجوده في مروي، ووضع قواته في حالة الاستعداد القصوى.

ونزل القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، فتناول الإفطار مع قوات المدرعات في العاصمة، وتفقَّد أوضاعهم وأشاد بالروح المعنوية العالية لجنوده، وقال لهم بلهجة تعبوية: «جيشنا عَظمه مُر» في تهديد مبطن للدعم السريع.

وحاول عدد من قادة الحركات المسلَّحة التدخل لنزع فتيل الأزمة، وتلقوا تطمينات من حميدتي بعدم التصعيد واستعداده للجلوس مع البرهان لحل الأزمة.

الخرطوم ساحة حرب

ووسط تضارب الأنباء والبيانات اشتعلت المواجهة العسكرية المتوقعة بين الجيش السوداني وقوات حميدتي، السبت، وتكرر إعلان طرف ما الاستيلاء على مواقع مهمة بينما ينفي الآخر وقوع ذلك ويؤكد سيطرته هو على الوضع الميداني في الخرطوم.

وتبادل الجانبان الاتهامات بالتسبب في هذا الصراع، وعجت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات توثق سقوط المواقع العسكرية والمناطق ذات الأهمية في أيدي قوات تتبع هذا الطرف أو ذاك لتأكيد صحة بياناته التي أعلن فيها سيطرته على مواقع معينة.

وأيًا ما يكن فإن الجيش قرر حسم الأمر عسكريًا، وأعلن الدمج القسري -إن صح التعبير- لهذه الميليشيات، وأصدر مرسومًا بحلها، وطلب من ضباطها الانخراط في صفوف قواته النظامية، وكذلك طالب الدعم السريع قوات الجيش بالانضمام إليه، أي أن الطرفين دخلا في مواجهة صفرية، كل منهما يريد دمج الآخر في قواته.

وأعلنت قيادة الجيش السوداني حميدتي مجرمًا هاربًا مطلوبًا للعدالة، داعية المواطنين إلى عدم التعامل معه والإبلاغ عنه وعن مسلحيه بعد فراره من مخبئه عقب تخلي حراسه عنه، بينما وجه الأخير اتهاماته لقائد الجيش بتنفيذ انقلاب، ووصفه في مقابلة مع قناة «الجزيرة»، السبت، بأنه «مجرم».

وأعلن الجيش سيطرته على سبع قواعد للدعم السريع ونفى تعرض مقر القيادة العامة للقوات المسلحة للحصار، وأعلن أن الوضع في طريقه للحسم لصالحه.

وأعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على القصر الجمهوري ومطارات الخرطوم ومروي والأبيض، وعدد من المواقع بالولايات، بينما استغل الجيش السوداني تفوقه التسليحي وشن غارات جوية عنيفة على قوات الدعم السريع، رغم إعلان الطرفين حرصهما على التهدئة وعدم إدخال البلاد في صراعات.

وأوقعت المواجهات العسكرية عشرات القتلى ومئات الجرحى، وخاض الطرفان حرب شوارع في الخرطوم وسط تفاقم معاناة المدنيين الذين علقوا بين الأطراف المتحاربة، وحذرت نقابة الأطباء من نقص الكوادر الطبية مع ارتفاع الإصابات وطالبت بتوفير المساعدات بشكل عاجل وفتح ممرات آمنة.

وقررت منظمة إيجاد الأفريقية (مقرها جيبوتي) إيفاد رؤساء كينيا وجنوب السودان وجيبوتي للتوسط بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع من أجل وقف إطلاق النار، بينما حذر رئيس الوزراء السوداني السابق، عبدالله حمدوك، من انزلاق الدولة إلى حرب الأهلية ودعا لوقف فوري لإطلاق النار ووصف المواجهات بأنها «المنتصر فيها خاسر».