أخيرًا وبعد طول انتظار قررت الولايات المتحدة الأمريكية رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، بعد عشرين عامًا من الحصار والقطيعة، بعد أن تبين للإدارة الأمريكية حسب ما قال السيد مايك تونر، المتحدث باسم الخارجية السودانية، أن السودان لم يعد يشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي أو المصالح الأمريكية. وما إن انتهى المؤتمر الصحفي للخارجية الأمريكية حتى غمرت فرحة عارمة جموع الشعب السوداني برفع العقوبات وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي و«جروبات الواتسآب» بالنكات والصور الساخرة، التي تظهر مدى تلهف السودانيين لإلغاء العقوبات لكي ينعموا بـ «الماكدونالز والكنتاكي الآيفون و سيارات الشفروليه وغير ذلك من منتجات بلاد العم السام» التي كانت بلادهم محرومة منها طوال عشرين عامًا.


كيف بدأت هذه العقوبات وما أسبابها؟

http://gty.im/468218428

ترجع العقوبات الأمريكية إلى زمن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون، الذي أصدر قرارًا تنفيذيًا عام 1997م بتجميد كل الأصول المالية السودانية، وحظر كل الأنشطة الاقتصادية مع الحكومة السودانية، أو أي شركة تكون تابعة لها، وجاء من بعده الرئيس الأسبق جورج بوش ليشدد العقوبات على قطاع النفط والبتروكيماويات بعد انفجار أزمة دارفور بشكل كبير، وفي إطار حملته المقدسة لمكافحة الإرهاب قام بتشديد العقوبات على السودان باعتباره دولة من دول محور الشر.

العقوبات الأمريكية بدأت كآلية عقابية استخدمتها الحكومات الأمريكية من أجل ليّ ذراع الحكومة السودانية، لكنها مع الزمن تأقلمت عليها وأصبحت كأنها عقوبات موجهة للشعب لا للحكومة، فقد ساهمت العقوبات الاقتصادية الأمريكية مع حرب الجنوب ودارفور في إنهاك الاقتصاد السوداني تمامًا، وبلغت خسائر السودان من العقوبات من 400 إلى 500 مليار دولار أمريكي حسب مصادر رسمية، كما ساهمت في إغلاق مئات المصانع التي كان يملكها رأسماليون وطنيون، وتسببت العقوبات في حرمان آلاف الطلاب من فرصة الدراسة في الولايات المتحدة عبر المنح الدراسية وفي منع التحويلات والاعتمادات البنكية؛ مما خلق اقتصادًا موازيًا نما فيه الفساد، والذي كان يستفيد منه مقربون من الحكومة.

في عام 2013م؛ وفي ذروة نشوة الثورة المضادة المدعومة خليجيًا بانتصارها الكبير في مصر، من جرّاء ما حدث في 3 يوليو/تموز 2013م، أعلنت دول الخليج إجراءات مشددة للتحويل النقدي للسودان بسبب ما رأت أنه انحياز سوداني لإيران واستقبال لسفنها الحربية في ميناء بورسودان؛ ما ساهم في هبوط قيمة العملة السودانية من 6 جنيهات إلى 11 جنيهًا.

بالإضافة إلى منع طائرة الرئيس السوداني من عبور الأجواء السعودية لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني، وهذا الأمر دعا الحكومة السودانية لعقد حوار طويل مع المملكة العربية السعودية وأشقائها في الخليج، وانتهى الحوار بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية ثم مشاركة السودان في عاصفة الحزم، وبعد ذلك سحب السفير من طهران ليبدأ عهد جديد في التعاون الأمني والعسكري بين الحكومة السودانية والخليجيين، وتباعُد بين السودان وإيران ما انعكس تفاهمًا وتقاربًا سودانيًا أمريكيًا في كثير من القضايا التي كانت محل خلاف.

كانت علاقة الصداقة الإستراتيجية السودانية الإيرانية تمثل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة، فعبر هذه العلاقة كانت إيران تجد موطئ قدم مهم في شرق أفريقيا، وكانت ترسل الأسلحة إلى غزة للفصائل الفلسطينية الحليفة لها، ما كان يهدد أمن اسرائيل بشكل جدي ويساهم في تطوير المنظومة التسليحية للمقاومة الفلسطينية باستمرار.

ولكن منذ عاصفة الحزم وسحب السفير السوداني من إيران بدى واضحًا للمراقبين أن العلاقات الإستراتيجية السودانية الإيرانية تآكلت، وأن الخرطوم أصبحت جزءًا من المحور السني المعتدل التي تدعمه أمريكا ضد إيران، و بالإضافة إلى ذلك قام الرئيس البشير في خريف عام 2013م بتغيير حاسم في هيكلة دولته؛ أقصى بموجبه صقور الإنقاذ (الحرس القديم)، الذين كانوا من قيادات الصف الأول والثاني من إسلاميي حزبه واستبدلهم بوجوه من الصف الثالث وهم أكثر براغماتية وأقل أيديولوجية، وواكب هذا التغيير الدعوة إلى حوار وطني مع كل القوى السياسية ما أعطى انطباعًا أن الرئيس البشير يقوم بيريسترويكا شبيهة بالتي قام بها الزعيم السوفييتي غرباتشوف لإصلاح النظام، والتي أدت مع الوقت لتفكيك النظام السوفييتي ثم تقويضه، فرحبت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الترويكا واعتبرت أنها خطوة من أجل حل مشاكل السودان، وهذا دفعهم لدعوة السيد إبراهيم غندور، نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني -في ذلك الوقت- لزيارة الولايات المتحدة، وهناك تم البدء في إجراء حوار معه.


ما هي الأطراف التي ساهمت في رفع العقوبات؟

1. الخليجيون

توجه السيد إبراهيم غندور، وزير الخارجية السوداني، في المؤتمر الصحفي الذي أعقب رفع العقوبات بالشكر الجزيل لدول الخليج بأسمائهم دولة دولة، لدورهم الكبير في رفع العقوبات، وصرح أن بداية الحوار السوداني الأمريكي كان في سلطنة عمان برعاية السلطنة، واستمر بعد ذلك برعاية بقية دول الخليج وخصوصًا المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، والتي كان لها دور كبير في تقريب وجهات النظر بين الحكومة السودانية وإدارة أوباما وترامب.

2. الأمير محمد بن سلمان

كان للأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي، دور شخصي ورئيسي في إلغاء العقوبات، فقد تعهد للرئيس السوداني البشير في 2015م في أيام عاصفة الحزم، بأنه سيضغط من أجل رفع العقوبات، كما قالت وكالة رويترز. وفي المغرب قبل أشهر اجتمع الرئيس السوداني مع الملك سلمان والأمير محمد بن سلمان وهناك أطلعه على ما توصل إليه من اتفاق مع الجانب الأمريكي وأعطاه الرئيس السوداني الموافقة النهائية، لتبدأ إجراءات رفع العقوبات عن الخرطوم منذ ذلك الوقت.

3. إثيوبيا

كان للإثيوبيين دور كبير في دعم الخرطوم لمواجهة العقوبات الاقتصادية والقرارات الأمريكية؛ لأن إثيوبيا لم تكن تريد حكومة معادية لها أو موالية لمصر تمامًا في السودان، ولذلك سعت لرفع العقوبات حتى لا تنهار حكومة البشير.

4. إسرائيل

كانت إسرائيل تعتبر النظام السوداني نظامًا معاديًا حتى وقت قريب، ولكن منذ قطع علاقة السودان مع إيران وتوقفه عن دعم حركات المقاومة الفلسطينية رأت إسرائيل أن هذا الأمر تغيير كبير، وأنه يجب دعم المعتدلين داخل النظام السوداني، خصوصًا ذلك التيار البرجماتي داخل النظام الذي قيل إنه لا يمانع في إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ويعتبر أن إيران هي العدو الرئيسي.

5. جنوب السودان

ساهمت مأساة جنوب السودان في قيام الولايات المتحدة بعمل مراجعة إستراتيجية لسياساتها في السودان، فالدولة التي صنعت بضغوط أمريكية كانت دولة فاشلة تمامًا، وعاملاً من عوامل عدم الاستقرار. وكذلك تبين للولايات المتحدة أن ما تم ترويجه من أن العرب في السودان يضطهدون الأفارقة ليس دقيقًا تمامًا بتلك الصورة التي تم ترويجها، فقد قص أحد زعماء اللوبيات الأفريقية أنه فوجئ عندما زار الخرطوم أن لونه أكثر بياضًا من لون الرئيس البشير وتبين لهم أن المشكلة الحقيقية ليست عرقية ولا دينية بل هي مشكلة نظام استبدادي يحكم بالقوة في الخرطوم مما يدفع الأطراف للتمرد المسلح.

وهذا ما بدى واضحًا من تجربة الجنوب، التي كررت نفس أخطاء الشمال رغم أنهم أبناء عرق واحد ودين واحد ومنطقة جغرافية واحدة.

6. ليبيا

ساهمت الأزمة الليبية الأخيرة ما بعد سقوط القذافي، وظهور اللواء المتقاعد خليفة حفتر وتنظيم داعش وانهيار جميع مؤسسات الدولة على يد الميليشيات المتحاربة، في خلق حوجة أمريكية لكل دول الجوار بما فيها السودان من أجل حصر الكارثة الليبية داخل حدود ليبيا، وعدم السماح بامتدادها لأي مكان آخر ولدعم عملية سحق تنظيم داعش الإرهابي في ليبيا.

7. الهجرة غير الشرعية

موجة اللاجئين غير الشرعيين التي اجتاحت أوروبا، وتسببت في أن يخر زعماؤها سجدًا لحكام دول جنوب المتوسط من أجل إيقاف هذا الزحف البشري، الذي يهدد مجتمعاتهم. جعلت كذلك النظام السوداني في موقف قوة أمام الأوروبيين؛ ما دفعه للضغط عليهم ليساعدوه في حل مشكلة العقوبات مع الأمريكان حلفائهم ما داموا يرغبون في أن يقوم السودان بمنع لاجئي إثيوبيا و إريتريا من دخول الأراضي الليبية لركوب البحر والهجرة إلى أوروبا.


حصاد العقوبات الأمريكية خلال عشرين عامًا

http://gty.im/148686781

لقد ذاق السودانيون الويلات من العقوبات الأمريكية، فقد جعلت هذه العقوبات الحياة في السودان لا تطاق إذ تسببت في الآتي:

  1. تدمير البنية التحتية للدولة بالكامل، والتي ورثها السودانيون عن الاستعمار البريطاني؛ فسكة حديد السودان خرجت أغلب قطاراتها عن الخدمة، والخطوط الجوية السودانية (سودانير) لم تعد تمتلك سوى طائرة واحدة، بعد أن توقفت طائراتها بسبب منع قطع الغيار من أمريكا، والخطوط البحرية السودانية (سودان لاين) تمت خصخصتها بالكامل وبيعها لمستثمرين؛ لأن الدولة عاجزة عن توفير قطع غيار لها، والموانئ السودانية لم تعد قادرة على استقبال كل أنواع السفن بسبب عدم التطوير.
  2. انهيار كامل في القطاع الصحي، فأكثر الأجهزة الطبية التي تساعد في الكشف عن الأمراض هي أمريكية الصنع أو تدخل فيها قطع غيار أمريكية وبالتالي فهي ممنوعة من القدوم للسودان؛ مما دفع المرضى السودانيين للسفر للخارج للعلاج، وأيضًا حُرم المرضى السودانيون من كثير من الأدوية المهمة أمريكية الصنع. وأما في الجانب الصيدلاني فقد تدمرت الصناعة الدوائية تمامًا بسبب عدم استطاعة المنتجين الوطنيين استيراد المواد الخام من الولايات المتحدة، واضطرارهم لشرائها من دول أخرى بسعر أكبر من السعر الحقيقي لهذه المواد.
  3. وفي القطاع الاقتصادي تسببت هذه العقوبات في أن يعيش السودانيون حياةً شاقة، بغلاء أسعار فاحش، وأن لا يتمتعوا بالتقنيات الحديثة في الشراء عبر «الماستر كارد»، وكذلك تسببت في تخلف قطاع البنوك السوداني مقارنةً بنظرائه من البنوك الأخرى في المنطقة؛ بسبب أن العقوبات استهدفت هذه البنوك في المقام الأول وأرصدتها في الخارج، مما دفع عددًا من التجار لفتح حسابات في خارج السودان في بنوك الدول المجاورة لتمرير معاملتهم المالية.
  4. وفي القطاع التعليمي منعت هذه العقوبات الطلاب السودانيين من الحصول على خدمات (المعونة الأمريكية) التي يتمتع بها نظراؤهم في الدول العربية، وكذلك لم تستطع الجامعات السودانية عمل اتفاقات شراكة مع الجامعات الأمريكية يكون فيه تبادل خبرات وتدريب من أجل تطوير العملية التعليمية في الجامعات السودانية.
  5. في القطاع العسكري تركت القوات المسلحة السودانية السلاح الأمريكي تمامًا واتجهت نحو السلاح الروسي والصيني وانتعشت صناعة الأسلحة في السودان عبر مؤسسة التصنيع الحربي، واستطاعت هذه المؤسسة إحداث اختراقات مذهلة، منها تصنيع مضادات جوية على غرار أسلحة مضادات جوية وقنابل ذكية وأشكال متعددة من الصواريخ، وربما يكون هذا الأمر هو الحسنة الوحيدة لهذه العقوبات لو لم توجه تلك الأسلحة لقمع حركات المعارضة المسلحة.

نظام البشير بعد رفع العقوبات

من الصعب على أي محلل أن يتوقع ما سيحدث في السودان؛ لأن هذا البلد الأفريقي هزم كل محللي السياسة الأفريقية والدولية من كثرة تقلباته اليومية، ولكن أي دولة حدثت فيها عملية رفع للعقوبات حصل فيها طرد طبقة واستبدالها بطبقة أخرى، كما حدث في انفتاح السادات على أمريكا ما بعد حرب 73، وما حدث في انفتاح القذافي على أمريكا ما بعد 2004م.

وينتج عن هذا الانفتاح ظهور طبقة رجال أعمال مرتبطة بالولايات المتحدة تكون حامية لنفوذها في هذا البلد، كما يكون الانفتاح تجاه أمريكا له ناحية إيجابية غالبًا، وهي أن الولايات المتحدة تقوم بتقليم أظافر الديكتاتوريين من أصدقائها عبر منظمات حقوق الإنسان، وهذا ما سيجعل الديكتاتورية أكثر نعومة، وهو ما سيسمح بهامش واسع من الحركة للأحزاب السياسية المعارضة لتعيد تنظيم صفوفها، ولذلك فإن رفع العقوبات الأمريكية يمكن اعتباره خطوة نحو التغيير وإلغاء حجج الديكتاتورية أنها مقاومة وممانعة ومستهدفة من الغرب.

في رأيي أن السودان لو استطاع رفع العقوبات الاقتصادية بشكل كامل وإنهاء حروبه الأهلية، وجذب استثمارات في القطاع الزراعي والحيواني سيتغير نحو الأفضل، وسيصعد في نمو مستمر، وستنتقل إليه استثمارات غربية وعربية كانت موجهة لدول أفريقية أخرى، مثل إثيوبيا (نمر أفريقيا الصاعد)، خصوصًا أن له أفضلية وجود موانئ بحرية.