منذ سقط نظام عمر البشير عام 2019 والصراع دائر بين عبدالفتاح البرهان، بصفته قائد الجيش، وحميدتي دقلو، قائد قوات الدعم السريع. حتى في الفترة التي كان الصراع فيها سياسيًا فحسب، فإن المجتمع الدولي منذ الأيام الأولى يدرك أن الرجلين يتصارعان على السلطة. لهذا بدأ كل واحد منهما في بناء شبكة علاقات دولية، وتحالفات إقليمية، لضمان الاستمرار في منصبه، والأهم الحصول على الدعم الكافي للإطاحة بالآخر إذا سنحت الفرصة.

الصراع المسلح الدائر حاليًا يصفه المراقبون بأنه الصراع الذي لم يشهد له السودان مثيلًا من قبل. فالصراع بين كيانين في غاية القوة، وكلاهما يمتلك دعمًا دوليًا يمده بالعتاد، والأهم أن كل طرف منهما يعلم أن تلك المعركة معركة وجودية، فالهزيمة فيها تعني الإعدام أو الخروج من المشهد للأبد.

رغم أن السودان عاش عقودًا طويلة من الاضطرابات والانقلابات المسلحة. لكن رغم قسوة هذا الصراع، وآثاره المأساوية على المدنيين في السودان، فإن الاتصالات الدولية والمناشدات العلنية، تركز في نقطة واحدة تقريبًا، السيطرة على ألا يخرج النزاع من الحدود السودانية، وألا يكون له تداعيات خارج السودان نفسه.

هذه المخاوف الدولية لا تأتي من فراغ. فالظرف الراهن استثنائي للجميع. لأن العديد من الدول، حتى البعيدة جغرافيًا عن السودان، تبحث لها عن موطئ قدم في هذا السودان الجديد. بالتالي قد يكون استمرار الصراع وإطالة أمده من مصلحة الدول التي تريد لرجلها، البرهان أو حميدتي، الانتصار مهما كلف الأمر.

المخيف أن تأثير النزاع قد يمتد لدول الجوار القريب، في منطقة القرن الإفريقي، ومنطقة الشمال الإفريقي، التي تعيش في الأصل حروبها وأزماتها الخاصة. فأيًا يكن ما يحدث في الخرطوم فإن صداه يتردد في الدول الأفريقية الأكثر هشاشة. خصوصًا أن للسودان حدودًا مع سبع دول، تعيش جميعًا تحديات أمنية متشابكة.

الأزمة ستعبر الحدود

ما يحدث في الخرطوم ثم دارفور بالتأكيد سيعبر الحدود إلى تشاد. تشاد مثلًا تخشى من تفاقم الصراع لأنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى إشعال منطقة دارفور. التي تعتبر في الأصل منطقة نفوذ للدعم السريع، وينحدر عدد كبير من جنوده منها. وإذا سيطر عليها حميدتي، بالانفصال أو القوى العسكرية، فإن تشاد ستكون في مرمى نواياه التوسعيّة.

لهذا بادرت تشاد بإغلاق حدودها مع السودان، ألف كيلو متر من الحدود، حتى إشعار آخر. لأنه في المعتاد تتسرب الأسلحة من وإلى دولة تشاد، المهيأة للانقلابات. خصوصًا مع تواتر الأنباء عن وجود مجموعة فاجنر الروسية في السودان ودعمها لقوات الدعم السريع. فيمكن لفاجنر، الموجودة في تشاد أيضًا، أن تستغل هذا الانفلات وتدعم المتمردين التشاديين الذين يهددون حكومة نجامينا.

إثيوبيا هي الأخرى قد تتأثر بهذه الحرب. فقد كانت حرب إقليم تيجراي في شمال إثيوبيا سببًا في نزوح الآلاف إلى الحدود السودانية الإثيوبية. لكن بسبب الصراع السوداني قد تشهد إثيوبيا موجة ضخمة من النزوح المضاد، بجانب عودة نازحيها الأصليين. كما أن الحدود السودانية كانت الملاذ الآمن للعديدين من الراغبين في الحصول على مساعدات إنسانية، واشتعالها يعني تضاعف المأساة الإنسانية على نازحي الحرب الإثيوبية.

لكن على الجانب الآخر فإثيوبيا قد تستغل هذه الأزمة لتسبب القلق للجانب المصري بسبب غياب ضغط السودان على إثيوبيا في ما يتعلق بسد النهضة. كما أن أي توتر في علاقة مصر والسودان قد يُعرق جهودهما المشتركة للتوصل لاتفاق بخصوص السد.

جنوب السودان سيعاني كذلك. فالأزمة الحالية قد تؤدي لتوقف ضخ النفط من الجنوب. ما سيخلق بدوره أزمة مالية حادة في البلد المأزوم أصلًا. وسيرضخ على إثرها تحت أزمة كبرى تهدد الأمن الغذائي للدولة الوليدة. خصوصًا أن جيرانها كإريتريا وأفريقيا الوسطى والصومال، يعيشون بالفعل أزمة غذائية طاحنة. وتعتمد صادرات الجنوب من النفط البالغة 170 ألف برميل يوميًا على أنابيب تمر عبر السودان. بالتأكيد ليس من مصلحة طرفيّ النزاع إعاقة تدفق النفط، لكن رغمًا عنهم قد يعيق إطلاق النار الطرق والروابط اللوجيستية.

الصراع يلد صراعات أكثر دموية

كما أن تشاد وإريتريا دولتان قاريّتان، لا حدود بحرية لهما، ويعتمدان بشكل أساسي على الموانئ السودانية. وأي اختلال في أمن السودان سيؤثر على الطرق الحيوية للدولتين. وسيعانون أيضًا من أعداد اللاجئين. تشاد تستضيف أكثر من 400 ألف لاجئ سوداني من النزاعات السابقة، وبمجرد بدأ الصراع الحالي شهدت تشاد توافد أكثر من 20 ألف لاجئ سوداني. على ذكر اللاجيئن، فالسودان يستضيف أكثر من 800 ألف لاجئ فرّوا من الصراع الدائر في جنوب السودان، فالنزوح العكسي قد يضغط على البلد الهش أصلًا.

إريتريا لا تبدو محايدة في الأزمة، رغم بعدها المُعلن عن دعم أي طرف. فقد شهدت زيارة غير معلنة لحميدتي في الآونة الأخيرة. خصوصًا أن إريتريا هي من قدمت دعمًا ثمينًا لآبي أحمد في سحق تمرد التيجراي. لهذا فقد باتت فاعلًا بارزًا في القارة الأفريقية. ووجودها مع إثيوبيا في خانة واحدة، ووجود آبي أحمد في صف حميدتي، كونهم جميعًا يميلون للجانب الإماراتي والروسي في التحالفات، قد يعني أنهما قد يبذلا كامل جهدهما وعتادهما دعمًا لفوز حميدتي.

المأساة أن صراع السودان الجاري سيؤدي إلى صياغة عقد اجتماعي جديد تزداد في النزاعات الإثنية. فالمعتاد في الحالات المشابهة أن تتأثر الدول المجاورة بأي دولة ينشب فيها صراع داخلي كالذي يحدث في السودان حاليًا. القبائل ذات الأصول الأفريقية في غرب السودان تلتحم مع القبائل المشابهة لها في دول الجوار، مستغلةً الضعف الأمني. كذلك ستفعل القبائل الموجودة في شرق السودان، والتي تميل لأقرانها من القبائل الإثيوبية. لهذا فالصراع الموجود في منطقة مثل الفشقة وحدها يمكنه أن يلد مجتمعًا جديدًا بالكامل يفرض بدوره واقعًا جديدًا على المنطقة بأسرها.

فحين انبثقت الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق، وُلدت حركات مشابهة لها في شمال أوغندا وإريتريا وإثيوبيا وتشاد، حتى إن الأمر وصل إلى ليبيا، حيث انتقل إلى تلك الدول عدد من الأفراد الذين وجدوا أرضية خصبة لنمو مثل تلك الحركات الانفصالية والمتمردة.

لهذا فالمخاوف من اللاجئين والضغط السكانيّ ليسوا هم أعظم المخاوف الدولية من الأزمة. لذلك نجد استعدادات عسكرية وحشد للقوات في الدول المجاورة للسودان. خصوصًا في القواعد الأمريكية التي تتوزع في القارة الأفريقية، ومركزها في القرن الأفريقي في جيبوتي. كما تأهبت القوات الفرنسية الموجودة في تشاد، إضافة لقواتها في جيبوتي. أما روسيا فوضعت قواتها في حالة تأهب في مختلف الدول التي تتواجد فيها، مثل تشاد وليبيا وجنوب أفريقيا وإفريقيا الوسطى والسودان نفسه.

أمريكا ترى السيناريو الأسوأ

وإطالة أمد الصراع قد يدفع أي دولة من الدول ذات القواعد العسكرية، أو حتى دول الجوار المتصارعة، من التدخل لإنقاذ حليفها مقابل مكاسب لاحقة. لهذا صرّح المسئولون الأمريكيون أن بلادهم تستعد لإرسالة عدد كبير من الجنود ضمن خطة لإرسال قوات إضافية إلى القاعدة الأمريكية في جيبوتي.

كما أكد البنتاجون نشر قدرات عسكرية إضافية في مكان قريب من السودان، دون تسميّته، لأغراض وصفها البنتاجون بالطارئة. ومؤكدًا أن تلك القدرات العسكرية سوف تُستخدم لتسهيل إجلاء وحماية الأمريكيين في السودان إذا اقتضى الأمر. اللافت أن تلك القدرات المُشار إليها بلغت 19 طائرة سي 17 جلوب ماستر. تلك الطائرات تعمل بشكل أساسي في عمليات الإنزال خلف خطوط العدو، والاستطلاع ومهام القوات الخاصة.

الطائرة الواحدة تستطيع حمل قرابة 850 فردًا في عمليات الإجلاء. وكون تصريحات الخارجية الأمريكية تتحدث عن الإجلاء قاصر على طاقم السفارة ومجموعة من الموظفين، دون الحديث عن إجلاء كامل للرعايا. وبعض تلك الطائرات رصدت مواقع الطيران حركتها ذهابًا وإيابًا، فالأمر أقرب ما يكون لجسر جوي مستمر. كما أن الإدارة الأمريكية قالت إن الرعايا الذين سيتم إجلاؤهم سيكون الإجلاء بحرًا، ووجهت قطع البحرية القريبة من السودان بالتوجه لإجلائهم.

ما يعني أن الإدارة الأمريكية تخطط لشيء يتجاوز مجرد إخلاء الرعايا. وأن هناك إعادة انتشار كبرى تحدث في جيبوتي تحديدًا، وفي الدول الأخرى القريبة من السودان، التي تضم قواعد عسكرية أمريكية.

كعب أخيل أم إزميل فيدياس؟

على صعيد آخر فإن كوريا الجنوبية لها 26 فردًا في السودان، لكنها طلبت الإذن بإرسال طائرات نقل عسكرية وقوات إضافية في القاعدة الأمريكية في جيبوتي لتكون عونًا للقوات الأمريكية حال لزم الأمر. كذلك وصلت عدة طائرات يابانية من طراز سي 130، هي طائرات نقل عسكري بالأساس، إلى جيبوتي لتتدخل حال عُرقل إجلاء 63 مواطنًا يابانيًا.

تلك القوات التي تربض حول السودان، قد لا تجيد ضبط النفس حين ترى مجموعة فاجنر والأيادي الروسية تُحكم قبضتها على السودان أكثر، بتطوير وتكثيف اتصالاتها وعلاقاتها مع حميدتي والدعم السريع. لكن من الواجب القول إن تدخل تلك القوى الأجنبية لن يكون رد فعل فحسب، بل هو بالأساس فعل، وقد يكون هو الفعل الأبرز الذي أشعل تلك الحرب ابتداءً.

فالتصعيد الذي يشهده السودان حاليًا هو محصلة لتدخلات إقليمية ودولية همّشت بكل وضوح مكوّنات الجانب السوداني القادرة على إدارة أزمات بلادها. وإذا استمرت القوى الداعمة أو المحايدة في الدفع نحو سيناريو إطالة أمد الأزمة فسيكون الضرر بالغًا على الجميع، دول الجوار والدول الموجودة حول البحر الأحمر، ربما كذلك ستتجاوز الآثار الناتجة عن الأزمة السودانية تلك الآثار المدمرة التي نشبت في المنطقة جراء الأزمة الليبية.

فقد يصبح السودان هو كعب أخيل، الذي ستودي إصابته بحياة الجسد الأفريقي الهزيل أساسًا. بعد أن فقد احتمالية أن يحكمه رجل يملك إزميل فيدياس، فينحت له تمثالًا جديدًا يليق بمكانته وثرواته. ويكون هذا الفدياس هو القائد الذي يهزم المتحكمين في السلطة، ويظهر قوة الفلاحين والمواطنين المدنيين للسلطات، فيُنشئ ديمقراطية جديدة يُعبر من خلالها السودانيون عن تطلعاتهم.